بات شهر رمضان موعداً سنوياً للجدل الديني، ولم تعد الفتاوى فقط في البرامج الدينية أو تساؤلات الصائمين على صفحات المؤسسات المعنية، بل امتدت الآراء الفقهية إلى أعمال الدراما، وأصبحت التعليقات تتركز على القضايا الشرعية التي تتعرض لها بعض الأعمال الفنية المعروضة ضمن السباق الرمضاني، بدلاً من أن يكون أساس السجال فيها حول الأحداث والحبكة وتطور الشخصيات.
فهل تعد مناقشة الأفكار ذات الأساس الديني أمراً مقحماً على الأعمال الفنية، أم شيئاً طبيعياً في مجتمع تلون الصبغة الدينية كثيراً من قضاياه؟ وهل يضر هذا الخط الجديد بالمضمون الدرامي للمسلسل وقصته الأساسية؟
في مواجهة العاصفة
الفائز بالنصيب الأكبر من هذا السجال هو مسلسل "فاتن أمل حربي"، من بطولة نيللي كريم وشريف سلامة وإخراج محمد جمال العدل وتأليف إبراهيم عيسى، فالعمل الذي يناقش قضية اجتماعية بالأساس، تتعلق بمعاناة النساء في الحصول على حقوقهن بعد الطلاق، سواء نفقة الأبناء أو الحضانة أو تأمين مسكن لائق وغيره، يتعرض بطبيعة الحال لتفسيرات علماء الدين للآيات القرآنية والأحاديث، وتدور بين البطلة وشخصيات شيوخ الدين في العمل مناقشات عدة، حيث تبدو البطلة غير مقتنعة ببعض تفسيراتهم، وهو أمر، وإن لم يتعرض لجوهر الشريعة والأحكام، لكن مجرد انتقاد ما يقوله أي شخص يرتدي عمامة على الشاشة بات أمراً مستهجناً ويستفز كثيرين يعتبرون أن "الشيخ" إذا ظهر في عمل درامي فهو يمثل الدين بأكمله، متهمين صناع المسلسل، وعلى رأسهم مؤلفوه وبينهم، بخلاف إبراهيم عيسى، خالد كساب وعاليا عبد الرؤف، بمحاولة "هدم أركان الدين"، مؤكدين أن البطلة تتطاول على الشريعة، بخاصة حينما تستنكر أن يكون هناك نص صريح يقر ضرورة حرمان الأم من أطفالها بعد الطلاق، وهو المشهد الذي تم تداوله كثيراً والتندر عليه واتهامه بالسطحية، حيث إن كثيراً من الأحكام الدينية مستنبطة من ظاهر النصوص.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الهجوم على المسلسل استحوذ على الشق الأكبر من الجدل خلال النصف الأول من رمضان، وهو متهم بأنه يظهر رجال الدين، إما مستهترين أو متعجرفين يصرخون في وجوه النساء دون سبب، حيث تحولت المعركة هنا إلى معركة مع مؤلفه، الذي سبق وناقش قضايا دينية شائكة عدة في أفلامه، وبينها "الضيف، ومولانا، وصاحب المقام"، كما أن لديه فيلماً مرتقباً هو "الملحد"، ويتهم بعض المعلقين المسلسل بأنه "يحاول فرض أفكار تجديد الخطاب الديني من خلال قصة درامية لا تحتمل كل هذا، حتى بات العمل كأنه منبر (توك شو) يومي، وابتعد عن الإخلاص لفكرة الدراما"، وهو أمر ترد عليه الكاتبة عاليا عبد الرؤوف بالتأكيد على أن "العمل بعيد كل البعد عن المباشرة، والآراء التي قيلت صراحة وبشكل محدد جاءت فقط ضمن مشاهد المحكمة، لأن هذا سياقها، وهي بنود قانونية تقال أمام جهة قضائية، بالتالي فمن الضروري أن تطرح بهذه الطريقة، بخلاف ذلك، فالقصة وتصاعد الأحداث يسيران بشكل طبيعي بما يخدم الدراما، وحتى المتربصين ممن ينتقدون مشهد الاعتراض على سماع الأغنيات في وسيلة نقل جماعية، إذا دققوا فيسجدونه مشهداً طبيعياً يحدث في الحياة اليومية، ولا يحمل أية مبالغة".
