إن كانت أوكرانيا مجرد دولة "خيالية" في عين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كونها بنظره جزءاً من أراضي الاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا وريثته الشرعية، فما الذي يمنعه من التعاطي بذات النسق تجاه أراضي دول آسيا الوسطى؟ لا سيما تلك الحاضنة للأقليات العرقية الروسية.
بغض النظر عما يعتري هذا التساؤل من التعميم، وباعتراف لقصوره عن اعتبار الاختلافات الكامنة في الإرث التاريخي والديني والاجتماعي بين أوكرانيا ودول آسيا الوسطى، فإن الأزمة الأوكرانية بكل جوانبها وآفاقها المستقبلية تفرض تحديات جمة على واقع دول آسيا الوسطى الخمس؛ كازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان، بحكم ارتباطهم السياسي والأمني والاقتصادي والاجتماعي العميق مع روسيا.
البيئة السياسية المعقدة لدول آسيا الوسطى
تزخر بلدان المنطقة بكثير من الموارد الطبيعية الثمينة من النفط والغاز، وتكتنز أراضيها عديداً من الثروات المعدنية كاليورانيوم، ناهيك عن غناها بالمياه الجوفية، غير أن موقعها الجغرافي على رغم ميزاته النسبية في فترات السلم، له مثالبه المتعددة جرّاء انحسار المنطقة في جغرافية منغلقة من دون وصول إلى بحار أو ممرات مائية مفتوحة. وهذا بدوره ينعكس على إمكانية حيازة النفوذ الذي يخول بلدان المنطقة الاستقلال بقراراتهم السياسية من دون ضغوط خارجية. فهي دول مستقلة حديثاً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، ولها علاقات متشابكة وإرث معقد مع الدولة الروسية وريثة الاتحاد الشرعية، ويحيط بها من الشرق القوة الدولية الصاعدة؛ الصين. والقوتان الروسية والصينية تجدان منافسة شرسة من قبل الولايات المتحدة وأوروبا لتوطيد العلاقات وتعظيم النفوذ في المنطقة.
كأن الظروف الخارجية لم تكن كافية، لتتزامن مع تعقيدات سياسية داخلية في كل بلد من البلدان الخمسة؛ فكازاخستان مثلاً للتو خرجت من أزمة تظاهرات شعبية على إثر ارتفاع أسعار البترول وتزايد الحنق الشعبي إزاء الحكومة، وظهرت مطالبات بتنحي النخبة السياسية الحاكمة بسبب تدني المستويات المعيشية وضعف الإجراءات المتخذة في هذا الصدد. ولا تتمتع بقية دول آسيا الوسطى بحال أفضل من كازاخستان، فتعتري أجهزتها الأمنية هشاشة نسبية، ولديها ما يكفي من الانقسامات السياسية والصعوبات الاقتصادية الداخلية، بل إننا نجد خلافات حدودية وإشكالات أمنية بين الدول الخمسة ذاتها، فقبل عام من الآن حدثت اشتباكات على الحدود بين قيرغيزستان وطاجيكستان بسبب نزاع على موارد المياه، فيما تشاطر الدولتان أوزبكستان مثلثاً حدودياً يعد مرتعاً ومنطلقاً للحركات الراديكالية المتطرفة ضد حكومات الدول الثلاث.
في حيز الاشتباك مع روسيا، يبرز بداخل البلدان الخمسة إجلال لقوة الحكومة وتنفذها في موسكو تحت قيادة بوتين، ومرد ذلك الإجلال هو النجاحات القليلة السابقة التي حققها الرئيس فلاديمير بوتين في عدة أصعدة من مثل تحقيق النمو الاقتصادي مع بداية الألفية الجديدة، وإعادة تموضع روسيا كقوة عسكرية عظمى تفرض رأيها ورغبتها الدولية. وفي هذا الإطار نلحظ في الداخل القيرغيستاني تعظيماً شعبياً كبيراً لروسيا، يتزامن مع مخافتهم من تعاظم الدين الحكومي للصين وبالتالي زيادة الأغلال الصينية عليهم أو أن تطغى أو تقوض الهيمنة الصينية من وحدة أراضيهم، وما يحدث ضد جيرانهم أقلية الإيغور في الأجزاء الغربية من الصين ليس ببعيد من ذهن عامة الشعب القيرغيستاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على المستوى الأمني، لدى موسكو قواعد عسكرية في كل من قيرغيزستان وطاجيكستان، وهاتان الدولتان تشتركان مع كازاخستان في عضوية منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا. أوزبكستان من جهتها لديها اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا تحتم على كل من الدولتين المسارعة للاصطفاف عسكرياً مع الدولة الأخرى في حال تعرضت إحداهما للتهديد من قبل أطراف خارجية، فيما تحظى تركمانستان بمساعدة عسكرية من قبل روسيا، لا سيما في قواعد جوية وبرية حدودية مع أفغانستان مخافة تسلل عناصر إرهابية أو جماعات ذات نزعات راديكالية متطرفة نحو المنطقة.
