شغلت الأزمة السياسية التي يعيشها السودان حالياً المجتمع السوداني أمداً طويلاً من دون أن تلوح في الأفق حلول تؤدي إلى إنهائها، وإن كانت ليست الأولى في تاريخ هذا البلد قديماً وحديثاً، لكن كثيرين يتساءلون عن أثر الثقافة والفنون في الراهن السياسي من ناحية دورهما في تشكيل الوعي الثقافي وسط المجتمع، بخاصة فئة الشباب.
جراهام عبد القادر والديمقراطية
يرسم وزير الثقافة والإعلام المكلف في السودان جراهام عبد القادر صورة زاهية لأثر الثقافة في الواقع السوداني، قائلاً إن "كل الأنهار الصغيرة تندفع نحو نهر النيل بإرادتها، ويسعدُ النيل بالثراء والتنوع. هكذا يتمرأى الأرخبيل الثقافي السوداني، وأعتقد أن الفعل الثقافي أكثر نفوذاً وسطوة، فعندما يصدح المغني ينفض الناس حول السياسي إلى ديمقراطية الإيقاع، حيث الفكر الذي يفكر، ويتساوى الجميع في الممارسة والتعبير، فالثقافة هي التي تشكل وجدان الناس ونظرتهم للكون، وترفض خطاب الكراهية، وهي ركن جوهري لاحتواء الأزمات، لأنها تتضمن قيم التصالح والتعبير عن المشتركات الثقافية، وعبرها يكتشف الناس بعضهم بعضاً، فالسودانيون في موروثاتهم يعتزون بالتسامح والشجاعة والكرم، ونجد أن الفنون كافة تعبر عن هذة القيم، وكلما اتسعت مساحات الفعل الثقافي الإبداعي ارتفع الوعي وضاقت حلقات التشاكس والتعارك وارتفع الوطن. وفي اعتقادي أن شركاء الإبداع في السودان عادة ما يتجاوزون السياسي، ويحظى خطابهم بالرضا لأنهم يخاطبون الوجدان الجمعي بالأدوات واللغة التي يتوافق معها الشعب، فالأمم تتقدم وتزدهر وتزيد إنتاجها بفضل اتساع منابر وأدوات التعبير الثقافي".
ويرى أن المبدعين عادة لا يسلكون الدروب التي يسلكها الآخرون لمخاطبة القضايا السياسية والاجتماعية، فالمسرحية ليست خطاباً سياسياً بالضرورة، وكذلك أدوات التعبير الأخرى، والجماعات الثقافية في المجتمع المدني تنتج الأعمال الفنية للجمهور، وربما لم تجد هذه الأعمال خلال الفترات الماضية المنابر المناسبة للعرض، نظراً إلى ظروف وباء كورونا وما تعيشه البلاد من ظروف اقتصادية متردية، لكن على الرغم من ذلك يظل المثقف الأكثر اجتهاداً وحرصاً على تقديم الحلول والبدائل ومحاورة الشباب، وتظل قضية وحدة الخطاب الثقافي أمراً مرغوباً لتعزيز الوحدة الوطنية.
حضور الفنون في الثورات
وفي نظر جراهام عبدالقادر أن الثقافة والفنون لعبت دوراً مؤثراً في ثورة ديسمبر (كانون الأول)، كما في كل الثورات السابقة، بحيث كانت فنون الأداء أكثر حضوراً في هذه الثورة مثل الشعر والتشكيل والغناء، واستفاد الشباب من الأجهزة الإلكترونية لتوثيق الأنشطة وإخراج أعمال تؤرخ لمرحلة جديدة تعبر عن رؤية هؤلاء الشباب في التعبير وقراءة المستقبل والانتقال الديمقراطي، فقد تم إنتاج كتيبات تتضمن الأعمال التشكيلية التي أبدعها العديد من المبدعين، كما ظهرت أغنيات وأشعار وطرق أداء وأفلام وقصص ومسرحيات وغيرها، ويعتقد أن كافة عناصر الفنون تم استخدامها ويمكن استثمار قدرات هؤلاء الشباب في بناء وطن المستقبل.
لكن كيف ينظر إلى تقدير السياسيين السودانيين لدور الثقافة يجيب، "الثقافة إنتاج المجتمع وهي أبرز عناصر القوة للدولة. وعلى الرغم من جهود بعض القيادات السياسية الثقافية منذ استقلال السودان لبناء مؤسسات التعبير الثقافي، إلا أن الأمر ظل محدوداً بخاصة في مجالات البنية التحتية للمنابر الثقافية، لذلك لم تتسع آليات إدارة التنوع لبناء الرضى الثقافي، مما أدى وضمن أسباب أخرى إلى بروز الرفض وحمل السلاح والمناداة بالأصوات المتساوية. وبلا شك في أن الثقافة السودانية عبارة عن ألوان قوس قزح، تعبر عن وجدان التنوع المؤمن بالمنبت المشترك".
