يتعرض قطاع النقل العام في السودان، بشقيه الخاص والحكومي، إلى هزات وضربات موجعة، تهدد قدرته على مواجهة التصاعد المضطرد الذي طال سعر الوقود، ما تسبب في خروج 60 في المئة منها من الخدمة، وتوقفت تماماً عن العمل، بعد ارتفاع تكاليف التشغيل وتعدد الرسوم والعبء الضريبي عليها، وبات شبح الانهيار التام وشيكاً حال استمرار تلك المشكلات، فضلاً عن انخفاض الإقبال وانكماش حركة السفر، إثر الارتفاع الكبير في ثمن التذاكر بالنسبة للمواطنين.
وتشكل حافلات السفر الأهلية، التابعة للشركات والأفراد، عصب حركة نقل الركاب بين ولايات السودان المختلفة، إذ تسهم بنقل 90 في المئة، مقابل 7 في المئة للطيران، و3 في المئة للحافلات الصغيرة، في وقت يعاني القطاع الحكومي شللاً كبيراً، نتيجة المشكلات التراكمية والمعوقات التي تحاصره، على الرغم من الأهمية القصوى له في بلد شاسع المساحة، مترامي الأطراف، تتباعد فيه مراكز الإنتاج.
في السياق، كشف المدير التنفيذي لغرفة "البصات السفرية"، خميس عبد الله، عن التدهور الكبير، الذي تعرض له القطاع، بخروج 60 في المئة منها من الخدمة وتوقفها بسبب ارتفاع تكاليف التشغيل من قطع غيار وضرائب، وفئات رسوم الترخيص والتأمين، على الرغم من أن القطاع يعتبر خدمياً، لكنه لا يجد أي اهتمام أو دعم من الدولة، بخاصة بعد التحرير الكامل للمحروقات، وارتفاع سعر صرف العملة، الذي أثر بدوره في عمليات الصيانة وقطع الغيار المستوردة.
وعبر خميس، في حديثه إلى "اندبندنت عربية" عن أسفه للإهمال الكبير، الذي يعانيه القطاع الحكومي، على الرغم من دوره الاستراتيجي، الذي يمكن أن يدر أموالاً طائلة للدولة، مناشداً تخفيف عبء الضرائب، حتى يتمكن من تأهيل 10 في المئة من الحافلات المتوقفة وإعادتها إلى العمل، ليتمكن من تقديم خدمة جيدة وبأسعار مناسبة للمواطنين، مشيراً إلى أن الغرفة خاطبت الأمين العام لديوان الضرائب 5 مرات من دون أي استجابة.
صيحات للإنقاذ
واعتبرت الغرفة تدهور وتدني حالة الطرق القومية سبباً مباشراً في تهالك الحافلات، على الرغم من المبالغ الطائلة التي تدفع للحكومة 17 في المئة قيمة مضافة، و5 في المئة دمغة، وواحد في المئة أرباح أعمال، لكن من دون أي مقابل فيما يخص صيانة الطرق، بخلاف ما يتعرضون له من مآس بسبب سوء المعاملة وكثرة التفاتيش على الطرق القومية، وما تسببه من تأخير للرحلات، لافتة إلى أن الظروف والبيئة القاسية التي يعمل فيها القطاع، وتحمل العبء الأكبر من أجل استمرار وضمان خدمات نقل جيدة ومستقرة للمواطنين.
غرفة "البصات" ناشدت الحكومة سرعة التدخل لإنقاذ هذا القطاع الاستراتيجي، بوضع معالجات خاصة به، بعد الزيادة الكبيرة التي حدثت في المحروقات والضرائب المفروضة عليهم بما نسبته 22 في المئة، إلى جانب ارتفاع سعر الدولار الجمركي، وندرة الوقود، فضلاً عما نتج عن الأزمة من نشاط للسوق السوداء، وتشغيل مركبات غير مطابقة للمواصفات المطلوبة، في ظل التصاعد الكبير لأسعار التذاكر.
