منصة "العصفور الأزرق" أصبحت بأهمية المؤسسات الدولية لمئات ملايين البشر في خلال عقد ونيف، كما حدث مع خدمة "فيسبوك" قبلها. فجزء لا بأس به من البشرية بات مرتبطاً ومتكلاً على السوشيال ميديا بشكل حيوي وحياتي، لا سيما قطاعات الشباب والمجتمعات المدنية. فبعد أن كانت الإنترنت مكاناً للاستكشاف والترفيه في نهاية التسعينيات وأوائل القرن العشرين، باتت مساحة حقيقية، ولو كانت غير مادية، للحركة الإنسانية على جميع الصُّعد، السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والثقافية، والفنية، إلى عمق المسائل النفسية.
تحول العالم الافتراضي إلى أبعاد بالتأثير نفسه لنظيره المادي. وانبثقت السوشيال ميديا من أكثر مساحة تقدماً في الإنترنت، وباتت أوكسجيناً يومياً للمجتمعات. وفي قلب هذه المجرة الافتراضية، برزت منصة "تويتر" كشمس تضيء النقاش والأفكار والثقافة المسيطرة. فأصبحت المنصة نوعاً من إعلام بديل حيث يتم صناعة الرأي. وسرعان ما تشكلت "نخب تويترية" تميزت بالحصول على إشارة زرقاء.
"نخبة الإشارة"
مع تصاعد التسييس في عالم "تويتر"، ومشاركة الرؤساء، والملوك، ورؤساء الحكومات، الحاليين والسابقين، والوزارات، والأحزاب، والمثقفين، وعشرات الملايين من المسجلين، بات "فضاء تويتر" نوعاً من سوق عكاظ افتراضي تتلاقى فيه الأفكار والتعليقات، بسرعة الصوت، وربما أسرع، إذا رصدناها عبر الكوكب.
وحيث إن المنظومة باتت أيضاً سوقاً اقتصادية-سياسية تؤثر في الحياة السياسية في عالم الواقع، وتؤجج التظاهرات، والثورات، والصدامات، والحروب، وغيرها من الأحداث والتطورات في العالم، تنظمت مجموعات الضغط، وشبكات المصالح، والنخب، لتحاول السيطرة على هذه المساحة، وتنظمها. فتجلت في قوتين؛ الأولى تشكلت عبر شبكة نخبوية لمن حصل على الإشارة الزرقاء، وهي اعتراف بالشخص المشارك مؤثراً؛ أي صاحب رأي ما. وأصحاب الإشارة الزرقاء باتوا يعتبرون النخبة المؤثرة في النقاش، والمواضيع، وفي النهاية، إرساء قواعد ما هو مقبول وغيره، وشرعي أو سوى ذلك في عالم "تويتر".
كل هذا أدى إلى سيطرة "النخبة الزرقاء" على عملية إطلاق مواضيع النقاش Trends. فإذا أطلقت "مجموعة عالية" من هذه النخبة ملفاً للتداول، تلحقها مئات الحسابات بالتغريد. وتتشابه جميعها بشكل كبير وكأنها راجمة تصب ضغطها على رواية معينة، أو مؤسسة، أو شخصية ما، وتفرض التفسير والخطاب المسيطر عليها. من هنا فخلال العقد الماضي، بات لـ"تويتر" نخبة منظمة تقود المحتوى وتفرضه على المنصة عبر "عواصف تغريدية". بالتالي، فمن يتحكم "بالجيش الأزرق" يسيطر على ثقافة المنصة كأمر واقع. والمتحكم عملياً، بخاصة منذ نهاية عقد الألفية الثانية هو النخب الغربية السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والفنية، المتكوكبة حول اليسار الأميركي الجديد وحلفائه، بسبب كثافة أعداد مثقفيه، وتموقعهم في مختلف قطاعات الفكر، والفن، والجامعات، والإعلام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إلا أن الفريق المعروف كمحافظين في أميركا والغرب لهم أيضاً وجودهم الكثيف ولكن ليس بقوة المعسكر النيوليبرالي. ويتساءل البعض لماذا يتم التركيز على الانقسامات السياسية الأميركية وليس على التوزيعات السياسية في العالم أجمع؟ الجواب واقعي وهو أن شركة "تويتر"، ولو كانت عالمية، تبقى عملياً شركة أميركية، وبالتالي تدور المجابهات التغريدية في إطار الفلك السيبراني الأميركي.
أما القوة الثانية التي تلعب دور الضبط والإيقاع لحياة التغريد، فتكمن في سلطة المؤسسين والمجلس التنفيذي، ومقره سان فرانسيسكو، وعلى رأس المؤسسين جاك دورسي، الذي طبع الشركة بشخصيته كما فعل مارك زوكربيرغ مع "فيسبوك"، وقبلهما بيل غيتس مع تجمع شركات مايكروسوفت.
المجلس هو من يدير ويرسم السياسة والخطاب المقبول، إلا أن هنالك من لديه قدرة، ونادراً ما يستعملها، وهم المساهمون؛ أي مالكو الأسهم. وهنا ترسم خريطة المواجهة المقبلة. وهذه الهزة أيضاً تأتي من ساحة الصراع السياسي الأميركي.
