منذ 1400 سنة ينشد الشعراء ابتهاجاً بشهر اليمن والبركات ويسجل الكُتاب انطباعاتهم عن روحانية تلك الأيام. تختلف التفاصيل من عصر إلى عصر، لكن المحبة تظل راسخة. فكيف تبدى الشهر الكريم في عيون الأدباء الكبار وكيف انعكس في نصوصهم؟ وهل تغيرت صورته مع اختلاف الأجيال؟ أول ما يلفت الانتباه ذلك التنوع الكبير ما بين نصوص شعرية وسردية، وتوثيق ذلك التراث الخاص جداً، واستلهامه في القصص والروايات والسير الذاتية واللوحات البصرية على طريقة الرحالة.
سهرة في بيت تاجر
من النصوص الأولى التي ترصد الأجواء الرمضانية أواخر القرن التاسع عشر سيرة "الأيام" لعميد الأدب العربي طه حسين (1889 ـ 1973)، وإن كان نشرها منتصف القرن العشرين تقريباً: "ولكن رمضان أقبل، وكان الناس يجتمعون في ليالي رمضان عند رجل من أهل المدينة وجيه يعمل في التجارة. وكان سيدنا يقرأ القرآن عند هذا الرجل طوال الشهر. وكان الصبي يرافق سيدنا ويريحه من حين إلى حين بقراءة سورة أو جزء مكانه" ص94. يكشف هذا المقطع أنه في عصر ما قبل التلفزيون و"السوشيال ميديا" كان الناس يتجمعون في بيوت التجار والأثرياء لسماع القرآن الكريم.
طقوس وغلاء
في قاموسه الشهير "العادات والتقاليد والتعابير المصرية"، تحت مادة "الدين"، يحدثنا أحمد أمين (1886 ـ 1956) عن الطقوس الرمضانية التي ازدادت تنوعاً لتشمل احتفال الإفطار والإحسان إلى الفقراء والسهر للسحور، والمسحراتية، ومدافع الإفطار، وكثرة الابتهالات، وإخراج الزكاة. ربما تكشف الصورة المتقشفة التي رسمها طه حسين مقارنة بما تحدث عنه معاصره أحمد أمين، إلى الفرق بين صخب الاحتفالات في المدن أكثر من القرى. هذه الطقوس تردد صداها لدى كبار الأدباء في القرن العشرين وفي مقدمتهم نجيب محفوظ (1911 ـ 2006) الذي كثيراً ما يستحضر المناسبات السياسية والدينية والاجتماعية ومنها أجواء شهر رمضان التي ظهرت ـ على سبيل المثال ـ في روايته "خان الخليلي". يربط محفوظ الطقوس بالأمهات، حيث "أم أحمد" هي المسؤولة عن "جلال الشهر وجماله". ويضيف: "اقترب رمضان فلم يعد يفصل بين هلاله وبين الطلوع سوى أيام قلائل. لكن رمضان لا يأتي على غرة أبداً، وتسبقه عادة أهبة تليق بمكانته المقدسة" ص75.
وتناولت الرواية التي تدور في أجواء الحرب العالمية، علاقة التحضير للشهر الكريم بالغلاء، حيث يتحفظ الابن قائلاً: "لندع الكماليات في ظروفنا الحاضرة القاسية ولندع الله الكريم أن يعيينا على ضرورات الحياة" ص76.
ثم يسهب السرد في التفاصيل حيث انشغلت الأم بتهيئة المطبخ وتبييض الأواني وتخزين ما تيسر من السكر والتوابل والبصل! إنه شهر المطبخ كما هو شهر الصيام، شهر الليالي الساهرة والزيارات الممتعة حيث "تدور الأحاديث على قزقزة اللب والجوز والفستق" ص78.
