كشف باحثون اقتصاديون أن القرارات الأخيرة للبنك المركزي المصري، تُعد الأكثر جرأة منذ صدور قرار التعويم في نوفمبر (تشرين الثاني) 2016، وكانت السوق المصرية تنتظرها منذ فترة في إطار رحلة البحث عن محفزات جديدة لتجاوز الأزمات الخارجية، وبخاصة ما يتعلق منها بالأزمة الروسية – الأوكرانية، التي جاءت في وقت تستعد فيه الاقتصادات للتعافي من تداعيات جائحة كورونا.
وفي ما يتعلق بالتداعيات السلبية، فإنها تتمثل في الصدمة التي تلقتها السوق، والتي سرعان ما تلاشت سريعاً بفضل تدخل الحكومة المصرية بحزمة محفزات لحماية متوسطي ومحدودي الدخل، ووقف ارتفاعات الأسعار، خصوصاً بعد إعلان البنك المركزي المصري عن العودة إلى الدولار الجمركي، والذي يُعد أحد أساسيات تسعير الأسعار المستوردة.
في المقابل، رصد باحثون، 10 إيجابيات للقرارات التي أعلنها المركزي المصري، يتصدرها تباطؤ وتيرة اتساع عجز الحساب الجاري، إضافة إلى دعم جهود مكافحة الضغوط التضخمية بخاصة مع ارتفاع معدلات التضخم عالمياً بنسب قياسية. كما تدعم القرارات قيمة الأصول المقومة بالجنيه المصري.
يُضاف إلى ذلك، أنها ستعمل على زيادة التدفقات الاستثمارية وبخاصة الخارجية منها، مع ارتفاع إجمالي تحويلات المصريين العاملين بالخارج، والتي سجلت خلال العام الماضي، مستويات قياسية عند 31.5 مليار دولار. هذا بخلاف زيادة جاذبية السوق المصرية أمام المستثمرين الدوليين.
وبخلاف ما سبق، فإن هذه القرارات من شأنها أن تدعم موقف مصر في أي مفاوضات محتملة مع صندوق النقد الدولي، كما أنها تقلص من هجرة محافظ المستثمرين الأجانب إلى الدولار الأميركي وعملات الملاذ الآمن والأصول الأقل خطورة، إضافة إلى وقف عملية "الدولرة" التي غالباً ما تنشط حينما يجري تداول العملة المحلية بأعلى من قيمتها الحقيقية، وأخيراً زيادة جاذبية البورصة لتدني أسعار الأسهم، وهو ما ظهر سريعاً في مؤشرات البورصة المصرية التي حققت انتعاشة سريعة بمجرد إصدار هذه القرارات.
تباطؤ عجز الحساب الجاري
في مذكرة بحثية حديثة، قال بنك الاستثمار "الأهلي فاروس"، إن قرارات البنك المركزي المصري جاءت نتيجة طبيعية لارتفاع الضغوط المتراكمة خلال الفترة السابقة. وأشار إلى أنه "في أعقاب الجائحة التي أثرت بشكل كبير على الحساب الجاري المصري، جاءت الحرب في أوكرانيا لتزيد الأمور تعقيداً، وتزيد من ارتفاع أسعار السلع والضغط على التدفقات الدولارية في توقيت بطبيعته يشهد ضغطاً عالمياً بسبب التضخم العالمي والتشديد النقدي في البنوك المركزية الكبرى". وأوضح البنك أن "تلك الضغوط التي تشهدها الأسواق الناشئة بشكل قوي عقب الحرب، حركت عملات دول عدة بالفعل".
وفي ما يتعلق بخفض قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، أشار بنك الاستثمار "الأهلي فاروس" إلى أن "قيمة الجنيه لم تبعد عن تقديرات نماذج اقتصادية مختلفة للقيمة العادلة وفقاً لمعطيات الأشهر الأخيرة"، لافتاً إلى أن إجراء رفع الفائدة، إجراء تكميلي من المعتاد أن يتم، مع تخفيض العملة المحلية في أي دولة، وإن كنا نرى احتياجاً محتمَلاً لرفع أكبر خلال الفترة المقبلة".
وحول الآثار السلبية لتلك القرارات، أشار إلى أن "معدلات التضخم تأتي على رأس تلك الآثار، وكذلك الموازنة، في ما يخص الفوائد والدعم". وفي المقابل، تتمثل الآثار الإيجابية في التحسن النسبي وتباطؤ وتيرة اتساع عجز الحساب الجاري، الأمر الذي يسرع حال تعافي السياحة والتزايد المتوقع في تحويلات العاملين بالخارج، فضلاً عن تلاشي إحياء السوق السوداء مجدداً والحفاظ على قدر من الثقة عالمياً في الاقتصاد المصري.
مكافحة الضغوط التضخمية الصعبة
من جهة أخرى، أكد بنك الاستثمار "برايم"، أن "قرار رفع أسعار الفائدة يُعتبر خطوة تهدف إلى مكافحة الضغوط التضخمية الهائلة الناشئة عن الوضع الحالي في سوق السلع العالمية، مع الأخذ في الاعتبار أن مستهدف التضخم من قبل البنك المركزي المصري في الربع الرابع من عام 2022 يظل عند 9 في المئة كحد أقصى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار إلى أن "هذا التحرك المفاجئ يوحي بأن البنك المركزي المصري اختار المزيد من المرونة في سوق الصرف، وهو ما كان يبحث عنه السوق، بخاصة في ظل تداول الدولار بأقل من قيمته الحقيقية في السوق المصرية". وأشار إلى أنه مع الانخفاض السريع والحاد المستمر في سعر صرف العملات الأجنبية، من المحتمل أن نرى ما لا يقل عن ارتفاع بمقدار 400 نقطة أساس خلال العام. وذكر أن الشهادات التي أصدرتها البنوك الحكومية بعائد سنوي يبلغ 18 في المئة، يُفترض أنها تدعم الأصول المقومة بالجنيه المصري.
