وسط حال من الترقب والارتياح، استقبلت الأوساط السياسية والعسكرية والاجتماعية ما أصدره الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من أوامر وتعليمات بإلغاء الهجوم على موقع "منطقة آزوف ستال الصناعية" في ماريوبول.
وكانت القوات الروسية مدعومة بفصائل من جمهوريتي "دونيتسك" و"لوغانسك" توصلت بعد سقوط مدينة ماريوبول خلال الأيام القليلة الماضية إلى فرض حصارها حول هذا الموقع، لكنها لم تستطع اقتحامه لأسباب يعود معظمها إلى وجود الكثيرين من المدنيين داخل مبانيه، فضلاً عما تتمتع به تلك المنطقة منذ سنوات الاتحاد السوفياتي السابق من تحصينات دفاعية هائلة، يعود تاريخ بعضها إلى سنوات الحرب العالمية الثانية.
الرئيس بوتين قال تعليقاً على تقرير وزير الدفاع سيرغي شويغو، حول سير المعارك والعمليات في تلك المنطقة، إن الهجوم غير مناسب، مشيراً إلى ضرورة إحكام تطويق هذا الموقع إلى "الحد الذي لا تنفذ منه ذبابة"، بحسب تعبيره. وعزا الرئيس الروسي ذلك إلى ضرورة الحفاظ على أرواح وصحة القوات الروسية، فيما أمر بتقديم ترشيحات القيادة العسكرية الروسية لمن يستحقون أوسمة وتقدير الوطن، وإن قال "إن الجميع يستحقون ذلك بوصفهم أبطالاً في عيون روسيا".
وكشفت المصادر الروسية أن القيادة الروسية سبق وأتاحت فرصة الخروج الآمن للمحتجزين في قلعة "آزوف ستال"، إلا أن قيادات هذه الوحدات رفضت هذا العرض، واشترطت لذلك السماح لهم بالخروج مع أسلحتهم، مع الجرحى منهم إلى جانب جثامين من لقوا حتفهم، وتوفير المواصلات اللازمة لنقلهم إلى بلد ثالث، وهو ما لم تقبل به القيادة العسكرية الروسية.
وتعليقاً على تقرير وزير الدفاع الروسي وإشارته إلى أن هناك ما يقارب ألفين ممن وصفهم بقوات "النازيين" من فصائل قوات "آزوف" و"القطاع الأيمن" وغيرهم محتجزين ممن لم تسمح لهم قيادة هذه القوات بالخروج والاستسلام، دعا بوتين إلى توفير المساحة الزمنية اللازمة لخروجهم بضمان أمنهم وحياتهم، ومحاكمتهم لاحقاً بموجب القوانين الروسية والمواثيق الدولية، مع ضرورة الاستمرار في الحصار.
متى تنتهي العملية العسكرية الروسية؟
وفي الوقت الذي اعتبرت فيه مصادر غربية سقوط ماريوبول بوصفه أول نصر عسكري كبير تحققه القوات الروسية منذ بداية العملية العسكرية في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) الماضي، كشفت مصادر روسية عما تحقق من انتصارات، فيما نشرت خريطة تسجل كل المناطق التي تخضع اليوم لسيطرة وإشراف القوات الروسية بمحاذاة كل ضفاف بحر آزوف والمناطق البرية المتاخمة لشبه جزيرة القرم، وصولاً إلى مقاطعة خيرسون بما فيها العاصمة التي تحمل الاسم نفسه، وبما يقترب إلى حد كبير من ميناء أوديسا على ضفاف البحر الأسود.
وأشارت مصادر روسية إلى أن مجمل مساحات هذه المناطق والمقاطعات تقترب من حجم مساحة فرنسا، في الوقت الذي أعلنت فيه موسكو عن أنها في سبيلها إلى استعادة كل الأراضي التاريخية لمقاطعتي "لوغانسك" و"دونيتسك" اللتين أعلنتا انفصالهما من جانب واحد عن أوكرانيا في مارس (آذار) 2014، وحظيتا باعتراف موسكو في 23 فبراير الماضي.
وكانت مصادر روسية رسمية أكدت، في معرض تعليقها على الموعد المحتمل للانتهاء من "العملية العسكرية الروسية الخاصة"، أن هذا الموعد يرتبط بالانتهاء من المهام المحددة التي أوردها الرئيس بوتين في بيانه الذي استهل به تلك العملية، وفي مقدمتها نزع سلاح القوات الأوكرانية والقضاء على بنيتها التحتية، واجتثاث جذور القوات النازية وفصائل القوميين المتطرفين في أوكرانيا.
