استبشر السودانيون خيراً بزوال نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل (نيسان) 2019، كونه أدخل بلادهم في دوامة العقوبات الاقتصادية لمدة 25 عاماً، وفي الوقت الذي بدأ فيه الاقتصاد السوداني يتعافى من خلال المبالغ التي تعهدت بدفعها عدد من الدول ومؤسسات التمويل الغربية للحكومة الانتقالية في السودان، دعماً لتحول البلاد الى حكم مدني ديمقراطي بعد ثلاثة عقود من الدكتاتورية، سرعان ما تسبب انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) الذي قاده قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان تحت دواعي الخطوات التصحيحية لإحداث توافق سياسي، في عزلة اقتصادية جديدة لهذه الدولة الأفريقية التي تعد واحدة من أفقر بلدان العالم.
وعلى إثر ذلك فقدت الدولة السودانية 40 في المئة من إيراداتها، وجمد البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ملياري دولار من المساعدات كانا بصدد تقديمها إلى الحكومة الانتقالية، فضلاً عن تجميد واشنطن 700 مليون دولار وشحنة قمح بحجم 400 ألف طن كانت ستقدمهما هذا العام.
هذا المشهد انعكس بشكل سلبي على الوضع الاقتصادي الذي بدأ في التدهور، وأيضاً ألقى بظلاله على أداء المصارف التي فقدت السيطرة على ضبط سعر الصرف الذي بدأ يتهاوى ببلوغ سعر الدولار الواحد في السوق الموازية أكثر من 700 جنيه، بزيادة 60 في المئة خلال أقل من شهر، لكن كيف سيكون وضع المصارف السودانية في ظل هذا التراجع المريع للأداء الاقتصادي، بالنظر إلى استمرار الأزمة السياسية الداخلية وتداعيات الحرب الأوكرانية؟
قفزة في الظلام
يقول الباحث الاقتصادي السوداني محمد الناير إنه "من المعلوم أن الخطوة التي اتخذها بنك السودان المركزي أخيراً في ما يتعلق بسياسة سعر الصرف المرن، بمعنى تحريره، تمثل سلاحاً ذا حدين، فإما أن يكون لدى البنك المركزي احتياطي من النقد الأجنبي يمكنه من تحقيق النجاح المطلوب، أو أنها خطوة بمثابة قفزة في الظلام، وبالفعل هذا ما حدث، إذ واصل سعر الدولار ارتفاعه من 460 جنيهاً إلى أكثر من 700 جنيه، لكن مع إعلان البنك المركزي ضخه مبالغ من النقد الأجنبي بدءاً من الأحد 27 مارس (آذار)، أحدث تراجعاً نوعاً ما. والسؤال هو لماذا تأخر البنك المركزي في ضخ هذه المبالغ منذ أول يوم لإعلانه تحرير سعر الصرف ما دامت لديه القدرة؟ فهذا خطأ فادح تسبب في إحداث إرباك في المشهد الاقتصادي من ناحية تأثيره في الأوضاع المعيشية بارتفاع أسعار السلع بشكل كبير".
وأضاف الناير، "هذا الانفلات في سعر الدولار أثر سلباً في أداء المصارف السودانية، ولجأ معظم الناس للتعامل مع السوق الموازية لتوفير حاجاتهم من العملات الأجنبية نظراً إلى انعدامها في المصارف الرسمية، وبالتأكيد إذا لم تكن لدى البنك المركزي مبالغ كافية فستقوم السوق الموازية باستنزاف موارد المصارف على المدى المتوسط، لأن استقرار سعر الصرف يكون من خلال مواصلة التدفقات النقدية ووفرة الإنتاج التي أصبحت من العمليات المعقدة من ناحية السياسات غير المشجعة للإنتاج في ظل زيادة أسعار المحروقات خلال فترة وجيزة بنسبة 400 في المئة والكهرباء بـ 600 في المئة، مما أدى إلى ارتفاع كلف الإنتاج".
