Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الثقافة السورية في عهد الأسدين: تجميل وجه "البعث"

سيطرة كتاب التقارير وأدباء المراكز الرسمية واستفحال الرقابة والمنع والاعتقال بدعم من الاستخبارات

الرسام السوري علي فرزات في المستشفى بعد اعتداء الاستخبارات عليه (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

كيف نقرأ المشهد الثقافي السوري الشامل في عهد حزب البعث خلال حكم الأسد الأب والإبن؟ رقابة شاملة واستخبارات ومنع كتب ومعارض ومسرحيات وأفلام وتوقيف مبدعين وملاحقة معارضن، وسط جو من الحركة الثقافية المعارضة.

كثيرة هي أنواع الرقابة التي سادت الثقافة السورية في عهد النظام البائد، وأسهم مثقفون بعينهم في رعايتها وحمايتها، حتى أحالتهم السلطة الأسدية إلى نوع من العسس الثقافي الذي يعمل تحت إمرتها، فاستخدمتهم كي يسهروا على تلميع سمعة القائد الرمز المنزه عن الأخطاء.

 لعل اتحاد الكتاب العرب أولى المؤسسات التي دعمتها السلطة القمعية على مدى عقود طويلة من فترة حكمها لسورية، فمن ينسى حادثة طرد أدونيس من الاتحاد بتهمة التطبيع مع إسرائيل عام 1995، وما تلت هذه الحادثة من تجميد لعضوية سعدالله ونوس ونبيل سليمان وسليم بركات وحنا مينة؟ من ينسى اليوم الدور الذي لعبه هذا الاتحاد على مدار أعوام طويلة في جعل الثقافة السورية أقرب ما تكون إلى خردة ثقافية، والاشتغال يوماً إثر يوم على تكريس الرقابة المسبقة على الكتب والمطبوعات والصحف تحت شعار "لا صوت يعلو على صوت المعركة".

لقد عمل مثقفو الأسد، الأب ومن بعده الأسد، الابن على كتابة تقاريرهم اليومية في حق عدد من الكتاب والمثقفين السوريين، وحاربوا بلا هوادة كل حساسية جديدة ومناوئة لهم. وهم بذلك أسهموا مع اندلاع الثورة السورية في مارس (آذار) من عام 2011، في الانقضاض على كل المؤسسات الثقافية، وكانت أولى هذه المؤسسات هي وزارة الثقافة، التي كانت تطرح هامشاً معقولاً لحرية النشر بحضور المفكر الراحل أنطون مقدسي كمشرف على إصداراتها. فإن هذا الأمر لم يستمر طويلاً، فسرعان ما تسرب مثقفو الاستخبارات إلى لجان القراءة، وسيطروا بقوة التخوين والترهيب على معظم مديرياتها.

هكذا مثلاً تم فصل الشاعر نزيه أبوعفش من عمله في مديرية التأليف في وزارة الثقافة، ونقله إلى مصلحة مكافحة المتسولين في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل. وهكذا تم إتلاف ديوان "داكن" للشاعر منذر مصري الذي صدر عن الوزارة عام 1989 وسُحبت نسخه كاملة من التداول. وبالتوازي تم منع أقسام الأدب العربي في الجامعات السورية من تناول كتب أدونيس وعادل محمود ومحمد الماغوط ومنذر مصري ورياض الصالح الحسين في رسائل الماجستير والدكتوراه، مثلما تم تحريم تناول تجربة فواز حداد ونبيل سليمان وروزا ياسين حسن في الدراسة الأكاديمية، وقد صدرت قرارات صارمة من فروع حزب البعث في هذا الشأن.

الإرهاب الفكري

لم تكن الصحافة الثقافية السورية في منأى عن هذا الإرهاب الفكري، فقد تم التخلص على مراحل، من الصحافيين والكتاب المشاغبين في الصحف الرسمية، فكثرت الاستدعاءات لهؤلاء إلى الفروع الأمنية، فيما تم إيقاف عدد منهم عن الكتابة، في وقت تم نقل آخرين إلى محافظات ومدن بعيدة من العاصمة لإبعادهم عن المشهد. ولعل أبرز حادثة في هذا السياق هي إيقاف جريدة "الدومري" الخاصة، لصاحبها ورئيس تحريرها الفنان علي فرزات عام 2003، وذلك بعد صدور عدد للجريدة نشر ملفاً بعنوان "الإيمان بالإصلاح". الملف شارك في تحريره نخبة من كتاب ومفكرين سوريين، ومنهم ممدوح عدوان وميشيل كيلو وعادل محمود وحكم البابا وفارس الحلو ومية الرحبي. أرسلت سلطات الأسد الابن وقتها قوات من الأمن والشرطة إلى المطبعة لمصادرته، بحجة "التطاول على القيادة السياسية". ولعل الجميع بات يتذكر الحادثة التي تعرض لها رسام الكاريكاتير علي فرزات عندما قامت جماعات من الشبيحة باختطافه، وتكسير أصابع يديه بعد إعلان وقوفه إلى جانب الشعب السوري في ثورته.