وكان الرئيس بوتين أشار إلى أن المهمة تشمل أيضاً الاستجابة إلى طلب جمهوريتي "لوغانسك"، و"دونيتسك" المعترف بهما من جانب موسكو، لمساعدتهما في مواجهة القوات الأوكرانية الحكومية، واستعادة حدودهما الإدارية التاريخية. وذلك يعني استمرار تقدم القوات الروسية مع قوات هاتين الجمهوريتين في اتجاه الشمال، بعد أن انتهت من "السيطرة على كل الأراضي الموجودة في جنوب شرقي أوكرانيا، المتاخمة برياً وبحرياً لشبه جزيرة القرم، وتأمين مصادر المياه التي لطالما تحكمت فيها كييف طوال السنوات الثماني الماضية، وقطعتها عن مواطني القرم.
بوتين يتعهد وبيلاروس تصر على المشاركة
وعلى صعيد الاتصالات بين موسكو وكييف، أكدت مصادر الكرملين استعداد روسيا لمواصلة المباحثات، في إطار مسودة الوثيقة التي أرسلتها إلى الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وتعليقاً على ما قاله الأخير حول أنه لم يتلق ولم يشاهد أية نصوص، قال دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين، إن "تصريح رئيس أوكرانيا يثير التساؤلات"، مستدركاً: "لماذا لم يبلغوا زيلينسكي بالاقتراحات الروسية حول النص؟"، مؤكداً أن "العبارات الروسية المقترحة في الصيغة الأخيرة، سُلمت إلى الوفد المفاوض الأوكراني، وسنواصل انتظار الرد".
كانت موسكو الرسمية سبق وأعلنت تأكيدها ضرورة مشاركة بيلاروس في أية مباحثات تتعلق بالتسوية النهائية للموقف الراهن في أوكرانيا، وهو ما كان الرئيس ألكسندر لوكاشينكو طالب به خلال مباحثاته التي أجراها مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، أثناء زيارتهما لقاعدة "فوستوتشني" لإطلاق الصواريخ والمركبات الفضائية بالشرق الأقصى، في وقت سابق من الشهر الجاري.
وفي حديث إلى وكالة أنباء "تاس"، قال مدير الدائرة الثانية لرابطة الدول المستقلة بالخارجية الروسية، أليكسي بوليشوك، إن موسكو لا توافق على انضمام مينسك إلى الاتفاق وحسب، بل وتصر بشكل مباشر على إشراك بيلاروس في الاتفاقات المستقبلية وجعلها إحدى الدول الضامنة، مضيفاً أن "ذلك سيحقق التوازن داخل نادي هذه الدول الضامنة".
وتابع بوليشوك: "بالطبع بحثنا هذا الموضوع مع الأصدقاء من بيلاروس، الذين يساعدون المفاوضات (الروسية- الأوكرانية) ويوفرون منصة لها". وكان رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو أكد أنه لا يمكن أن تكون هناك مفاوضات بشأن أوكرانيا من دون مشاركة مينسك، أو بموجب اتفاقات منفصلة من خلف ظهرها، وأن روسيا تتفهم هذا الموقف.
ونقلت وكالة "نوفوستي" عن لوكاشينكو قوله إن "مينسك لا تنطلق من أن بيلاروس وُضعت في نفس السلة مع روسيا... لا، نحن ننطلق من أن هذه الحرب وراء حدودنا. إنها تؤثر بشكل خطير في الوضع في بلادنا. لذلك، لا يمكن أن تكون هناك اتفاقات منفصلة وراء ظهرنا. وأنا مقتنع تماماً وأعلم أن روسيا تتفهم هذا الموقف. لا يوجد ضرر في هذا، لكنه سيتعارض مع خطة الغرب. لكن هذا لا يعني أننا يجب أن نرقص على أنغامهم".
وحول الضغوط والعقوبات التي فرضتها بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها من بلدان "المعسكر الغربي" ضد روسيا وبيلاروس، أشار أليكسي بوليشوك مدير الدائرة الثانية لرابطة الدول المستقلة بوزارة الخارجية الروسية، في حديثه لوكالة "تاس"، إلى أن ضغوط العقوبات جاءت بنتائج عكسية تعمل على تحسين التكامل في إطار دولة الاتحاد. وقال: "سيكون من الخطأ تصور أن الضغط غير المسبوق على روسيا وبيلاروس يؤثر في اتحادنا. هذا الضغط يعمل بشكل أكبر على اندماجنا، ولا يقسم، بل على العكس، يوحد دولة الاتحاد أكثر".