وطالب المدير التنفيذي للغرفة، بتفعيل البروتوكول الموقع مع الأشقاء في جمهورية مصر العربية، الذي يتيح للمركبات السودانية الوصول حتى العاصمة المصرية القاهرة، بدلاً من اضطرارها إلى التوقف عند موقف خلوي في منطقة (كركر) الصحراوية النائية، التي لا تتوفر فيها الخدمات اللازمة، وتتسبب في معاناة كبيرة، مع ضرورة تبسيط الإجراءات في معبر أرقين وقسطل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ارتفاع أسعار التذاكر
على صعيد متصل، أقر موسى محمود عبد الرحمن، مدير النقل البري بوزارة النقل، بأن زيادات أسعار الوقود المستمرة أثرت بصورة كبيرة على القطاع، فضلاً عن سعر الدولار وقطع الغيار، ما تسبب في توقف معظم الحافلات الخاصة بعدد من الشركات والأفراد، وخروجها عن سوق العمل، ولم تعد هناك مقدرة على تشغيلها مع الأسعار المتزايدة لتكلفة التشغيل.
أشار عبد الرحمن إلى أن غرفة "البصات السفرية" اضطرت، قبل أيام، إلى رفع أسعار التذاكر، بلغت أكثر من 70 في المئة، لمواكبة مستجدات الأسعار، ومواجهة تكاليف التشغيل المتصاعدة، بعد دراستها بواسطة لجنة متخصصة لم تشارك فيها وزارة النقل، وهي زيادات كبيرة تلقي أعباء جديدة على المواطن، الذي بات يتحمل كل تبعات اضطرابات أسعار الوقود.
وأوضح مدير النقل البري، أنه وفقاً لسياسة التحرير الاقتصادي المطبقة في السودان، فلا مجال لتدخل الوزارة بشأن أسعار التذاكر، لكن بحكم دورها التنسيقي في هذا الشأن كجهة رسمية ذات اختصاص، يجب أن يكون لها دور وإشراكها في عملية التسعير، لافتاً إلى أنه عقد اجتماعاً مع غرفة النقل الأهلي، التي قالت إنه من دون زيادة الأسعار سينهار القطاع كلياً، بعد أن ظهرت بوادر وشواهد ذلك بوضوح، منادياً بضرورة وقفة جادة من جانب الحكومة، ممثلة في وزارة المالية، تفضي إلى إقرار معاملة خاصة لهذا القطاع، بوصفه خدمياً إنتاجياً، وتقديم بعض التسهيلات، بخاصة فيما يتعلق بالجمارك وقطع الغيار والرسوم والضرائب، حتى يتمكن من تجاوز الوضع الحالي واستعادة بعض عافيته.
الجناح المتعثر
من جانبه، يعاني جناح قطاع النقل الحكومي المتعثر أساساً، من تراكمات بسبب سياسات حكومة البشير المعزولة، على مدى 30 عاماً، وتعرض طاقاته وقدراته إلى تدمير شبه كامل، نتيجة العزلة والحظر والحصار الاقتصادي العالمي على السودان منذ 1996، وانقطاع واردات قطع الغيار (الاسبيرات) لكل من السكك الحديدية وطائرات الخطوط الجوية، ومركبات النقل النهري، ما تسبب في توقف معظم أساطيلها عن الحركة.
وتسعى وزارة النقل السودانية إلى إصلاح القطاع من خلال اعتماد برنامج للنهوض يرتكز على تبني عدة مشاريع وخطط لإعادة التأهيل، بهدف ربط كل أطراف البلاد داخلياً ومع دول الجوار عبر هيئات النقل التابعة، سواء في السكة الحديد، أو الموانئ البحرية، فضلاً عن شركة الخطوط الجوية السودانية.
مدير عام التخطيط بالوزارة، عبير حسن، أكدت لـ"اندبندنت عربية" تواصل المساعي لتحديث وتطوير عمليات التشغيل وأساطيل النواقل الوطنية وزيادة عددها، فضلاً عن التخطيط لتأسيس أنظمة وشبكات النقل للمناطق المتأثرة بالحرب والنزاعات، وربط الأنظمة والشبكات العابرة بالدول المجاورة، لدعم التجارة والسياحة والحركة الحدودية، حيث تجري الآن دراسات لربط السكة الحديد بالدول المجاورة وتأهيل الخط الملاحي مع دولة جنوب السودان.