دمج المصارف
وتابع الناير، "ظلت المصارف السودانية تعاني في تعاملاتها مع المصارف الخارجية بعد إزالة اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب نهاية 2020، فالغرب ظل يتباطأ على الرغم من إصداره توجيهات لمصارفه ومؤسساته المالية للتعامل مع المصارف السودانية، والآن بعد قرارات قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان في 25 أكتوبر بإعلان حال الطوارئ في البلاد، والتي اعتبرها الغرب انقلاباً عسكرياً، وما تبعها من الحرب الأوكرانية، فسيتعقد المشهد أكثر ليس بالنسبة إلى السودان وحسب بل على المستوى الدولي، ومن المحتمل أن يتشكل نظام اقتصادي عالمي جديد بعد الأزمة الأوكرانية، وقد لا تعد أميركا هي القطب الأوحد المهيمن على الاقتصاد، ومن المتوقع ظهور عملات جديدة، فهناك تغيرات جذرية للنظام الاقتصادي العالمي ستحدث بعد العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن والاتحاد الأوروبي وبقية الدول الأخرى، في ضوء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزاد الباحث الاقتصادي السوداني، "السودان ظل معزولاً عن العالم اقتصادياً حتى بعد التغيير الذي أحدثته ثورة ديسمبر (كانون الأول)، فكان من المفترض ضخ ما بين أربعة إلى خمسة مليارات دولار عبارة عن منح وقروض من دول ومؤسسات دولية، مما كان سيحدث استقراراً وانتعاشاً للاقتصاد ورفعاً لأداء المصارف، لكن لم يراع لأهمية هذا البلد باعتباره يتمتع بميزات تجعل منه دولة واعدة، إذ يمتلك ساحلاً على البحر الأحمر بطول 780 كيلومتراً، وموقعاً استراتيجياً في قلب القارة الأفريقية، فضلاً عن موارد طبيعية في باطن وظاهر الأرض".
وأشار إلى أن الوضع الاقتصادي المهزوز حالياً سيكون له أثر بالغ في أداء المصارف، ومن المؤكد أن تحسن وضعها يتوقف على إنهاء الأزمة السياسية بحدوث توافق بين الأطراف كافة، عسكرية وسياسية وشبابية، وصولاً إلى الاستقرار المنشود، إلى جانب ضبط الأسواق وإنشاء بورصة الذهب وجذب تحويلات المغتربين، والعمل على دمج المصارف او رفع رأسمالها حتى تتمكن من النهوض بشكل أفضل.
ضعف الرأسمال
وفي السياق، أوضح أستاذ الاقتصاد في الجامعات السودانية عبدالعظيم المهل أن "المصارف السودانية تعاني في الأساس من ضعف رأسمالها، فهو متدن للغاية ولا تستطيع منافسة المصارف الإقليمية والدولية، كما أنها لم تتمكن من مواكبة التغييرات والتطورات الحديثة المتلاحقة في هذا القطاع، فضلاً عن التكنولوجيا والجانب الإلكتروني، وظلت بإداراتها التقليدية السابقة نفسها، وبالتالي لم تستطع جذب الرأسمال السوداني ولا الاستثمارات الخارجية وتحويلات ومدخرات المغتربين السودانيين، إذ نجد 80 في المئة من العملة المحلية و90 في المئة من العملات الأجنبية خارج النطاق المصرفي، وذلك لانعدام الثقة وصعوبة سحب وتوفر هذه المبالغ في أي وقت يحتاج إليها العميل".
ولفت المهل إلى أن المصارف نفسها هي أحد أسباب عدم ثبات سعر الصرف فلم تستطع توفير احتياط كاف من الدولار، وأصبح تجار السوق الموازي هم الأقوياء، لذلك قفزت أسعار العملات الأجنبية مقابل الجنيه السوداني لأعلى مستويات تاريخية، وهو ما يحدث أثاراً سالبة تجاه المصارف، وقد تحتاج إلى جهود أكبر ووقت لإعادة ثقة الجمهور لها.
تحرير سعر الصرف
وكان البنك المركزي السوداني أعلن في السابع من مارس تحرير سعر صرف الجنية السوداني في محاولة لتحسين وضعه أمام العملات الأجنبية، وقفز سعر الدولار في أول يوم لتنفيذ قرار التحرير في المصارف الرسمية من 467 إلى 530 جنيهاً، بينما بلغ في السوق الموازية 560 جنيهاً، وواصل الارتفاع ليكسر حاجز الـ 700 جنيه، وأعلنت الحكومة تشكيل لجنة للطوارئ الاقتصادية برئاسة نائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو الذي قال في حديث بثه تلفزيون السودان، "لدينا احتياط من النقد الأجنبي والذهب في بنك السودان"، لكنه لم يعط أي أرقام.
أما المصارف التي كان يفترض أن تعود إلى النظام الدولي بعد رفع العقوبات الأميركية في نهاية 2020، فلم يعد لديها منذ الانقلاب أي صلة بالبنوك الأوروبية أو الأميركية، في وقت حذر ممثل الأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتيس من أن البنك الدولي أمهل السودانيين حتى يونيو (حزيران) ليصلوا إلى حل للأزمة السياسية كي يستكمل خطة إعفاء السودان من ديونه، وإلا سيوقف سياسة الأيدي الممدودة.