من يتصدر تريند الجدل؟
على الرغم من أن هناك كثيراً من النساء يتعاطفن تماماً مع بطلة "فاتن أمل حربي"، ويرون فيها أنفسهن، ترى عاليا أن "البعض صنف العمل بطريقة تضره، وتجاهلوا الشق الفني والدرامي، في ظل وجود حملة هجوم متصاعدة عليه"، وتشدد عاليا على أن "الجانب القانوني تمت مراجعته بشكل دقيق للغاية من قبل مكتب للمحاماة، وكذلك الجانب الديني، الذي راجعه الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر"، لافتة إلى أن أي تعديل طلبه المتخصصون في النص تمت الاستجابة له، وتؤكد أن "المسلسل بالأساس يشتبك مع قانون الأحوال الشخصية المستمد بطبيعة الحال من الشريعة، وما يدعو له ليس عدم أخذ جزء من أحكام الدين في ما يتعلق بمعاملات الزواج والطلاق، بل على العكس توسيع الدائرة لتضم آراء أئمة مختلفين، بما يخدم طبيعة الظروف والعصر ويتوافق مع صحيح الدين".
وفي ما يتعلق بالمشهد المتداول حتى الآن على الرغم من مرور أيام على عرضه، المتعلق بجدل البطلة حول حقيقة وجود نص صريح يحرم احتفاظ المطلقة بأطفالها حتى بعد زواجها بآخر، أكدت الكاتبة أن أحمد الطيب، شيخ الأزهر، قال هذا الكلام صراحة منذ خمس سنوات في لقاء تليفزيوني شهير له، إذ أشار إلى أنه لا يوجد نص صريح يمنع وجود الأطفال في حضانة الأم المطلقة حتى لو تزوجت بآخر.
الأزهر ينزل الساحة
على الرغم من أن صناع المسلسل يثمنون دور الأزهر الشريف في المراجعة، واستعانوا بعلمائه واسترشدوا بآراء شيخه، لكن مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية أصدر بياناً رسمياً شديد اللهجة عبر صفحته في موقع "فيس بوك"، ينتقد بشدة التعرض للدين في الأعمال الفنية، وعلى الرغم من أن البيان لم يسم مسلسل "فاتن أمل حربي"، لكن بنوده كانت تشير بوضوح إلى الموضوعات التي يناقشها العمل، ومما جاء فيه، "أعطى الإسلام الأم حق حضانة أولادها عند وقوع الانفصال، حتى يستغنوا عنها إذا لم يكن هناك عارض أو مانع من الحضانة، ولا ينبغي مطلقاً أن يكون الطفل بين يدي والديه أداة ضغط أو دليل انتصار مُتوَهَّم".
ويضيف البيان، "التستر خلف لافتات حقوق المرأة لتقسيم المجتمع، وبث الشقاق بين الرجال وزوجاتهم بدلاً من محاولة زرع الود والمحبة وعرض النماذج المُثلى للأسرة الصالحة والمجتمع المصري، وتصوير بعض الأفراد للتراث الإسلامي كعدو للمرأة، واستخدام الإعلام والدراما لتشويه هذا التراث فكر خبيث مغرض يستبيح الانحرافات الأخلاقية ويحاول تطبيعها، كما يستهدف تنحية الدين جانباً عن حياة الإنسان وتقزيم دوره، ويدعو إلى استيراد أفكار غربية دخيلة على المُجتمعات العربية والإسلامية، بهدف ذوبان هويتها وطمس معالمها".
ويتابع البيان، "تعمد تقديم عالم الدين الإسلامي بعمامته الأزهرية البيضاء في صورة الجاهل، الإمعة، معدوم المروءة، دنيء النفس، عَيِي اللسان في بعض الأعمال الفنية، تنمر مُستنكَر، وتشويه مقصود مرفوض، لا ينال من العلماء بقدر ما ينال من مُنتقصيهم، ولا يتناسب وتوقير شعب مصر العظيم لعلماء الدين ورجاله".
