كانت قرطبة عندما ولد ابن رشد سنة 1126عاصمة الأندلس الثقافية بلا منازع، وعرفت بمكتباتها الكبيرة المنتشرة قي دورها وقصورها حتى قيل إنه جمع في هذه المدينة من الكتب ما لم يجمع قبل ذلك في مدينة واحدة. وقد أطنب ابن خلدون في الثناء على أحد حكامها الكبار وهو الحكم الثاني المستنصر بالله لانتصاره للعلم والعلماء وجمعه للكتب من البلاد البعيدة يفاخر بها بقية الحكام والولاة، فقال إنه كان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالاً من التجار حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهده أهلها من قبل.
ويقال أنه اتصل بأبي الفرج الأصفهاني وأرسل له 1000 دينار من الذهب العين، فبعث له نسخة من "كتاب الأغاني" قبل أن يخرجه إلى العراق، وقد كان ذلك مدعاة زهو لأهل قرطبة ما فتئوا يذكرونه بكل فخر. وكان من ضمن هؤلاء ابن رشد الذي قال لصديقه ابن زهر ذات يوم، "إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه، حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية".
في هذه الحاضرة المهمة من حواضر البلاد الإسلامية نشأ أبو الوليد بن رشد في كنف أسرة عرفت بالعلم والفتوى والقضاء، فجده المعروف باسم ابن رشد الجد كان شيخ المالكية وإمام جامع قرطبة وقاضي الجماعة، وكان والده أبو القاسم أحمد فقيهاً معروفاً في جامع قرطبة وقاضياً وكاتباً. درس ابن رشد على أيدي العديد من العلماء والفقهاء أجازوا له الإفتاء والقضاء، ويعد اتصاله بأبي يعقوب الموحدي منعطفاً مهماً في حياته بحيث أصبح من رجاله المقربين المترددين على بلاطه المسهمين في مجالسه العلمية.
اتصاله بأبي يعقوب
كان هذا الخليفة يدين بالولاء للمذهب الظاهري، وهو المذهب الذي يلتزم أصحابه بظاهر النص، ويشيحون عن التأويل. وكان إمام هذا المذهب في ديار الأندلس هو الأديب والشاعر والفقيه ابن حزم، وقد كان الخلفاء الموحدون يرجحون هذا المذهب على بقية المذاهب، وقد عرف هذا المذهب بتشدده وتحرجه من التأويل الذي يفسر النص على غير ظاهر لفظه.
وكان ابن طفيل أول من قدم ابن رشد للخليفة الموحدي أبي يعقوب، منوهاً بعلمه مشيداً بأخلاقه، فاستقبله أبو يعقوب استقبال العلماء واحتفى به أيما احتفاء. يقول ابن رشد واصفاً لقاءه الأول بالأمير، "كان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال لي ما رأيكم في السماء؟ يعني الفلاسفة أقديمة أم محدثة؟ فأدركني الحياء والخوف فأخذت أتعلل وأذكر اشتغالي بعلم الفلسفة ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الورع والحياء فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسالة التي سألني عنها. ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويذكر مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيت منه غزارة علم لم أظنها في أحد من المنشغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمت، فعرف ما عندي من ذلك، فلما انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب".
ويذكر ابن رشد أن ابن طفيل جاءه يوماً وأخبره أن أمير المؤمنين ما فتئ يشكو من قلق عبارة أرسطوطاليس أو عبارة المترجمين عنه، ويذكر غموض أغراضه ويقول "لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل". قال أبو الوليد "فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم أرسطوطاليس".
ابن رشد فيلسوفاً
يعد ابن باجة بشهادة الفيلسوفين ابن طفيل وابن رشد، المؤسس الحقيقي للفكر الفلسفي في الأندلس، فقد انطلق هذا الرجل الموسوعي كما ذكر هو نفسه من الموسيقى فزاولها حتى بلغ فيها مبلغاً رضيه لنفسه ثم مال إلى علم الهيئة ففلسفة أرسطو الطبيعية فقدم شروحاً عليها". وقد تلقف ابن رشد أفكار ابن باجة في إحدى مراحل حياته الفكرية الأولى وهي المرحلة التي سماها بعضهم "المرحلة الباجية "، وفيها اهتم بكتابه " تدبير المتوحد" الذي وعد بشرحه والتعليق عليه.
كان ابن رشد نبيهاً مجتهداً لا يُرى إلا قارئاً لكتاب أو مدوناً لبعض المسائل، يعوض كما قال محمد عابد الجابري بالعمل في الليل ما فاته بالنهار، مستصحباً معه كتبه وأوراقه مستغلاً فرص الاستراحة في الطريق على الأرض أو على مراكب السفر يحقق مسألة أو يسود أوراقاً أو يراجع كتاباً. آمن ابن رشد بالعقل إيماناً قوياً وذلك عبر تعلقه بمبادئ "الفلسفة المشائية" التي تعد في عصره أرقى ما وصل إليه التيار العقلاني.
