فجر القصف الروسي العنيف كافة الجسور المؤدية إلى تشيرنيهيف، وفُرض على المدينة حصار صارم، ومع ذلك تمكنت تانيا من التسلل خارج المدينة والتوجه إلى كييف على متن زورق عبر طريق سري.
نجحت السيدة البالغة من العمر 54 سنة بالكاد في النجاة من الموت.
إذ فيما كانت تجاهد للصعود إلى الضفة المقابلة من نهر ديسنا، الذي يمر عبر المدينة، سقط صاروخ على مسافة قريبة منها. وما كانت نجاتها من التمزق والتحول إلى أشلاء سوى بفضل وجود خندق قريب منها.
كان هدفها من هذه الرحلة الخطيرة المساعدة على إجلاء مجموعة من المسنين، ولكن أيضاً الوصول إلى العاصمة من أجل تسجيل جمعيتها الجديدة التي تسعى لإطعام سكان المدينة الواقعة تحت القصف، رسمياً، والبدء بجمع التبرعات لها. ولهذه الغاية، تسللت عبر النهر وعبرت الجبهة وتحملت القصف وإطلاق النيران- وهي مخاطرة جريئة خاضتها مرة أخرى عند عودتها من كييف.
كانت مهمتها طارئة. فالخطر المحدق بسكان تشيرنيهيف لم يقتصر على الموت جراء الهجمات الجوية العنيفة، بل جراء الجوع والعطش كذلك. وتوصلت تانيا، التي عملت رائدة أعمال في حياتها ما قبل الحرب، بالتعاون مع صاحبي مطعمين ورئيسة جمعية خيرية محلية في المدينة، إلى طريقة لجمع المؤن داخل المدينة وتعظيم الاستفادة منها، ولاحقاً لإدخال بعضها سراً.
وفي إحدى المراحل، حفروا بئراً تخدم آلاف الأشخاص، بعد تمكنهم من إيجاد معدات حفر صناعية داخل المدينة، على الرغم من تعرض كل الأشياء للقصف وانقطاع التيار الكهربائي. كما وجدوا مولدات كهربائية- متروكة كذلك- وأعادوا تشغيلها باستخدام طاقة بطاريات سياراتهم.
وتقول تانيا عن مغامرتها إلى كييف: "حذروني من خطورتها، ولكنني خاطرت بكل الأحوال". وتصف مشهد جثث تملأ مياه النهر لمدنيين قُتلوا أثناء محاولتهم الفرار من المدينة.
"عندما وصلت إلى الضفة الثانية، تعرضنا لقصف عنيف. وهو ما حدث لدى عودتي كذلك. ولكنه كان من الضروري جداً أن نؤسس هذه الجمعية ونبدأ بالعمل. فحياة الناس على المحك".
سرعان ما تحولت تشيرنيهيف، الواقعة على ضفاف نهر ديسنا على بعد 140 كيلومتراً فقط من كييف، إلى هدف رئيس في غزو فلاديمير بوتين لأوكرانيا في أواخر فبراير (شباط).
فالمدينة تقع في منتصف الطريق الذي كان لزاماً على القوات الروسية أن تسلكه بعد اجتياحها البلاد من بيلاروس، في إطار محاولة دخولها السريعة الفاشلة إلى العاصمة.
مع قدوم يوم 24 مارس (آذار)، كانت القوات الروسية قد حاصرت تشيرنيهيف بشكل كامل تقريباً، وأحكمت الخناق عليها بطوق لم ترفعه كلياً سوى الأسبوع الماضي.
كان ما يناهز 140 ألف شخص، أو أكثر قليلاً - يعادلون نصف عدد السكان ما قبل الحرب- قد بقوا في المدينة. علقوا من دون مياه جارية ولا طعام ولا كهرباء ولا تدفئة. يقول السكان لـ"اندبندنت" إنهم يتعرضون لقصف لا يهدأ. كما يقولون إن المدارس والمستشفيات والمنازل والأهم، الجسور، قد تدمرت.
وبسبب عدم وجود جسور، أصبح إجلاء السكان شبه مستحيل، وهذا ما قطع المدينة عن خطوط الإمداد بالغذاء والمواد الطبية والمياه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، في وسط هذا الجحيم، خاطرت مجموعة استثنائية واسعة الحيلة من 300 شخص بحياتها كل يوم من أجل إعداد السندويشات وتحضير الطرود الغذائية والطبية لآلاف المواطنين والجنود في المدينة التي دمرتها الحرب.