وفي معرض متابعة التطورات والأحداث التي جرت خلال الأيام القليلة الماضية، أعلن الرئيس بوتين تعهداته حول التزام روسيا بضمان "إحلال السلام واستئناف الحياة الطبيعية في منطقة دونباس". وأشار إلى أن حياة سكان شبه جزيرة القرم ومدينة سيفاستوبول كانت مختلفة تماماً عما كان في دونباس، وإن عاد ليضيف أن "المأساة في دونباس وخصوصاً جمهورية لوغانسك الشعبية، هي التي أجبرت روسيا على بدء هذه العملية العسكرية". وخلص بوتين إلى القول إن بلاده "ستتصرف تدريجياً وستحقق وضعاً سيضمن تطبيع الحياة هناك وتغييرها نحو الأفضل كما حصل في سيفاستوبول".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
التطورات الأخيرة جاءت في أعقاب تجربة الصاروخ "سارمات" الروسي الجديد الذي أثار الكثير من الجدل، في توقيت تتعالى فيه الأصوات بروسيا احتجاجاً على استمرار تدفق الأسلحة من البلدان الغربية إلى أوكرانيا. وفي الوقت الذي تحولت روسيا إلى التلويح باحتمالات قصف وتدمير هذه الأسلحة، أعلن دميتري روغوزين، رئيس وكالة الفضاء الروسية "روس كوسموس"، أن مؤسسته ستبدأ في تسليم صواريخ "سارمات" إلى قوات الصواريخ الاستراتيجية الروسية في الخريف المقبل. وكتب على حسابه في "تلغرام" يقول: "في خريف هذا العام، بعد الانتهاء من اختبارات طيران صاروخ سارمات، نخطط لبدء تسليم الصواريخ الباليستية الثقيلة العابرة للقارات من هذا السلاح الخارق إلى قوات الصواريخ الاستراتيجية".
المصادر العسكرية قالت إن "سارمات"، صاروخ باليستي ثقيل عابر للقارات، أسرع من الصوت، وسيحل محل صاروخ "فويفودا"، فيما يعتبر الأقوى من نوعه بالعالم. وقالت مصادر روسية إن الأميركيين يطلقون عليه اسم "الشيطان"، لما يتميز به من مدى كبير يصل إلى 13 ألف كلم، وقدرات خارقة على اختراق المنظومات المضادة للصواريخ، فضلاً عن قدرته على حمل رؤوس مدمرة.
إنزال العلم الأوكراني وعودة الروبل
وفي المناطق الجنوبية المطلة على البحر الأسود بمقاطعة خيرسون، يجري العمل من أجل إعادة الأوضاع والحياة إلى طبيعتها، لكن تحت إدارة جديدة مغايرة، تسمح بانتزاع علم أوكرانيا من فوق المؤسسات الرسمية، واستبداله بالراية الحمراء التي غابت لما يزيد على ثماني سنوات.
وكالة "نوفوستي" الروسية نقلت ما قاله فيتالي غانتشيف، رئيس الإدارة المدنية المؤقتة، حول احتمالات إجراء استفتاء شعبي بعد المتغيرات الجديدة: "كما تدركون فإنه في مجتمع ديمقراطي، يعود الحق في اتخاذ القرار إلى السكان قبل غيرهم. لذلك أعتقد أنه حين تحرير المنطقة بأكملها واجتثاث النازية منها، سيتخذ عندها على الأرجح قرار بشأن إجراء استطلاع أو استفتاء بين السكان".
وحول هذا الشأن أيضاً، أعلن غيورغي مرادوف، نائب رئيس وزراء جمهورية القرم الروسية اعتماد الروبل الروسي في المناطق الجنوبية من أوكرانيا المتاخمة للقرم، مشيراً إلى أن سكان المناطق الخاضعة للقوات الروسية، ومنها مقاطعة خيرسون ومناطق زابوروجيا الواقعة على بحر آزوف، بما فيها مدينة ميليتوبول، يتحولون تدريجاً إلى استخدام الروبل في تعاملاتهم، ويرفضون الدفع بالعملة الأوكرانية، الغريفنا. وخلص إلى القول بأن "السكان رحبوا بذلك، وشعروا أنهم في وطنهم التاريخي روسيا من جديد".