الحرب الأميركية داخل "تويتر"
طبيعي انعكست المواجهات السياسية في الولايات المتحدة على مساحة التغريد، وتصاعدت بقوة خلال الأعوام الماضية، لا سيما خلال فترة دونالد ترمب الرئاسية، حيث صعدت المعارضة ضده بشدة على "تويتر"، وقصف الرئيس أيضاً بضراوة من حسابه الرسمي والخاص. وشهدت آخر سنة لولايته أعنف المواجهات السيبرانية التي عكست المواجهات الميدانية في شوارع بورتلاند، وسياتل، ونيويورك والعاصمة، بين انتيفا، وBLM من ناحية والشرطة من ناحية ثانية.
مع انتقال التراشق إلى السوشيال ميديا، تحولت ساحة التغريد إلى مكسر عصا بين المعسكرين. وبدأت سلطات "تويتر" تعلق حسابات قريبة من ترمب، حتى وصلت إلى تعليق ومن ثم إزالة حسابه الذي وصل إلى أكثر من مليون متابع. وعلى الرغم من ملايين الأنصار، قررت إدارة "تويتر" الإزالة تحت ضغط أكثرية أصحاب الإشارة الزرقاء. وأدى إنهاء ترمب من "تويتر" إلى تعميق الانقسام السياسي في البلاد.
بعد الخروج الدراماتيكي لترمب من البيت الأبيض، وتمركزه في دارته في بالم بيتش فلوريدا، قرر إطلاق منصة بديلة ومنافسة لـ"تويتر" وكلف الرئيس السابق للجنة الاستخبارات في الكونغرس، دافيد نونيس بإطلاقها. إلا أن أي منصة جديدة، حتى لو استطاعت حشد ملايين المتابعين المحافظين، ستأخذ وقتاً ليس بقصير للوثوب إلى المرتبات العليا.
ظاهرة "إيلون ماسك"
المواجهة الأميركية داخل "تويتر" لم تنتهِ مع فصل ترمب عن المنصة إنما انتقلت ساحتها إلى منازلة بين "المليارديرات" والمساهمين. فبعد أن استقال دورسي كرئيس لمجلس الإدارة، فاجأ صاحب شركة "تسلا" أحد أغنى أغنياء العالم، إيلون ماسك، المولود في جنوب أفريقيا، وأصبح أميركياً، العالم بشرائه أسهماً في "تويتر" جعلته أكبر مالك للأسهم في الشركة، مما مكنه أن يدخل إلى مجلس الإدارة. ولبضعة أيام أعلن ماسك أنه سيطرح إصلاحات "تضمن حرية الرأي" على المنصة، بشكل يضعف الإجراءات التي اتخذها المجلس حيال المحافظين المؤيدين لترمب. فقام الأخير بإعلان إجراءات تحد من تقدم ماسك، لو قرر الانضمام إليه. عندها عدل صاحب "تسلا" خطته وتقدم بعرض لشراء كامل شركة "تويتر" بأكثر من 42 مليار دولار، صادماً الرأي العام العالمي ببادرة كهذه. مما فجر قنبلة إعلامية حيث اعترض التيار النيوليبرالي المؤيد للرئيس السابق أوباما على "محاولة السيطرة" على منصة التغريد العالمية، بينما أيد المحافظون مشروع ماسك "للحفاظ على حرية التعبير". بعض المساهمين ذوو الأبعاد السياسية رفضوا العرض، ولكن عدداً متزايداً من أصحاب الأسهم أعلنوا أن رفض عرض ماسك طعنة لحقوق المساهمين المالية. المواجهة الآن مستمرة، إذ يسعى صاحب "تسلا" لاستمالة أكبر عدد من المساهمين إلى جانبه، فيتمكن من شراء شركة "تويتر"، أم أن يحشد مستثمرين آخرين لينضموا إلى عرضه الشرائي مما يجعل عملية الممانعة للشراء صعبة أو مستحيلة.
لا ندري بأي اتجاه ستذهب السفن، ولكن باتت أكبر معركة سياسية مالية منذ إطلاق الملياردير الأسترالي-الأميركي روبيرت موردوخ شبكة "فوكس نيوز" في نيويورك عام 1997.
لقد دخل عالم التغريد، بل عالم الإنترنت إلى مرحلة جديدة حيث أصحاب المليارات يتناطحون للسيطرة على المنصات الافتراضية. وكان هذا متوقعاً اقتصادياً، إلا أن معركة إيلون ماسك لشراء "تويتر" ليست فقط بأبعاد مالية، بل أيضاً أخرى سياسية استراتيجية، إذ تتصارع تيارات كبرى داخل أميركا والغرب حول اتجاهات هذه الكتلة الأقوى عالمياً. ونتائج من سوف يتحول إلى المشرف على "تويتر" في دنيا السايبر، ستؤثر في العمق في من سيؤثر في القرارات الكبرى جيوسياسياً في العالم اليوم وغداً.