وشرعت الوزارة، بحسب حسن، في عملية إعادة تأهيل متكاملة تشمل استعادة المؤسسات التي حلها النظام السابق، وزيادة الطاقة التشغيلية لمنشآت النقل، اعتماداً على رفع الكفاءة والاستدامة، مع إقرار برنامج لإعادة الهيكلة والبناء المؤسسي وسن قوانين مشجعة للاستثمار.
معاناة داخلية
ليس بعيداً عن ذلك الواقع، شأن النقل العام الحضري داخل الخرطوم والمدن الأخرى، شكلت زيادات أسعار الوقود، إلى جانب الزيادة المضطردة في أعداد السكان، مع تدني الأوضاع الاقتصادية، ضغطاً هائلاً على المواطنين ونظم النقل المتاحة، ما أفقدها قدرتها على تحقيق مستوى الخدمة المطلوب.
ويشخص أبو راحل يوسف الشوبلي، الإداري المتخصص في النقل الحضري، المعوقات بغياب الرؤية والهدف والإرادة السياسية، التي ظلت دائماً متأرجحة ويعتريها كثير من الغموض، ما تسبب في انهيار لكامل المنظومة، على مستوى الهياكل والنظم، وانعدام الضوابط والقوانين أو آليات الإدارة، فضلاً عن ضعف واهتراء السيارات الناقلة.
المتخصص في النقل الحضري يستغرب اتباع كل الحكومات المتعاقبة لسياسات تؤدي إلى المزيد من انهيار النقل العام، وتحطيم للبنى التحتية، بدلاً من تبني سياسات لتقويتها، فقد سبق أن اعتمد مجلس الوزراء سياسات جيدة تحطمت على يد الحكومة نفسها بامتناع وزارة المالية عن تنفيذها.
يضيف الشوبلي، "تأذى النقل العام كثيراً بسبب التدخلات السياسية، فهي التي أدت إلى حل شركة المساهمة العامة للترام (المترو) بعد أن شرعت فعلياً في إعادة هذه الخدمة الحيوية والمهمة، على الرغم من أن السودان من الدول الرائدة في استخدام قطار المترو الخفيف منذ 1910، لكنه للأسف توقف تماماً على مدى 50 عاماً منذ عام 1960".
ودعا الشوبلي إلى سرعة مواجهة التدهور والانهيار الحالي، بالعمل على إعادة صياغة منظومة النقل العام، على كل المستويات، البنية التحتية والهياكل والأطر التنظيمية والإدارية، وتحديد طبيعة علاقتها بالحكومة، مشدداً على أهمية عودة قطار المترو الخفيف مرة أخرى، لمجابهة التدني والاختناقات، تحديداً في العاصمة الخرطوم، خصوصاً بعد النجاح النسبي، الذي حققته تجربة قطار الضواحي كجزء من منظومة سياسات النقل المقترحة منذ سنوات.
سبب ارتفاع أسعار الوقود
وكان قطاع التنمية الاقتصادية بمجلس الوزراء بحث في اجتماعه الأول لسنة 2022، الأربعاء 23 مارس (آذار) الحالي، موقف الإمداد وتوفير المخزون من الدقيق والقمح حتى أبريل (نيسان) المقبل.
وأرجع مدير الإمداد بوزارة الطاقة، عبد العزيز علي، السبب الرئيس لزيادات الوقود المتكررة إلى التطورات العالمية واستمرار التذبذب في أسعار البترول التي ستؤثر كثيراً على أسعار الوقود في السودان، إلى جانب زيادة سعر الدولار محلياً، مشيراً إلى أن تحديد أسعار الوقود من اختصاص وزارة المالية، ولا صلة لوزارة الطاقة به.
وكشف عبد العزيز أن مخزون البلاد من المواد البترولية مطمئن جداً، وأن الهلع وعدم الاطمئنان هما السبب وراء الازدحام في محطات الوقود، مؤكداً اهتمام الدولة الكبير بموضوع الإمداد النفطي.