إلى جانب التبئير الداخلي للطقوس داخل البيت المصري آنذاك، ثمة تبئير خارجي خاص باستطلاع الهلال "وجاء مساء الرؤية، وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشي أضاءت مئذنة الحسين إيذاناً بشهود الرؤية، وقد اجتزأوا بالإضاءة عن إطلاق المدافع لظروف الطوارئ، وازينت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياء لألأ، فطاف بالحي وما حوله جماعات مهللة هاتفة: "صيام صيام كما أمر قاضي الإسلام". فقابلتها الغلمان بالهتاف والبنات بالزغاريد، وشاع السرور في الحي كله كأنما حمله الهواء الساري" ص78.
لمة عائلية
لعل أشهر رواية أطَّرت فضاءها زمنياً بشهر رمضان هي "في بيتنا رجل" لإحسان عبد القدوس (1919 ـ 1990) والتي استلهمت واقعة تاريخية حدثت عشية قيام ثورة 1952 في مصر. جاء استهلالها كالآتي: "أحد أيام شهر رمضان... والساعة الخامسة مساء، قبل الإفطار بساعة ونصف... وكان راقداً في فراشه بإحدى غرف مستشفى القصر العيني". تقيدت الأحداث إجمالاً بتفاصيل الشهر الكريم، حيث نقرأ: "كانت العائلة مجتمعة كعادتها عقب الإفطار، في حجرة "القُعاد" والراديو يلقي إليهم أغانيه" ص33.
إن وسيلة الترفيه الرمضانية آنذاك كانت "الراديو"؛ لأنه لم يكن هناك تلفزيون بعد، وعلى رغم اجتماع أفراد العائلة في حيز صغير يتسم بالحميمية، انشغل كل منهم بهوايته، فالأب يقرأ الجريدة والأم ترتق الجوارب، والابن يقرأ في كتاب، والابنة تعمل بخيوط "التريكو".
لا شك أن اختيار الشهر يعطي للحظة الوطنية التي تعالجها الرواية، بعداً روحانياً، إضافة إلى المفارقة في كيفية إخفاء مناضل داخل بيت مصري لا علاقة له بالسياسة، في توقيت تكثر فيه الزيارات ولمة العائلة.
هواجس صبي صائم
خصص الكاتب يوسف إدريس (1927 ـ 1991) قصة كاملة بعنوان "رمضان" (مجموعة "جمهورية فرحات") تتناول شخصية فتحي الصبي ابن السنوات العشر، الذي رغب في الصيام ورأى "الفُطرة" (البلح الجاف) وعين الجمل تملأ الأجولة أمام الدكاكين، ولأن والده لا يعترف بطهارته، يذهب "فتحي" للصلاة في المسجد: "وملأه الجامع روعة وأحاسيس رنانة فيها دمدمات موسيقية ضخمة، يكُح المصلي من هؤلاء فيكح فراغ الجامع الهائل كله، وإذا قيلت: بسم الله الرحمن الرحيم، فسرعان ما تتضخم وتتضخم، وترن وترن، وتكبر وتكبر، وتموج وتلد بسملات أخريات تتصادم وتتكسر عند الجدران العالية الملساء" ص30.
لعل مزية قصة "رمضان" أنها لم تكتف بوصف المسجد من الخارج ـ مثلما وصف محفوظ زينة مسجد الحسين ـ بل جالت عين السارد ورصدت طقوس الصلاة والوضوء، واستخفاف المصلين بالصبي الأصغر سناً، حيث وقف "فتحي" يراقب حركتهم مستمتعاً بها، وكلما حاول الانضمام إليهم يدفعه أحدهم إلى الخلف أو يخرجه بأية حجة. ومثلما يتابع النص علاقة البطل بطقوس الصلاة والصيام، يرصد تفاصيل السحور والأكل والشرب والسهر والراديو، ومتاعب الصيام وحساب الساعات.
وتعد "رمضان" من القصص القليلة في الأدب العربي التي تحلل باستفاضة نفسية الصبي وهواجسه مع بداية التزامه بأداء فريضة الصيام.