زاولت السلطة الأسدية طوال نيف وخمسين عاماً شتى أنواع الترهيب ضد المثقفين، وهذا لم ينحصر في مجال النشر والطباعة. فقد أطلق على كل مؤسسة وطنية اسم عائلة الأسد، فالمكتبة الوطنية صارت "مكتبة الأسد" ودار الأوبرا السورية هي "دار الأسد للثقافة والفنون"... وسط هذا المناخ القاتم سيطر كتاب التقارير وشعراء المراكز الثقافية على مفاصل النشر والكتابة، وتم تطفيش كل من يوجه نقداً ولو بالتلميح إلى الرئيس المفدى. وتمت الاستعانة لأداء هذه المهمة بمن يطلق عليهم لقب "حراس البوابة"، وهم في الأصل مخبرون مستترون خلف مناصب مديرين ورؤساء تحرير. ويذكر عدد من المثقفين التعميم الشهير الذي أصدره وزير الإعلام في حكومة النظام عام 2002، الذي منع بموجبه الصحافيين والكتاب من نشر أي مادة تنتقد وزارة الثقافة إلا بعد أن تطلع وزيرة الثقافة عليها.

كل هذه الإجراءات تزامنت مع استيلاء اتحاد الكتاب ووزارة الإعلام على رقابة الدوريات والصحف والكتب، والجميع يذكر تلك الصفحات المجتزأة أو الممزقة من الصحف العربية، التي كان موظفو المؤسسة العامة للمطبوعات ينتزعونها من الصحف العربية قبل السماح بتداولها في منافذ البيع. كل شيء كان مراقباً في دولة البعث، لكن الثقافة هي أولى ضحايا هذا النظام، وأسهم مثقفو السلطة وأبواقها في تخوين كثيرين، فامتلأت قوائم منع السفر لمثقفين ومفكرين وكتاب، واكتظت السجون المرعبة بمعتقلي الرأي الذين قضوا أعواماً طويلة من أعمارهم خلف جدران السجون، لعل أبرزهم كان ميشيل كيلو وفاتح جاموس وغسان جباعي وفرج بيرقدار وثائر ديب وسلامة كيلة وجورج صبرا ورياض سيف.

السينما السورية هي الأخرى لم تسلم من هذا التضييق والرقابة وحملات التخوين، إذ لعبت المؤسسة العامة للسينما دوراً جوهرياً في إبعاد عدد من السينمائيين المعارضين عن خطة إنتاجاتها، وتباعاً تم منع عدد من أفلامهم من العرض. ولعل الجميع يتذكر كيف طلب حافظ الأسد شخصياً مشاهدة فيلم "نجوم النهار" لمخرجه أسامة محمد في صالة المكتبة الوطنية، وكيف تم دفن هذا الشريط الروائي الطويل بعد ذلك في أدراج المؤسسة. عقاب جماعي تعرضت له أفلام حققها كل من محمد ملص ونبيل المالح وسمير ذكرى وقيس الزبيدي ورياض شيا، فأبعد هؤلاء عن برامج الإنتاج، وتم وضعهم على القائمة السوداء.

ملاحقة القطاع الخاص

هذا المصير لم يكن أسوأ من المصير الذي لقيته أفلام القطاع الخاص في سوريا مع مجيء الأسد الابن إلى السلطة عام 2000، فقد مارس الرئيس المخلوع سياسة أبيه، وكرست الرقابة في المؤسسة عسفها على أفلام سينمائية عدة، لعل أبرزها كان فيلم "الليل الطويل" لحاتم علي الذي تعرض فيه لواقع المعتقلين السياسيين في السجون السورية، فيما تم منع فيلم "غيلان الدمشقي" لمخرجه هيثم حقي، ومثله تم منع معظم أفلام عمر أميرالاي الوثائقية، مثل "طوفان في بلاد البعث" وفيلم "الحياة اليومية في قرية سورية".