وبما أن السودان مر بأزمات سياسية عدة في الماضي والحاضر، فكانت الثقافة، بحسب وزير الثقافة والإعلام المكلف، أحد الأضلع الرئيسة في الحلول والمعالجات وتهدئة الأوضاع، انطلاقاً من أن الإنسان ابن عصره وبيئته، فمنذ العام 1821 تأثرت الثقافة والفنون الوطنية بتحولات الحياة وأزماتها، وتم توثيق ذلك بالشعر والرواية الشفهية والمسرح والرواية المكتوبة والغناء وغيرها، وأسهمت جميعها في حركات التحرر ونيل الاستقلال، في حين أن الحكومات الوطنية ظلت تتأرجح بين الحكم المدني والعسكري، وانعكس ذلك على الفعل الثقافي من حيث مسار البنيات التحتية وبروز الهتاف السياسي أحياناً ضمن متون فنون الأداء، وعلى كل فإن الأزمات الحادة تعصف بالصنائع الجماهيرية".
ويخلص إلى القول إنه "ربما درجت الجماعات الأيديولوجية على رسم مسار ثقافي للمجتمع، لكن تظل الثقافة متحررة من قيد السياسي، بيد أن استقرار الحياة السياسية يقوم على توازن عناصر قوة الدولة بجوانبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعسكرية والمعرفية، ونجد أن الثقافة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بكل هذه الجوانب. ومن المؤكد أن جميع شركاء الإنتاج والفعل الثقافي يرغبون في جعل الثقافة من أولويات الدولة لبناء دولة الحاضر والمستقبل".
الشاعر صديق المجتبى
وفي رأي الشاعر السوداني صديق المجتبى أنه "لايمكن تحديد دور للثقافة والفنون في حل الأزمات السياسية كما يفعل خبراء إدارة الأزمات لأسباب عدة، منها أن عملية التدخل في حل أي أزمة لن يتحقق بعد وقوع الأزمة في الراهن المأزوم، لأن فعلها في الإصلاح والتغيير يحتاج إلى وقت إذا افترضنا أننا نريد أن نوظف الثقافة لتحقيق هدف الإصلاح والتنمية الثقافية والفكرية لأطراف الأزمة، كما أن الثقافة عمل مستقبلي يجب توظيفه في الخطة الاستراتيجية الكلية للدولة للحيلولة دون وقوع الأزمات، إذ إن غياب العامل الثقافي في التخطيط الاستراتيجي للدولة، والذي غالباً ما يقوم به السياسيون يتسبب في كثير من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأهمها توظيف العامل الثقافي في إدارة التنوع الثقافي الذي إذا لم نحسن إدارته أو إذا اعتمدنا فقط على الإدارة السياسية والأمنية، فإن التنوع سيؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وضعف الانتماء القومي وظهور العصبيات القبلية والإثنية والجهوية. وفي الجانب الآخر تضمحل ثقافة السلام وتتوقف التنمية إذا لم تستصحب معها حزمة سياسات ثقافية لمعالجة كل الأزمات المتوقعة في أي مجال، وأهمها المجالان السياسي والاقتصادي، فضلاً عن أن السياسيين غير مهتمين بالثقافة وغير مستشعرين لدورها في الحياة، ولا توجد في خططهم ومشاريعهم إن كانت لهم مشاريع، فإن كان لها دور فينحصر في الدعاية والتعبئة السياسية".
ويعتقد أن الأيديولوجيا أو العقيدة الفكرية والانتماءات الحزبية هي التي تحرك المثقفين في تعاطيهم مع القضايا السياسية والاجتماعية في البلاد، فهم إما منخرطون أو منغمسون في العمل الحزبي أو معارضون للنظم السياسية، أما منظمات المجتمع المدني الثقافية فلا تجد السند من الدولة كما ينبغي، ولذلك تلعب دوراً محدوداً، لكن بشكل عام ومختصر فإن الثقافة ومؤسساتها في الدولة والمجتمع غير مؤهلة لحلحلة الأزمات السياسية، لأنها هي نفسها ضحية تلك الأزمات".
