دخلت الثروة النفطية، مصدر الدخل الرئيسي لليبيا، من جديد دائرة الخلاف السياسي المتصاعد منذ أسابيع، لتصير رهينة الانقسامات السياسية مع موجة من الإغلاق القسري للمنشآت الحيوية، نتيجة للصراع بين حكومتين متنافستين. ومنذ بداية الأسبوع، أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط وهي هيئة حكومية، حالة "القوة القاهرة" وتعليق العمليات في ميناءين نفطيين مهمين في شرق البلاد، فيما يستمر إغلاق ستة حقول نفطية في جنوب البلاد وشرقها. وتتراوح خسائر ليبيا جرّاء إغلاق عدد من حقول النفط بين 50 إلى 70 مليون دولار يومياً، وفقاً لما قاله وزير النفط الليبي محمد عون في لقاء مع "الشرق" إن الاضطرابات السياسية الأخيرة خفضت إنتاج النفط بنحو 400 ألف برميل يومياً، بعد أن كان نحو 1.2 مليون برميل نفط خام يومياً، ونحو 2.5 مليار برميل غاز، مضيفاً: "شكّلنا لجنة لإعداد تقرير تفصيلي عن تأثيرات إغلاق حقول النفط في الاقتصاد المحلي وحياة الأفراد". وانخفض إنتاج النفط الليبي بأكثر من نصف مليون برميل يومياً بسبب موجة من التظاهرات السياسية التي اجتاحت صناعة الطاقة في الدولة العضو في "أوبك".
خسارة 600 ألف برميل يومياً
وتسبب إغلاق الحقول بخسارة 600 ألف برميل أو ما يعادل نصف إنتاج ليبيا اليومي من الخام، في حين أن البلد الذي ينعم بأكبر احتياطيات في أفريقيا، واقع في قبضة أزمة مؤسسية لا تنفصم.في فبراير (شباط)، عين مجلس النواب في الشرق في طبرق فتحي باشاغا رئيساً جديداً للوزراء. لكنه لم ينجح في إقصاء حكومة عبد الحميد الدبيبة الذي رفض تسليم السلطة قبل إجراء الانتخابات، على الرغم من الوساطات المتعددة لحثه على التنحي سلمياً. ففي شرق ليبيا تطالب الجماعات التي تقف وراء الحصار النفطي بنقل السلطة إلى باشاغا الذي يحظى بدعم المشير خليفة حفتر الذي يسيطر بحكم الأمر الواقع على العديد من المنشآت النفطية المهمة.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن الباحث المتخصص في الشؤون الليبية جلال حرشاوي قوله بأن إغلاق حقول النفط "بالمظهر المباشر للأزمة السياسية الحادة التي تدور حالياً بين الطيف الموالي لحفتر وذاك الموالي للدبيبة".ويضيف أن "القيادة العامة لتحالف حفتر هي التي تعمدت فرض حصار نفطي من أجل زيادة الضغط على الدبيبة حتى يتخلى عن منصبه".
ومن خلال إغلاق هذه المصالح الحيوية، يريد الشرق حرمان حكومة الدبيبة من أموال النفط، بالتالي "إجبارها على الاستقالة"، كما يرى هامش كينير، من معهد Verisk Maplecroft للتحليل. ومع ذلك، جدد الدبيبة من مقر حكومته في طرابلس، القول بأنه لن يتنازل عن السلطة إلا لحكومة منتخبة، وحث النائب العام على فتح "تحقيق فوري" في إغلاق المنشآت النفطية.
وتأتي هذه الاضطرابات في وقت "ترتفع أسعار النفط بشدة" تحت تأثير الحرب في أوكرانيا، كما قالت المؤسسة الوطنية للنفط بأسف، لتحرم ليبيا من إيرادات قياسية من بيع الخام، قد لا تتكرر لعقود طويلة مقبلة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما يساعد انخفاض صادرات ليبيا على إبقاء الأسواق الدولية تحت الضغط بما يصب في مصلحة روسيا التي تؤدي دوراً رئيسياً في ليبيا من خلال دعم حفتر، بما في ذلك عسكرياً بمرتزقة شركة "فاغنر" الخاصة المرتبطة بالكرملين والتي تنتشر في شرق البلاد وجنوبها، بل وحول بعض المنشآت النفطية. في بداية عام 2020، في خضم حرب أهلية، فرض حفتر حصاراً نفطياً استمر لأشهر، لكن فشل هجومه على العاصمة لاحقاً أقنعه بالتخلي عنه. تكبدت البلاد حينها خسائر قدرت بنحو 10 مليارات دولار. وانتعش لاحقاً الإنتاج تدريجاً إلى 1.2 مليون برميل يومياً في المتوسط. ومعظم الإيرادات تغذي البنك المركزي. ويشرح الباحث الدولي جلال حرشاوي أن "الشرارة" التي عززت الدافع إلى إغلاق المنشآت هي "الاتفاقية التي أبرمت بين مؤسسة النفط وحكومة الدبيبة في 13 أبريل (نيسان)"، وتتعلق بتحويل 8 مليارات دولار من عائدات النفط إلى خزائن حكومة طرابلس. وأثارت هذه الخطوة استياء السلطة التنفيذية الموازية برئاسة باشاغا التي لم تعترف بها دولياً سوى موسكو، إذ انتقدت "التبذير المتعمد للمال العام لمصالح شخصية وسياسية ضيقة".
في المقابل، يقول كينير إن مؤسسة النفط "ستتلقى مخصصات تمويل طارئة من وزارة المالية لعملياتها" بموجب هذه الاتفاقية. ويقول جليل حرشاوي إن الاتفاقية عُدت بمثابة "تعزيز لقدرات الدبيبة على الاستمرار. غير أن حفتر وأنصاره يرغبون في تجفيف مصادر تمويله إلى أن تنهار حكومته". إلى ذلك حذر السفير الأميركي ريتشارد نورلاند ونائب مساعد وزير الخزانة إريك ماير في لقاء مع محافظ البنك المركزي الليبي من استخدام عائدات النفط "لتحقيق أهداف سياسية حزبية"، بحسب بيان للسفارة الأميركية. وفي الوقت الذي تتجه كل الأنظار إلى أوكرانيا، تبدو مخاطر أن تفضي الأزمة الحالية في ليبيا إلى نزاع مسلح جديد "حقيقية".
يقول حرشاوي محذراً إنه "ما زال من الممكن تحقيق انتقال سلمي في ليبيا، لكن نظراً للسرعة التي يفقد بها حفتر تريثه، قد ينزلق الوضع الحالي بسهولة إلى حرب شاملة".
الموانئ النفطية
وتكرّرت عمليات إغلاق الحقول والموانئ النفطية في السنوات الماضية بسبب احتجاجات عمالية أو تهديدات أمنية أو حتى خلافات سياسية، ونتج من ذلك خسائر تجاوزت قيمتها 100 مليار دولار، بحسب البنك المركزي. وتعاني ليبيا من أزمة سياسية متصاعدة مع نزاع بين حكومتين: واحدة برئاسة وزير الداخلية السابق باشاغا منحها البرلمان ثقته في مارس (آذار)، والثانية منبثقة من اتفاق سياسي رعته الأمم المتحدة قبل أكثر من عام ويترأسها عبد الحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة إلا عبر انتخابات.