حال السينما السورية لم يختلف كثيراً مع موجة أفلام الحرب، فقد اضطر المخرج محمد عبدالعزيز إلى إعادة عمليات المونتاج لفيلمه "الحرائق" أكثر من 20 مرة، بعد أن طلبت لجان المشاهدة منه اقتطاع كل صور الرئيس الهارب من مشاهد الشريط الروائي الطويل. جاء ذلك وفق تفسير لكل لقطة من لقطات الفيلم، ومن ثم تأويلها بما يبعد عن أعضاء لجنة الرقابة أي مساءلة. كذلك الأمر كان بالنسبة لفيلم "ياسمين شوكي" لمخرجه غسان شميط، في حين رفضت الرقابة في مؤسسة السينما إنتاج عدد من السيناريوهات التي قدمها كل من سمير ذكرى ومحمد ملص وواحة الراهب.

وتجلت ممارسات سلطات الأسد ضد المثقفين في إحباط التجمعات الفنية المستقلة وتفكيكها، ولعل أبرزها كان في تعطيل أنشطة نادي دمشق السينمائي الذي كان مقره المنتدى الاجتماعي في دمشق. وشكل عمر أميرالاي ومحمد ملص ونبيل المالح وقيس الزبيدي وهيثم حقي وآخرون، خلية سينمائية نشطة في هذا النادي، وكانت مواقفها المعارضة علنية داخل الحياة الثقافية والاجتماعية في البلاد. لكن ذلك لم يتحقق إلا بعد صراع خاضته إدارة النادي ضد التيار الشيوعي البكداشي الذي كان يسيطر على النادي في ذلك الحين، وقد نجح السينمائيون عبر انتخابات ديمقراطية بانتزاعه من أيديهم. وقد استمر نشاطهم في ما بعد من 4 حتى 1981، حين اضطر النادي إلى تعليق أنشطته بالكامل بسبب أحداث حماة الدامية في سوريا، واشتداد وتيرة القمع في البلاد. وقد واكب النادي خلال عامي 1979 و1980 انتفاضة النقابات التي اعتبرت وقتها لحظة تاريخية استثنائية في حياة سوريا المعاصرة، بحيث جرى التعتيم عليها ليس من الإعلام الرسمي وحسب، وإنما أيضاً من المهتمين بالشأن السوري.

كان نادي دمشق السينمائي المنبر الوحيد المستقل الذي كان يمارس نشاطه بحرية نسبية، وإنما تحت رقابة أمنية مشددة. وتحول مقر النادي إلى منبر مفتوح للنخب المعارضة في المجتمع للتعبير عن أفكارها ومطالبها، وقد توالى على منبر هذا النادي وجوه من الحياة السياسية السورية بمختلف أطيافها، من أقصى اليسار إلى اليمين الديمقراطي. إلى أن صدر عن وزيرة الثقافة آنذاك نجاح العطار، توجيه إلى صالات السينما الخاصة بعدم استقبال أعضاء النادي، واضعة إدارته أمام خيار أوحد: إما أن يعرضوا في إحدى صالات المراكز الثقافية العائدة للوزارة أو لا يعرضوا أبداً. فقرر أعضاء النادي عندئذ تعليق أنشطتهم من جديد حفاظاً على استقلالهم، ولأنهم اشتموا أيضاً في قرار وزيرة الثقافة محاولة لتهميشهم وعزلهم في مراكز ثقافية مقفرة، لا تفتح أبوابها إلا لمجالس العزاء في أحسن الأحوال.

الرقابة الحديدية

هذه الرقابة الحديدية على النصوص والأفلام كانت بالقدر ذاته على العروض المسرحية، وهنا لا بد من التذكير بالمنع الذي تعرضت له مسرحية "ليل العبيد" لمؤلفها ممدوح عدوان ومخرجتها نائلة الأطرش. حدث ذلك في ليلة افتتاح المسرحية عام 1984، إذ تقاطر حينها أعضاء القيادتين القطرية والقومية لحزب البعث، إضافة إلى وزيري الثقافة والأوقاف كي يراقبوا العرض في مسرح الحمراء. الأمر ذاته حدث مع مسرحية "السهروردي" لمؤلفها ومخرجها غسان جباعي. أمثلة كثيرة يمكن إيرادها عن واقع الرقابة على المسرح السوري في ظل نظام البعث، فعلى رغم استمرار الحركة المسرحية السورية بشق الأنفس في المسارح القومية، فإن هذا توقف على مبادرات فردية حاول مخرجوها وممثلوها وكتابها عدم التخلي عن دورهم في مناوئة سلطة الديكتاتور، وتقديم مواقفهم مما يجري من سلب للحريات العامة وكم الأفواه.

هكذا مثلاً تم إيقاف عرض "طقوس الإشارات والتحولات" لمخرجها فايز قزق ومؤلفها سعدالله ونوس. حدث ذلك في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق عام 2011، ومثلها حوادث عديدة تكررت في ما بعد، مع كل من أسامة حلال في عرضه "جثة على الرصيف" ونوار بلبل في عرضه "المنفردة". وهذا الأخير قدم مقاربة مغايرة للضحية والجلاد، مثلما فعل سامر عمران في عرضه "المهاجران" عن نص للبولوني سلافومير مروجيك.