في السياق، كشفت مؤسسة "غولدمان ساكس"، أن "القرارات التي اتخذها البنك المركزي المصري بشأن السماح بخفض العملة المحلية ورفع الفائدة ستكون لها انعكاسات إيجابية قوية على الاقتصاد المصري والتدفقات الاستثمارية إلى البلاد". ورأت المؤسسة أن "خطوة خفض الجنيه المصري مقابل الدولار والعملات الرئيسة، إضافة إلى رفع المعدل الرئيس للفائدة بمقدار 100 نقطة أساس، سيزيدان من جاذبية السوق المصرية أمام المستثمرين الدوليين وصناديق الاستثمار العالمية".
وأوضحت أن الخطوتين تساعدان على تحسن تصنيف العملة المصرية، وعكس اتجاه التدفقات الخارجة للأموال من أدوات الدين المصرية لتتحول إلى شراء الجنيه المصري من جانب الصناديق الدولية. وقالت مؤسسة "غولدمان ساكس"، إن "خفض العملة ورفع أسعار الفائدة سيزيدان من احتمالية قيام الحكومة المصرية بالتفاوض على اتفاق أو برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي". ورجحت ألا يكون الاتفاق مع صندوق النقد كافياً بمفرده، وأنه يتعين على مصر عقد اتفاقات أخرى مع دول الخليج.
السيطرة على انسحاب الأموال الساخنة
في سياق متصل، رأى أشرف غراب، نائب رئيس الاتحاد العربي للتنمية الاجتماعية بمنظومة العمل العربي بجامعة الدول العربية لشؤون التنمية الاقتصادية، أن "قرارات البنك المركزي رفع أسعار الفائدة بنسبة 1 في المئة، وتقديم بنوك القطاع العام المصرية شهادات بعائد سنوي يبلغ نحو 18 في المئة، هي قرارات إيجابية ستعمل على ضبط السوق المالية، وتعزز من الوضع الاقتصادي الداخلي، في ظل اتجاه الحكومة إلى احتواء التضخم، كما ستعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى الحفاظ على مكتسبات برنامج الإصلاح الاقتصادي ورفع كفاءة مؤشرات الاقتصاد الكلي".
وأشار إلى أنه "بعد قيام البنك المركزي الأميركي برفع سعر الفائدة، كان لا بد للبنك المركزي المصري من اتخاذ قرار برفع الفائدة، وذلك للسيطرة على حركة انسحاب الأموال الساخنة من السوق المصرية في ظل منافسة تشهدها أسواق السندات"، موضحاً أن "الطلب قد زاد على النقد الأجنبي خلال الأيام الماضية، وبخاصة بعد اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية التي تسببت في قفزة مرتفعة بأسعار السلع الغذائية عالمياً، إضافة إلى أن ارتفاع أسعار النفط بنسب كبيرة أدى إلى موجات تضخم عالمية زادت من أسعار السلع، وهنا كان لا بد من رفع سعر الفائدة في السوق المصرية".
وقال أشرف غراب، إن "السياسات المالية النقدية التي اتبعتها الدولة المصرية منذ قرار تعويم الجنيه في نهاية عام 2016، أسهمت في استقرار سعر الصرف، ومع تزايد موجة التضخم العالمية وارتفاع الأسعار واستقرار سعر الصرف، فإن ذلك سيؤدي إلى نفاد جزء كبير من الاحتياطي النقدي الأجنبي، بخاصة وأن الاقتصاد المصري استطاع الصمود أمام تداعيات جائحة كورونا، لكن مع بدء التعافي منها وتحقيق معدلات نمو جيدة ظهرت الأزمة الروسية- الأوكرانية التي زادت أسعار الطاقة والسلع الغذائية، وبالتالي أثرت على جميع اقتصاديات العالم، ولذلك أصبح لا مفر من زيادة سعر الفائدة".
وأوضح المتحدث ذاته أن "استمرار الدولة في دعم سعر الصرف من دون ضوابط، بخاصة في ظل ما يشهده العالم من موجات تضخم متزايدة سيؤثر سلباً على الاحتياطي النقدي الأجنبي ويتسبب في نفاد جزء كبير منه"، لافتاً إلى أن "انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار سيدعم قدرة الاقتصاد المصري في مواجهة الأزمة ما يعزز قدرتها على الاحتفاظ بالاحتياطي النقدي وتوجيهه للاحتياجات الاستراتيجية الأساسية لمواجهة الأزمة العالمية"، مؤكداً أن "رفع سعر الفائدة سيؤدي إلى الحد من استيراد السلع غير الضرورية والرفاهية أو الكماليات".
وذكر أن "إصدار البنوك الحكومية شهادات مرتفعة العائد، يهدف إلى تقليل السيولة في الأسواق وتشجيع المواطنين على الإدخار بالعملة المصرية، وتعويض أصحاب الفوائض المالية عن أي ارتفاع في معدلات التضخم"، مؤكداً أن "رفع سعر الفائدة وانخفاض قيمة الجنيه، سيزيد من تدفقات الاستثمار الأجنبي في أدوات الدين الحكومي ما يوفر احتياجات التمويل الخارجي، إضافة إلى أن رفع سعر الفائدة يشجع عملاء البنوك على ادخار أموالهم في البنوك مقابل عائد مالي مناسب، وهذا يعني زيادة السيولة النقدية بالجهاز المصرفي المصري، وبالتالي تدبير احتياجات السوق من النقد لمواجهة موجات التضخم العالمية".