كان العمل بالغ الخطورة. خلال أسابيع القصف، أصيب ساشا، أحد أعضاء فريقهم، في القصف أثناء عمله في توصيل الطعام، وهو يستعمل عكازات حالياً. كما قُتل أربعة أعضاء في منظمة شقيقة حين أطلقت القوات الروسية النار عليهم فيما كانوا يقودون شاحنتهم الصغيرة محاولين الوصول إلى سكان إحدى الضواحي الجنوبية الشرقية للمدينة.
ولكنهم لم ينقطعوا عن العمل يوماً. واليوم، ما يزال المركز الرئيس- الواقع بقرب مطعم بيتزا يشكل جزءاً من سلسلة يديرها إيغور وشريكه أوليغ- يُقدم الطعام لآلاف الأشخاص، بما في ذلك إعداد ثلاثة آلاف فطيرة بيتزا يومياً للجنود الأوكرانيين.
أثناء الاشتباكات، أسست تانيا بالاشتراك مع إيغور وأوليغ وفيكتوريا- وهي من سكان المنطقة وكانت أساساً تدير جمعيتها الخيرية- جمعية "بريق الخير" أو Sparkle of Goodness.
وجمعوا التبرعات من داخل وخارج تشيرنيهيف، كما من خارج البلاد.
وعندما أحكمت القوات الروسية الخناق على المدينة، نسقوا عملهم مع مطاعم ومتاجر، بغية جمع أكبر كمية ممكنة من المعدات التي تُركت في المدينة.
وحصلوا على موافقة مجلس إدارة المدينة من أجل فتح المستودعات التي هُجرت في الحرب بهدف إيجاد التجهيزات الأساسية ومنها الطحين.
وبعد موافقة أصحاب المؤسسات التجارية المحلية وقادة المجتمع المحلي، حصلوا على مولدات صناعية متروكة، وأصلحوها- وشغلوها باستخدام بطاريات سياراتهم.
وإلى جانب ذلك، تمكنوا من إجلاء ألفي شخص من أكثر الأشخاص عرضة للخطر في المدينة من خلال الطرق التي سلكوها.
ويقول إيغور فيما ينسق إيصال مجموعة جديدة من الطرود الغذائية إلى قرية في ضواحي تشيرنيهيف تحررت منذ وقت قريب من القوات الروسية: "في البداية لم يكن لدينا كهرباء، فاستخدمنا الغاز وحضرنا الطعام في الظلام باستعمال المعدات التي بقيت لنا من مطاعمنا".
ترك الشاب البالغ من العمر 25 سنة مقاعد الدراسة بعمر 17 من أجل تأسيس سلسلة مطاعمه التي كانت مزدهرة قبل الحرب. قرر الالتحاق بالجهد الحربي فور سقوط أول قذيفة في اليوم الأول من حرب بوتين.
ويقول إيغور "تمكنا من إنقاذ ثلاث مولدات في المدينة وسحبها تحت القصف إلى موقعنا".
"وبعد حصولنا على موافقة الإدارة المحلية، فتحنا مستودعات المدينة عنوة لأخذ المستلزمات الضرورية لإطعام الجميع عندما كانت المدينة تحت الحصار".
وتضيف فيكتوريا بأنهم كانوا يعدون، في ذروة القتال، 5 آلاف سندويش في اليوم وآلاف الطرود الغذائية. وعمدوا إلى إيصال الطعام للسكان بسياراتهم الخاصة- حتى حين طار باب إحداها بفعل القصف.
في مطلع شهر مارس، لجأت فكتوريا إلى معارفها من المانحين لكي تجمع مبلغ 3 آلاف يورو (2500 جنيه استرليني) وتشتري به من المدينة معدات صناعية للحفر، شغلتها بواسطة المولدات. وما تزال البئر التي نجحوا بشكل ما في بنائها تعمل وتزود الأشخاص الذين ما تزال مبانيهم مقطوعة بالمياه.
وتشرح فيكتوريا: "حين ساء الوضع، اضطررنا لإيجاد طرق سرية وسلوك طرقات ضيقة وعبور النهر لمحاولة إدخال المؤن".
وتضيف: "مهما كانت الظروف، أطعمنا الناس خلال فترة القصف كل يوم من الأسبوع".