حاول مسرحيون كثر العمل خارج إطار المسارح الرسمية وقوانينها، فأسست الفنانة الراحلة مي إسكاف فضاءها "دارة الفنون"، وقدمت هناك عروضاً مسرحية وموسيقية وأمسيات شعرية، لكن هذا لم يستمر طويلاً، فسرعان ما تمت فرملة اندفاعة هذا الفضاء، والتضييق عليه إلى أن تم انتزاع المكان لمصلحة منظمة اتحاد شبيبة الثورة. الأمر ذاته حدث في التضييق على مخرجين وأساتذة داخل المعهد العالي للفنون المسرحية، ولعل أبرز من تعرض للتهميش كان الفنان سمير عثمان الباش، فبعد تهديدات بالقتل خرج الباش من أستوديوهات المعهد المسرحي، وقام بتأسيس مدرسة الفن المسرحي في جرمانا (ريف دمشق)، وأطلق من هناك فضاءه المسرحي المستقل، الذي لا يزال مستمراً رغم ضعف التمويل وقسوة الظروف المعيشية.

ومع مطلع السبعينيات أسست مجموعة من الفنانين التشكيليين ما عرف وقتها بـ"جماعة العشرة" التي انتهت عام 1974 بإيعاز شفوي بحلها من وزير الإعلام السابق عدنان بغجاتي. كانت هذه التجربة رداً على ممارسات اتحاد التشكيليين السوريين إزاء تهميش الفنان السوري المستقل. ضمت الجماعة في صفوفها كلاً من فاتح المدرس، وغسان السباعي، ونعيم إسماعيل وعبدالله مراد وآخرين. حادثة تعكس رغبة النظام الأسدي وقتها في إنهاء أي نوع من التجمعات الفنية المستقلة، وتعكس الممارسات ذاتها التي طبقها على الأدباء والمسرحيين والسينمائيين. إذ لم يسمح نظام الأسدين لأي نوع من الحراك التشكيلي الحر خارج اتحاداته ونقاباته الخلبية التي تعج بالمخبرين والدخلاء على المهنة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وجاء اعتقال الفنان يوسف عبدلكي في الأعوام الأولى من الثورة السورية ليؤكد هذا السلوك، بل ليفتح الباب واسعاً على فضح كل التجاوزات التي قام بها النظام مقابل تهميش الفنانين والمثقفين السوريين، فجعلهم مجرد أعضاء في اتحادات نقابية شكلية، لا وظيفة لها إلا مراقبة الفنان أو المثقف والتبليغ عنه لأقرب جهة أمنية.

الولاء قبل الأداء قاعدة ذهبية في نظر أجهزة القمع الدموية، وعليه لم تناسب أعمال عبدلكي مزاج النظام البعثي، فلقد قدم هذا الفنان رسوماً عن شهداء الثورة السورية والأمهات المكلومات، ومنها لوحة "أطفال درعا "و"لاجئون"، مما أسهم في تقليص أدوات التعبير. وأحال ذلك إلى تعميم أنشطة التشريفات على حساب الثقافة السورية، فاستفرد مثقفو الاتحادات وفنانو النقابات بالفضاء العام، وللمفارقة معظم هؤلاء من عديمي الموهبة، أو ممن مهدوا لحضورهم عبر خدمات أمنية جليلة للنظام البائد.

ولعله يحسن التذكير بما فعله غياث الأخرس، وهو عم أسماء الأسد زوجة الرئيس المخلوع، فلقد أطلق النظام البعثي يده في مبنى كلية الفنون الجميلة في دمشق، فاقتطع أكثر من نصف مساحة هذه الأكاديمية العريقة لإقامة ما سماه "المركز الوطني للفنون البصرية". وقد استخدم الأخرس هذا المكان مزرعة شخصية لإدارة صفقات تسويق أعمال فنية مهربة من مستودعات مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة السورية. مما أسهم في انفضاض معظم الرسامين والنحاتين السوريين عن "مركز الأخرس"، والذهاب باتجاه صالات عرض خاصة.

لقد حارب البعث أي مبادرة ثقافية، ومنها كانت مبادرة الفنان فارس الحلو في ملتقى النحت السوري في مشتى الحلو، وقام النظام بمصادرة محترف "البستان" الذي أسسه الحلو في حي الفيحاء بدمشق. وعلى هذا المنوال أصاب الشلل كل مرافق الثقافة، وأبعدت النخب عاماً بعد عام عن لعب دورها المؤثر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة