جيل الثمانينيات يتذكّر وليم هرت الذي توفي أمس قبل أسبوع فقط من ذكرى ميلاده الـ72 جراء إصابته بسرطان البروستات، على الأقل في فيلمين كانا بالنسبة له تأشيرة عبور إلى قلوب ملايين المشاهدين حول العالم وهما "قبلة المرأة العنكبوت" و"أبناء الصمت" اللذان صاغا ذائقة رواد الصالات المظلمة في زمن انتشار شرائط الفيديو، أي الفترة التي تألق فيها هذا الممثّل الأشقر الجذاب. طبع هرت هوليوود بوسامته وموهبته وأدائه اللافت، آتياً إليها بسحر خاص ورجولة طاغية كانت بدأت تصبح نادرة في هاتيتلكك الفترة. قدّره أقرانه لدرجة أن عاصمة السينما الأميركية رشّحته للـ"أوسكار" أربع مرات (المرات الثلاث الأولى كانت متتالية) فاز بواحدة منها. لكن، حتى في هذا الفوز والتكريس، كان للممثّل رأيٌ آخر، إذ قال في مقابلة مع "تلغراف" في العام 2004: "الـ"أوسكار" عزلتني وهي كانت نقيض كل ما تمنيته في حياتي. لم أكن أرغب بيافطة تعلّق عليّ وتقول: هذا الرجل فاز بـ"الأوسكار". وددتُ ان أكون ممثّلاً، لذلك هذه الجائزة أزعجتني جداً. وإلى الآن ما زلتُ مزعوجاً".
وليم هرت من مواليد واشنطن، كانت والدته كلير إيزابيل تعمل في شركة "تايم" فيما والده ألفرد يشتغل موظفاً حكومياً. بعد طلاق والديه وهو في السادسة، انتقل الصبي الصغير للعيش مع والده في مدن مثل لاهور ومقديشو والخرطوم. بعدما تزوجت والدته من هنري لوس الثالث، وهو ابن الناشر هنري لوس، التحق بمدرسة ميدلسكس، حيث شغل منصب نائب رئيس نادي التمثيل المسرحي، وهنا بدأ اهتمامه بالمسرح، فأسند أدواراً رئيسية في العديد من المسرحيات التي كانت تُقام داخل جدران المدرسة حيث شعر المسؤولون عنه أنهم في حضور أحد كبار التشخيص، وقد تنبأ أحدهم عندما دوّن في كتابه السنوي: "قد ترونه أيضاً في برودواي». مع ذلك، لم يلقِ هرت بنفسه على التمثيل مباشرةً، بل كانت له محطة مع الدين، إذ التحق بجامعة تافتس حيث درس اللاهوت، لكن سرعان ما انتقل إلى دراسة التمثيل في مدرسة جوليارد (قسم الدراما). وكان الراحلان كريستوفر ريف وروبن وليامز رفيقَين له في الصفّ.
من المسرح إلى السينما
بدأ هرت حياته الفنية على خشبة المسرح قبل التوجه إلى الشاشة ذات الانتشار الأوسع. فاز بالعديد من الجوائز في عمر باكر، وجسّد دور هاملت في مسرحية من إخراج مارشال مايسون. بعد انطلاقه في فيلم "ألتيريد ستايتس" للبريطاني كن راسل (فيلم رعب لعب فيه دور عالم مهووس)، توجّه هرت إلى شخصيات تتسم بالغرابة وتبتعد كثيراً عن النماذج التقليدية التي نعثر عليها بكثرة في المجتمع. من هذه الشخصيات غير المألوفة: عسكري روسي في "غوركي بارك" لمايكل أبتد (1983)، الفيلم الذي جمعه بلي مارفن؛ الزوج الغني في "أليس" لوودي آلن (1990) وهو إعادة آلية لـ"جولييت الأرواح" لفيلليني، فرجل يخطط لبناء آلة تساعد المصابين بالعمى في "حتى نهاية العالم" لفيم فندرز (1991).
طوال أكثر من أربعة عقود، وقف هرت أمام قامات إخراجية ذات قيمة: بيتر ياتس، لورانس كاسدان، هكتور بابنكو، مايكل أبتد، جيمس ل. بروكس، وودي آلن، فيم فندرز، فرنكو زيفيريللي، إيشفان تسابو، ستيفن سبيلبرغ، شانتال أكيرمان، ديفيد كروننبرغ، ريدلي سكوت وغيرهم كثر، ضمن فيلموغرافيا تنطوي على 72 فيلماً، أي بعدد السنوات التي عاشها. فيلموغرافيا غنية، متشعبة، على قدر من التنوع على مستوى الخيارات والاتجاهات. إلا أن تعاونه مع المخرج لورانس كاسدان ترك أثراً كبيراً. تعاون الرجلان في أربعة أفلام: "حرارة جسد" (1981)، الذي جاء كمقدمة للثمانينيات التي شهدت العديد من الأعمال ذات الانفتاح على الجنس في هوليوود، وجعل من كاثلين ترنر، شريكة هرت في الفيلم، رمزاً جنسياً. باكورة كاسدان مستوحاة من العمل الكلاسيكي "تعويض مزدوج" لبيلي وايلدر، فتحوّل إلى ثريللر إيروتيكي لعب فيه هرت دور محامي يقع في غرام سيدة متزوجة (ترنر) من رجل ثري، فيخططا معاً لقتله. اعتُبر الفيلم يومذاك، تحية للسينما النوار الأميركية العريقة، خصوصاً لناحية تواجد أمرأة لعوب فيه.
ثاني أفلام هرت/ كاسدان كان "دا بيغ تشيل" (1983) لم يلعب فيه هرت الدور الرئيسي، خلافاً للفيلم التالي "سياح بالصدفة" (1988) الذي جمع مجدداً هرت بكاثلين ترنر، في دراما رومنسية عن كاتب أربعيني تنقلب حياته رأساً على عقب بعد موت ابنه المراهق. الفيلم حقق نجاحاً نقدياً وجماهيرياً في آن معاً. "أحبك حتى الموت" رابع أفلام شراكة كاسدان/ هرت، ويعود فيه الممثّل الأشقر إلى الدور غير الرئيسي ضمن مجموعة من الممثّلين يتقدّمهم كافن كلاين. الفليم حكاية زير نساء (كلاين) تقرر زوجته قتله، لكن يبدو أن الرجل غير قابل للهدم.
"قبلة المرأة العنكبوت"
إلا أن الفيلم الذي صنع شهرته وكرسّه نهائياً هو "قبلة المرأة العنكبوت" (1985) للمخرج البرازيلي الأرجنتيني هكتور بابنكو حيث اضطلع بشخصية مثلي يزج في السجن وعليه أن يتشارك الزنزانة مع معتقل سياسي. الفيلم إنتاج برازيلي أميركي وقد عُرض في مهرجان كانّ السينمائي، ونال عنه هرت جائزة الـ"أوسكار" والـ"بافتا" وجائزة التمثيل في المهرجان الفرنسي، بعدما فاز بمديح كبير في الصحافة السينمائية. تدور الأحداث في وحدة مكانية: زنزانة سجن في البرازيل زمن الديكتاتورية. رجلان يختلف أحدهما عن الآخر في كل شيء، يواجهان بعضهما البعض بشكل مريب. فالنتين (الراحل رول خوليا)، هو الثوري الذي يتحدر من الطبقة الوسطى، وقد سُجن وعُذِّب بسبب اقتناعاته السياسية. أما مولينا المثلي (هرت)، فهو من بيئة فقيرة حوكم بتهمة استدراج القاصرين إلى ممارسات جنسية. صداقة غير متوقعة تُنسج تدريجاً بين الرجلين. الناقد الأميركي الكبير روجر إيبرت أعطى الفيلم وقتها ثلاث نجوم وأشاد بأداء هرت وخوليا.
فيلم آخر كان له شأن كبير في صعود نجم هرت: "أبناء الصمت" لرندا هاينز في أول تجربة سينمائية لها (اعتمدنا الترجمة الفرنسية لعنوان الفيلم) نالت عنها "دبّاً فضياً خاصاً" في مهرجان برلين السينمائي. دراما مقتبسة من مسرحية سحقت القلوب ونالت استحساناً شعبياً كبيراً عند عرضها في عام 1986، وفازت الممثّلة مارلي ماتلن عن الفيلم "أوسكار" أفضل ممثّلة من أصل خمس جوائز كان رُشِّح لها العمل، من بينها ترشيح هرت لأفضل ممثّل. الفيلم عن العلاقة التي تنشأ بين موظفين يعملان في مدرسة للصم والبكم، هي صماء وهو أستاذ دراسة لغة الإشارة. اختلافهما في النظر إلى الأشياء سيخلق توتراً في علاقتهما الرومانسية. اللافت أن علاقة حقيقية خارج الشاشة ربطت الممثلان دامت سنتين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالث فيلم ترشّح عنه هرت للـ"أوسكار" وقع في النسيان اليوم، ولكنه كان ذو شأن في سيرة هرت: "برودكاست نيوز" لجيمس ل. بروكس (1987)، وهو عن مثلث غرامي ينشأ بين ثلاثة زملاء (منتجة ومراسل ومقدّم نشرة أخبار) يجمعهم العمل في محطة تلفزيونية واحدة. صحيح أن هرت بلغ ذروة حياته السينمائية في الثمانينيات، ولم يستعد تلك المكانة لاحقاً، إلا أنه ظل يمثّل حتى اللحظة الأخيرة من حياته. لم يُستبعَد تحت أي ذريعة كانت، بل حافظ على إيقاع عمل معين. ما اختلف فقط هو انقراض نوعية أفلام كانت سائدة في الثمانينيات واستُبدلت بأفلام أبطال "مارفل" التي لم يتأخر هرت عن المشاركة فيها، على رغم أنه شارك بين الحين والآخر في أفلام مهمة مثل "تاريخ العنف" لديفيد كروننبرغ الذي رشّحه لرابع "أوسكار" في حياته. أعلن مراراً أنه لا يحب هوليوود ولا يتمنى نمط الحياة التي يعيشها النجوم. صرّح في إحدى المرات: "لا أرتاح لفكرة المشي على السجّادة الحمراء لأرى كل النساء بصدورهن العارمة والرجال الذين يشبهون طيور البطريق.
هذا لم يمنع من أن حياته العاطفية كانت أقرب إلى فيلم هوليوودي، فهو كان تزوج في بداياته بالممثّلة الصاعدة ماري بيث سوبينغر التي تكبره بثلاث سنوات، وطاردها إلى لندن ليرتبط بها، لكنهما تطلقا فور عودتهما إلى نيويورك. في المحصلة ترك هرت خلفه أربعة أولاد، من ثلاث نساء احتللن مكاناً بارزاً في حياته العاطفية: طفل من علاقة براقصة الباليه ساندرا جنينغز، وطفلان من زواج بهايدي هاندرسون، ثم أخيراً ابنة من علاقة بالممثّلة الفرنسية ساندرين بونير التي التقاها خلال تصوير "الطاعون" للويس بوينزو المقتبس عن رواية كامو الشهيرة، في عام 1992.