ثورة بلا مشروع
ويشرح المجتبى دور الثقافة والفنون في ثورة ديسمبر بالقول، "كانت ديسمبر ثورة مطلبية ولم يسبقها حراك فكري وثقافي مثل الثورات العالمية الكبرى، فهي كانت موجهة ضد النظام السياسي الحاكم (تسقط بس) ولم يكن لديها مشروع، لكن مفهوم التغيير في هذه الثورة كان سياسياً بالدرجة أولى، وإن كان هناك مشروع للتغيير الثقافي والاجتماعي تقوده نخب ذات توجهات موالية لمشروع أجنبي، فهو لا علاقة له بالثقافة السودانية في مجالات التعليم والثقافة والدين، والتعليم أدى إلى ظهور تيار ثقافي سوداني محافظ مضاد لتيار ثورة ديسمبر المختلفة من قبل التيارات اليسارية والعلمانية، كما أن ظهور التيارات الثقافية والظواهر الاجتماعية والأخلاقية واستفزاز المجتمع السوداني في عقيدته وهويته، أسهم في تنبيه الوعي بالذات وضرورة الدفاع عن ثوابتها الأخلاقية، فأفرزت مضاداتها لمواجهة الأجسام الغريبة في جسد الأمة السودانية".
وأضاف، "بلا شك تأثرت الثقافة والفنون بالأزمات السياسية التي تعرضت لها البلاد قديماً وحديثاً، فبعد ثورة ديسمبر توقفت كل الأنشطة الثقافية الرسمية والشعبية وتعطلت المؤسسات التعليمية لانشغالها بالحراك السياسي والتظاهرات التي تقف وراءها أحزاب لها مصلحة في ذلك، من ناحية أنها تخدم أجندتها السياسية، ثم إن حال الفقر والغلاء وتفشي وباء كورونا وحل كل المنظمات الثقافية أدى إلى هذا الركود الثقافي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد الشاعر صديق المجتبى أن بإمكان السياسة تشكيل الوعي الثقافي للمجتمع عموماً ولشريحة الشباب على وجه الخصوص، بخاصة إذا امتلكت الرؤية والغاية والرسالة الموجهة نحو الهدف، وفوق ذلك الحرية والمؤسسة والتمويل، وكذلك أن معظم النخب الثقافية مدركة لدور الثقافة والفنون المؤثر في استقرار الحياة السياسية بشكل عام، ولكنها لا تملك الإرادة والتمويل، فمعظم النشاط الذي تقوم به بعض المنظمات الثقافية تموله جهات أجنبية وتحركه في اتجاه أجندتها، لذلك لا بد من تصميم خطة ثقافية وطنية شاملة تستوعب كل قضايا المجتمع والدولة، وأن تكون مشاريعها وبرامجها مصممة بحيث تغطي كل السودان بتنوعه الثقافي وأن يشارك فيها الجميع.
الناقد مجذوب عيدروس
الكاتب والناقد السوداني مجذوب عيدروس يرى أن "المثقفين السودانيين ظلوا دائماً في طليعة الحراك الشعبي ضد الأنظمة الشمولية التي ابتلي بها السودان لأكثر من نصف قرن، فمنذ الأول من يناير (كانون الثاني) 1956 حكم العسكر 56 سنة، وحكم المدنيون 10 سنوات مجزأة على ثلاث فترات أطولها من منتصف 1965 إلى مايو (أيار) 1969، فإن كان هناك فشل وانهيار وفساد في جهاز الدولة فيعود ذلك للعسكر في غياب الرقابة الشعبية والقمع وتكميم الأفواه، وقد ثار الشعب عليهم وأزاحهم عن السلطة، وبعد أن خلفوا أسوأ سجل لانتهاكات حقوق الإنسان وارتكبت الأجهزة جرائم بشعة من إبادة جماعية وحرق قرى وتعذيب معتقلين حتى الموت، وحتى اختفاء مواطنين منهم الشاعر أبو ذر الغفاري. والمؤسف إفلات المجرمين من العقاب حتى بعد إدانتهم والتلكؤ في التنفيذ بعد صدور الأحكام بحجة عدم اكتمال الأجهزة العدلية، ونحن الآن في ردة كاملة لاعادة الحصانة للقوى الأمنية وإطلاق يدها في القتل والاعتقال، وهذا لم يعصم سابقيهم من السقوط السياسي والأخلاقي".