شكلت هذه المجموعة طوق نجاة لكثيرين. كانت ماريا، 69 سنة، تقود دراجتها الهوائية باتجاه المركز للحصول على بعض الخبز. خلال الحصار، حالت الجمعية دون وفاتها ووفاة ابنها، سائق سيارة الإسعاف، من الجوع والعطش.
وتقول بتأثر واضح "كنت أختبئ دائماً داخل الملجأ بسبب القصف على مدار الأيام والساعات. وكان التراب يسقط على رأسي".
وتضيف: "إنما مهما حصل، كان المتطوعون يأتون محملين بالطعام والمياه وما نحتاجه من الأدوية".
"لا أظن أنني سأكون هنا لولاهم".
ولكن تعذر الوصول المباشر إلى بعض المناطق حتى بالنسبة للمتطوعين، لا سيما عندما لقي أربعة أعضاء من منظمة شقيقة يعملون مع جمعيتهم حتفهم بعد إطلاق النار عليهم أثناء محاولتهم توصيل الطعام.
على بعد 500 متر فقط عن المواقع الروسية- في حي فقير من شمال شرقي المدينة- يقول أندريه، 40 سنة، وآنيا، 30 سنة، إنهما اضطرا إلى استخراج عصارة أشجار البتولا من حديقة الحي أمام مبانهم المتهالك حين نفد الطعام والمياه.
تُعد عصارة أشجار البتولا شراباً شعبياً في أوكرانيا، ولكنه قليل السعرات الحرارية والسكر بالطبع ولا يشكل بالتالي بديلاً عن الطعام.
ويتابع أندريه، الفني كهربائي، وهو يجول معنا في القبو الواقع بالكاد نصف طابق تحت الأرض، حيث كان 50 شخصاً يحتمون من القصف "عشنا تحت الأرض طيلة أسابيع ومرت علينا أيام كدنا نموت فيها من الجوع والعطش".
"أطول مدة قضيناها من دون تناول وجبة مناسبة بلغت أسبوعين. حتى الماء أصبح رفاهية-اكتفينا بالاستلقاء، وحاولنا عدم التفكير بالموضوع فيما وقعت القذائف على كل ما فوقنا".
توسلوا إلى سكان المباني السكنية الأكبر القريبة التي فيها حدائق لكي يعطوهم أي خضار مزروعة هناك وجمعوا مياه الأمطار من المصارف على السطح. واضطروا لوضع دلاء في الملعب استخدموها كمراحيض، وطهوا طعامهم في المكان نفسه على شواية يدوية الصنع بين جولة قصف وأخرى.
وتضيف آنيا، وهي تشرح بأن الأشخاص الذين ظلوا قريبين من المواقع الروسية تعرضوا لإطلاق النار: "كنا نخاف الخروج لاستخدام المرحاض لأننا قد نُقتل".
في منطقة أخرى من شمال شرقي المدينة اسمها نوفوزيليفكا، التي فشلت مساعي المتطوعين في الوصول إليها، تتفقد سفيتلانا، 50 عاماً، وزوجها اندريه 44 سنة، حطام منزلهما الذي اخترقت جدرانه عشرة قذائف على الأقل.
لم يتبق ما يمكن إنقاذه.
وتقول سفيتلانا: "جمعنا مياه الأمطار، وحين فشلنا في ذلك، كنا نركض تحت القصف إلى أقرب مستشفى لديه بئر".
بالعودة إلى المركز، ينهمك المتطوعون بتحضير الطرود الغذائية والطبية والصحية لأشخاص بات من الممكن الوصول إليهم، أمثال سفيتلانا وأندريه، بعد انسحاب الروس من المنطقة.
وسعوا نطاق عملهم، وهم يقودون سياراتهم إلى مختلف البلدات النائية التي ظلت حتى فترة قريبة واقعة تحت الاحتلال لأسابيع.
لديهم مؤن ملء طابقين ويقولون إنهم يُطعمون الآلاف بين مدنيين وعناصر من الجيش.
ويقول إيغور فيما يدير جدولاً مزدحماً لتوصيل الطعام: "شهدت على كل شيء، بدءاً من فقدان أشخاص لأرجلهم، ووصولاً إلى وفاة أشخاص آخرين من الجوع".
"عشنا كل يوم كأنه يومنا الأخير، وأقسمنا بالاستمرار".
© The Independent