اللافت أن البيان المطول شدد في أغلب بنوده على الأفكار التي جاءت في المسلسل، الذي يتحدث عن أزمات تعانيها النساء المطلقات في المحاكم، ولم يركز في أي من بنوده بشكل واضح على الأزمات التي أثارتها مسلسلات أخرى، بينها "المداح- أسطورة الوادي"، الذي اتهم صراحة بالترويج لأفكار الدجل والشعوذة، وهي أمور يجدها معلقون عبر مواقع التواصل الاجتماعي تشوه صورة الدين، الذي يدعو إلى إعمال العقل والسعي إلى العلم والتطور، وليس إلى الارتكان لمفاهيم مثل تلك، إذ يطل حمادة هلال (صابر) في الموسم الثاني من العمل، ليزيد من حدة الانتقادات المتصاعدة ضد المسلسل، المتهم بالترويج لأفكار مثل السحر، فأحداثه تدور حول عالم الجان الذين يمكن للبطل أن يتواصل معهم، وهي حكاية مثيرة، وعلى الرغم من شعبية العمل وإعجاب قطاع كبير من المتابعين به، لكنه أيضاً يفجر انتقادات حول العالم الذي تدرو فيه الأحداث، فيما بطله، حمادة هلال، يحسم الأمر بتصريحات تليفزيونية في بداية عرض المسلسل، مؤكداً أن "هدف القصة تحذير الجمهور من السير وراء تلك الأمور، وأن يتشبثوا بإيمانهم بالله ويتقربوا إليه".
وفي ما يتعلق بالجدل الذي استأثر به مسلسل "فاتن أمل حربي" منذ بداية شهر رمضان، جاء عمل آخر لينافسه في المضمار نفسه، وهو مسلسل "بطلوع الروح" الذي بدأ عرضه في النصف الثاني من الشهر، من إخراج كاملة أبو ذكري وتأليف محمد هشام عبية، وتتصدى لبطولته منة شلبي بصحبة إلهام شاهين، وتدور قصته حول تجنيد النساء في معسكرات "داعش" في سوريا.
هذا العمل يواجه أيضاً هجوماً ضارياً، إذ يرى بعض المعلقين أن هدفه تشويه الدين، على الرغم من أن المسلسل يتحدث عن الإرهاب، وكيف يحاول أن يخدع قادة التنظيمات المتطرفة الشباب بحجة تنفيذ أحكام الشريعة، ليجندوهم لخدمة أهداف وأجندات خاصة، وسارعت الفنانة إلهام شاهين، في وقت سابق، بالرد على الهجوم الذي يتعرض له العمل، مؤكدة أنها تحاول فضح أهداف وأساليب الجماعات الإرهابية، مشددة على أن المسلسل يدافع عن الدين الإسلامي الحق، ويكشف حقيقة التيارات التي تشوه صورته.
إسقاطات غير مباشرة
وينضم لسباق الجدل الديني، لكن بوتيرة أقل شراسة، مسلسل "جزيرة غمام"، بطولة طارق لطفي ومي عز الدين وإخراج حسين المنباوي وتأليف عبد الرحيم كمال، والصبغة الدينية دوماً حاضرة في مؤلفات عبد الرحيم كمال الدرامية، إذ كانت الروح الصوفية مسيطرة بقوة في مسلسل "الخواجة عبد القادر" ليحيى الفخراني وسلافة معمار، واستعرض مسلسل "ونوس" فكرة الغواية والشيطان، كما ناقش المؤلف التطرف الديني في مسلسل "القاهرة كابول" الذي عرض، العام الماضي، من بطولة فتحي عبد الوهاب وطارق لطفي، ليعود هذه السنة لمناقشة فكرة التشدد، كما أن الشخصية الرئيسة (خلدون) تحمل إسقاطاً مباشراً على فكرة الشيطان، الذي يحاول أن يغوي الإنسان وينتزعه من الحياة الطيبة، واعتاد المشاهد على أفكار كمال التي تأتي دوماً في سياق نقاشات فلسفية هادئة ضمن حوارات أعماله، بالتالي فإن أفكاره تمر دون صخب، وعادة لا تثير الغضب مهما طرحت من رؤى بعيدة عن السائد والمعتاد، وكان عبد الرحيم كمال أكد في تصريحات تليفزيونية سابقة أن "الفن ليس أبداً ضد الدين، والمقدسات سوف تظل مقدسات، لكن الخطاب الديني يجب تجديده لأنه ليس مقدساً، وفكرة التجديد ليس مكانها المؤتمرات أو المنابر فقط، بل يجب أن يتوسع الأمر ليشمل مجالات عدة ليتحقق الإصلاح".