شعارات زائفة
واستطرد عيدروس في حديثه عن تفاعل المثقف السوداني مع قضايا بلاده السياسية بقوله، "المثقفون من خلال إبداعهم ومواقفهم حاولوا أن يقولوا كلمة الحق في وجه الطغيان الذي يتدثر مرة بشعارات اشتراكية زائفة، أو يتخفى خلف لافتات دينية براقة أو أي أوهام للإصلاح، وفي كل الحالات ظل المثقفون حاضرين في كل الملاحم البطولية، وصحيح أنه كان هناك قلة أدمنت التطبيل لكل ديكتاتور، ولكن هؤلاء لا يقارنون بالقابضين على الجمر، فكان الشعر الثوري حاضراً على منصات الوطن بفصحاه وعاميته، وكانت أناشيد أو أهازيج الثورة تصدح في مسيرات الشباب الباسلة، وكانت اللوحات والجداريات التي عمت أرجاء الوطن واستدعاء تراث المقاومة السودانية، وكان ميدان الاعتصام معرضاً وشاهداً على لقاء الفن والثورة في ميدان كان كل من ارتاده مشروع شهيد، وكان الغدر والخيانة يتوقعهما كل ذي بصيرة، ولكن الشعب في صموده البطولي والأسطوري تحفزه روح الإبداع الكامنة فيه قد صمم أن يخوض معركته هذه المرة حتى النهاية الظافرة".
ولفت إلى أن "غالبية المثقفين في تجمعاتهم المهنية والنقابية أو في لجان المقاومة أو في تنظيماتهم السياسية، يعون تماماً دورهم التاريخي، فقد يحدث تسلل واختراق، لكنه مكشوف ووعيهم سيسرع إنجاز الخلاص من الدوامة التي ترهن السودان للقوي، ولا تريد له ولا للمنطقة الخير".
ويجزم "أن حكومات السودان الاستبدادية فرطت بلا استثناء في التراب الوطني وفي الموارد والثروات وفي السيادة الوطنية، ولذلك فإن المعركة الآن لاستعادة الدولة كي تكون أجهزتها في خدمة الوطن والمواطن، وأن تكون المؤسسات الأمنية والعدلية مهتمة بحماية المواطن لا التنكيل به، وحراسة حدوده من الطامعين والمهربين والناهبين لثروات البلد".
دولة المواطنة
ويؤكد الكاتب والناقد السوداني "أن معظم المبادرات المخلصة لحل الأزمة السياسية يقف وراءها مثقفون ومهنيون وساسة وأكاديميون، يهمهم ألا يروا السودان منزلقاً نحو الفوضى التي بدت مظاهرها بوضوح، والآن نشهد تخبطاً في السياسة الخارجية سيؤدي إلى الإضرار بمصالح الوطن وعزل السودان من جديد، فضلاً عن ارتجال في إدارة الملف الاقتصادي يهدف إلى إعادة سياسة التجويع في أبشع صورها، ثم إعادة من لفظتهم الثورة إلى مفاصل الدولة بعد أن فشلوا في إدارتها في ظل سياسة التمكين التي أفقدت الوطن خيرة كوادره المدربة التي أفادت منها أمم الأرض".
وتابع قائلاً، "لا بد من تصحيح مسار الثورة واستعادة مدنية الدولة، وأن نستهدي بقول المحجوب الشاعر والناقد والمفكر ورجل الدولة بعدم صلاحية العسكر لحكم السودان، وتصحيح المسار يبدأ بإقامة دولة المواطنة ودولة الرعاية الاجتماعية، وأن تكون العدالة مكفولة حتى لمن أجرموا وسلبوا ونهبوا وعذبوا، وهذا هو الفرق بين عدالة القانون وبلطجة الأنظمة الشمولية ومحاكم الطوارئ السيئة الذكر".
وفي رأي عيدروس، "كنا في ظل الأنظمة الشمولية نقول إن الحل الأمني والعسكري لا يعالج إشكالات السودان، وأن الحلول المشكلات في جنوب السودان وجنوب النيل الأزرق ذات شق اقتصادي يعالج بالتنمية المتوازنة، وشق ثقافي يعالج بكيفية إدارة التنوع الثقافي كي يصبح نعمة لا نقمة، ولا بد من أن تسترد أجهزة الثقافة والإعلام دورها معبرة عن ثقافة الشعب، فتسلط الضوء على قضاياه الحقيقية وتبتعد من نهجها المنفر في الدفاع عن أخطاء الأنظمة وخطاياها، وعدم إقصاء الآخر المختلف فكرياً وثقافياً وسياسياً، وأن الوطن يتسع للجميع كما قال الطيب صالح".
ونوه إلى أن "هناك أعمالاً إبداعية في القصة القصيرة تقدم نماذج لأدب مقاوم من دون هتاف، وهناك روايات عبرت بصدق ولكن في إطار الفن، ولكني أستحضر هنا رواية (شهوات النعناع) للكاتب أسامة الطيب، وهي تستحق أن نقف عندها".