ويعد كتابه "فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال"، من أهم الكتب التي تضيء موقفه من العلاقة بين الفلسفة والشريعة، فهو يذهب إلى أن للشرع ظاهراً وباطناً ولا يشير ذلك إلى وجود حقيقتين اثنتين، لكنه يشير إلى وجود اختلاف في مستوى القراءة، فبعضهم يكتفي من النص بظاهر اللفظ أي يكتفي بالمعاني الأولى، بينما بعضهم الآخر يذهب إلى ما وراء اللفظ من معنى، فيميل إلى البحث عن المعاني الثواني.
ويؤكد ابن رشد أن ظاهر الشرع إذا خالف البرهان والعقل وجب تأويله حتى يتفق معهما (أي مع البرهان والعقل)، والتأويل كما عرفه ابن رشد هو "إخراج اللفظ من دلالته الحقيقية إلى دلالته المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب"، وبهذا يتم درء كل تعارض بين الفلسفة والشرع، فالفلسفة وإن بدت مخالفة لظاهر الشرع فإنها موافقة لباطنه، فالحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له.
وتظهر عبقرية ابن رشد في شرح أمهات الكتب الأرسطية والتعليق عليها، موضحاً ما أشكل من معانيها ودلالاتها، وقد أسهمت هذه الشروح في نشر أفكار أرسطو في أوربا خلال القرون الوسطى وأثرت تأثيراً قوياً في الفلاسفة المسيحيين واليهود من أمثال توما الأكويني وموسى بن ميمون.
محنة ابن رشد
كان ابن رشد من المقربين من أمير الموحدين أبي يعقوب يوسف في مراكش ثم من خليفته أبي يوسف يعقوب المنصور، وهذه المكانة التي حظي بها الفيلسوف في بلاط الموحدين دفعت المناهضين لأفكاره المنكرين عليه اهتمامه بالفلسفة إلى اتهامه بالمروق عن الدين ومخالفة عقائد المؤمنين، فحرضوا عليه الأمير الذي خضع بعد طول مماطلة لرغبتهم وقرر محاكمته.
كانت التهم واهية كما أوضح ابن أبي أصيبعة، فقد ذكر أحد القضاة أن ابن رشد ضمن أحد شروحه لأرسطو جملة تقول "فقد ظهر أن الزهرة أحد الآلهة"، وعد ذلك ضرباً من التجديف، وذكر قاض ثان أن الرجل قال في شرح كتاب الحيوان لأرسطو عند ذكر الزرافة "وقد رأيتها عند ملك البربر" وعد عبارة البربر خروجاً عن عادات الكتاب في تقريظ ملوك الوقت. لكن التهمة في الواقع كانت تعاطي الفلسفة، فهذه المحاكمة كما يقول المسكيني محاكمة رسمية أي تمت تحت لواء السلطة الحاكمة تلك التي تملك سياسة الحقيقة في زمانها. وخطأ ابن رشد يتمثل في كونه زاحم السلطة في امتلاك الحقيقة، أما الحكم الذي أصدره القضاة فهو إحراق كتب ابن رشد الفلسفية ونفيه في بلدة "اليسانة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يذهب أرنست رينان في كتابه الشهير "ابن رشد والرشدية " إلى أن تعاطي أبي الوليد الفلسفة هو الذي ألب الناس عليه فيقول، "لا شك في أن الفلسفة كانت سبب محنة ابن رشد، ذلك أنها صنعت له عدداً من الأعداء الأقوياء جعلوا صحة اعتقاده موضع شبهة لدى المنصور".
تركت هذه الحادثة جرحاً غائراً في نفس ابن رشد فظل يذكرها بألم ظاهر. وقال فيلسوف قرطبة في آخر حياته وهو يستعيد مشاهد من محنته، "إن أعظم ما طرأ علي في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبدالله مسجداً بقرطبة وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سفلة العامة فأخرجونا منه". وبعد هذه النكبة تألبت العامة على الفلسفة التي باتت بتحريض من بعض خصومها رديفة الزندقة والخروج عن الملة، وربما كان أول المحرضين هو المنصور نفسه الذي أصدر منشوراً عممه على جميع بلاد المغرب والأندلس يأمر فيه بإحراق كتب ابن رشد وكتب الفلسفة وعلومها.وفي الختام عفا عنه الأمير المنصور فاستعاد مكانته في بلاط الموحدين، لكن الحادثة لم تمح من ذاكرته ومن ذاكرة الثقافة الإنسانية، إذ أصبحت علامة على مطاردة العقل الحر.
توفي ابن رشد في مدينة مراكش سنة 1198 ودفن فيها ثم نقلت رفاته إلى مسقط رأسه بقرطبة. ظن خصوم ابن رشد أن إحراق كتبه سيقضي على جملة آرائه، لكن غاب عنهم أن للفلسفة أجنحة فمتى تعرضت للخطر في مكان أفردت أجنحتها وطارت إلى مكان آخر جديد.
هكذا انتقلت أفكار ابن رشد من قرطبة إلى بقية بلدان أوربا لتكون الأساس النظري الذي سينبني عليه تيار فكري عقلاني جديد سماه رينان " الرشدية"، وهذا التيار سيكون بمثابة الجذوة الفكرية التي ستسهم في تبديد ليل أوروبا بعد قرون من الظلام الدامس.