تراث خاص جداً
عبر ما يزيد على ألف وأربعمئة عام بات لشهر رمضان طقوس وتراث خاص به. الشاعر مصطفى عبد الرحمن (1915 ـ 1991) أصدر كتيباً لطيفاً في سلسلة "اقرأ" عام 1986 بعنوان "رمضانيات" تناول الشهر الفضيل من جوانب لغوية وتاريخية وشعرية وصحية وفقهية وتراثية.
في فصل عن الأغنية الرمضانية يتحدث عن جولات الأطفال في الشوارع بالفوانيس وهم يغنون: "وحوي يا وحوي... إياها (إيوحة)/ بنت السلطان... إياها/ لابسة قفطان... إياها". ومعنى الكلمات أن الطفل يتمنى أن يحوي عنده بنت السلطان بما لديها من ملابس فاخرة وكنوز، مشيراً إلى الاختلاف حول أصل الأغنية، إذ ينسبها البعض إلى العصر الفاطمي، والبعض الآخر يرجعها إلى عصر الفراعنة، لأن كلمة "إيوحة" مأخوذة من اسم القمر "إيوح" عند الفراعنة. على أية حال تطورت الأغنية بكلمات حسين حلمي المانسترلي وغناء أحمد عبد القادر لتصبح أول وأشهر أغاني رمضان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخصص عبد الرحمن فصلاً لأشهر حلويات رمضان وهي الكنافة والقطائف، بحيث قيل إن أول من قُدمت له من العرب هو الخليفة معاوية بن أبي سفيان. ويشير إلى ازدهار صناعة الحلويات والفوانيس في عصر الدولة الفاطمية بسبب تنافس حكامها وإسرافهم في إظهار مباهج رمضان. ويستشهد بأبيات تتغزل في الكنافة والقطائف: "تا الله ما لثم المراشفْ/ كلا ولا شمَ المعاطفْ/ بألذ وقعاً في حشاي/ من الكنافة والقطائفْ".
على المنوال نفسه يأتي كتاب أحمد الصاوي "رمضان زمان" حيث قسمه إلى محورين: الأول يتعلق بالمظاهر الرمضانية الضاربة بجذورها في العالم العربي كله، والآخر خاص بكتابات الرحالة عن شهر رمضان في البلاد التي مروا بها. يقول: "في الحرم المكي كانت المشاعيل والشموع تبث في كل أركانه حتى يتلألأ الحرم نوراً ويسطع ضياء حسبما لاحظ ابن جبير في رحلته إلى مكة عام 578هـ".
أما كتاب نعمات أحمد فؤاد (1924 ـ 2016) المعنون بـ "القاهرة في حياتي" فهو أقرب إلى السيرة وتدوين مشاهدات عن القاهرة ومعالمها مثل الجامع الأزهر، وحديقة الأزبكية، لكنها أفردت فصلاً مطولاً لمظاهر شهر رمضان وأشهرها بطبيعة الحال شخصية "المسحراتي" حيث تنقل عن لسان الأثري حسن عبد الوهاب شعراً طريفاً كان يردده المسحراتي: "يا رب قدرنا على الصوم/ واحفظ إيماننا بين القوم/ وارزقنا يا رب باللحم المفروم/ لأحسن يا رب ماليش أسنان".
لحظات العيد
يتوج الشهر الفضيل بعيد الفطر، وفي كتابه "مد الموج" وهو أقرب إلى السيرة والنصوص المفتوحة، يصف الكاتب محمد جبريل (مواليد 1938) تلك اللحظات كما عاشها في طفولته قائلاً: "العيد... كنا نشم رائحته قبل أيام من قدومه. يصحبنا أبي إلى شارع الميدان. نشتري "النقل" وملابسنا الجديدة، ونضع الملابس بجوارنا على السرير. نصحو على أصوات التكبيرات في جامع سيدي علي تمراز. نطل من النافذة الخلفية على المصلين وهم يفترشون ميدان الخمس فوانيس المواجه للجامع. تنتهي الصلاة، فيحل في الساحة الواسعة سوق العيد: المراجيح والحاوي والأراجوز وصندوق الدنيا والنشان والزحام الذي يتزايد حتى يملأ الميدان".