مع هذه المعطيات الشائكة واتصال أمن دول المنطقة وسياساتها ووحدة أراضيها بصراع القوى الإقليمية والدولية في المنطقة، يظهر المأزق السياسي الذي تمر به هذه الدول جرّاء ارتباطها الوثيق بروسيا؛ سياسياً وأمنياً وتاريخياً، وهي تسعى بكل جلد إلى أن تبقى في حيز الحياد تجاه الأزمة الأوكرانية الراهنة.
تداعيات اقتصادية على آسيا الوسطى
لا شك في أن اقتصاديات دول المنطقة شديدة الوثاق بالاقتصاد الروسي، وفي العموم يمكن تناول الأثر الهدام الذي نجم عن الأزمة الأوكرانية وانعكس على اقتصاد ومجتمعات الدول الخمسة في أربعة سياقات كالآتي:
في السياق الأول تتأثر جميع الدول بما يتعرض له الروبل الروسي من صدمات، فأي ضربة تتجرعها العملة الروسية تودي لا محالة بعملات واقتصاديات المنطقة ككل. ونشهد تحركات في بعض دول المنطقة تتمثل في وضع كوابح أمام هروب العملات الصعبة من اقتصادها، تحسباً لانعكاسات سلبية تهبط بقيمة عملاتها الوطنية جرّاء تشديد العقوبات المفروضة على روسيا من قبل العالم الغربي. على سبيل المثال انخفضت قيمة التينغ الكازاخستاني بمعدل 20 في المئة مع بداية فرض العقوبات الاقتصادية على موسكو، مما ينعكس مباشرة على ارتفاع أسعار الواردات، ويدفع بسياسات الحكومة الاقتصادية نحو مزيد من رفع أسعار الفائدة لتحجيم أخطار التضخم المتصاعد.
السياق الثاني يتصل بمواطني دول المنطقة العاملين في روسيا والذين يعدون رافداً مهماً لاقتصاديات بلدانهم بسبب حوالاتهم المالية الضرورية لإعالة أهاليهم ومجتمعاتهم، فضلاً عن المساهمة في زيادة الناتج المحلي الإجمالي لبلدانهم. نخص بالذكر دولاً ثلاثة تعد شديدة الاعتماد على الحوالات المالية الواردة من روسيا وهم؛ طاجيكستان وقيرغيزستان وأوزبكستان، حيث تشكل الحوالات ما نسبته 30 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي في طاجيكستان و28 في المئة من ناتج قيرغيزستان، فيما تشكل تلك النسبة حوالى 12 في المئة لدى أوزبكستان. وسبق وتأثرت نسب الحوالات المالية تلك بعد ضم موسكو لشبه جزيرة القرم عام 2014 وما أعقبها من عقوبات، إذ انخفضت نسبة الحوالات المالية إلى دول المنطقة بمعدل 40 في المئة. تجدر الإشارة إلى أن دول المنطقة تصدر العمالة أيضاً إلى أوكرانيا، وأهم دولتين مضطلعتين بهذه العملية خلال السنوات القليلة الماضية هما تركمانستان وأوزبكستان، مما يضاعف حجم الخسائر التي تتكبدها بلدان آسيا الوسطى بسبب الأزمة الراهنة.
في سياق ثالث؛ تتبدى لنا أهمية التبادل التجاري مع روسيا، والذي بات على محك تعقيدات داخلية لكل بلد، وتحديات عسيرة ناتجة من السياسات النقدية المتخذة من قبل روسيا أو دول المنطقة ذاتها. فمثلاً كازاخستان أكبر شريك تجاري بين الدول الخمس لروسيا، تأثر تبادلها التجاري مع موسكو بما أسفرت عن الأزمة من عقوبات اقتصادية على روسيا، وزاد من إلحاق الضرر بها رفع موسكو معدلات الفائدة وتقييدها لعمليات تصدير المنتجات الغذائية، لا سيما الحبوب، وهي أمور في مجملها تصب في سياق انحدار مستويات التبادل التجاري، وإضعاف أو تبديد الاستثمارات الروسية في كازاخستان وغيرها من دول آسيا الوسطى الأخرى.
السياق الرابع يرتبط بدول المنطقة الغنية بالنفط والغاز، وهي إن ابتغت جني بعض المكاسب تبعاً لارتفاع أسعار الطاقة، فإن حقائق جيوسياسية ومعضلات لوجستية جغرافية تقف عائقاً أمامها دون تحقيق ذلك المبتغى. فثلثا ما تصدره كازاخستان من النفط الخام يمر عبر الموانئ الروسية، في حين نجد تركمانستان الغنية بالغاز الطبيعي لا تمتلك الإمكانية لتسييل الغاز مما يقطع الطريق على خطط أوروبا الاستفادة من مخزون تركمانستان من الغاز، بل إن الأخيرة تعول بشكل كبير على الأنبوب الممتد إلى الصين كشريان حياة في مواجهة تأرجح اقتصاد الطاقة والأسواق المالية.
بالمجمل تلقي الأزمة الأوكرانية بظلالها على واقع الحال السياسي والاجتماعي الذي تكابده دول آسيا الوسطى، وما زاد الطين بلة هو تزامن تلك الأزمة مع التعقيدات الاقتصادية التي تعيش في كنفها دول المنطقة وحكوماتها المكبلة بقيود جيوسياسية واعتبارات صراع القوى العظمى والقوى الإقليمية في المنطقة.