أدى الهجوم الروسي على أوكرانيا إلى إدانة وعقوبات غربية شديدة، لكن العديد من الدول حول العالم اختارت عدم الانضمام إلى هذه الجبهة، وفضلت البقاء على الحياد، وهو ما يلقي الضوء على كيفية استعداد هذه الحكومات للتصرف في حالة نشوء حرب باردة جديدة. لكن ما التحديات التي يمكن أن تواجه أي دور جديد لحركة عدم الانحياز التي احتفلت العام الماضي بذكرى 60 عاماً على إنشائها؟
اختيار الحياد
بعد اندلاع حرب أوكرانيا في نهاية فبراير (شباط) الماضي، شن الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية حملة دبلوماسية واسعة لإدانة روسيا، فضلاً عن شن حملة منسقة من العقوبات الاقتصادية واسعة النطاق ضد موسكو. غير أن العشرات من الحكومات خارج أوروبا وأميركا الشمالية ظلت مترددة في تحميل روسيا المسؤولية أو توجيه انتقادات لها، وامتنعت الكثير من الدول عن الانضمام إلى العقوبات المتعددة الأطراف، بينما دعمت الصين ضمنياً الكرملين منذ تأكيدها في فبراير إقامة صداقة صينية - روسية بلا حدود. كما دعمت كوبا وكوريا الشمالية وسوريا، الهجوم الروسي على أوكرانيا، فضلاً عن بيلاروس، التي كانت كنقطة انطلاق للهجوم الروسي.
غير أن العديد من الحكومات الأخرى حول العالم اختارت البقاء على الحياد في هذا الصراع. فعلى سبيل المثال، أعلن الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو بوضوح أن بلاده لن تنحاز إلى أي جانب، كما أعاد القادة الهنود تأكيد سياستهم القائمة على عدم الانحياز، مشيرين إلى أن أمتهم ستسعى إلى البقاء خارج القتال. وكذلك فعلت جنوب أفريقيا وباكستان والعديد من الدول العربية والشرق أوسطية الأخرى، التي فضلت اتباع مسار مشابه، الأمر الذي يلقي الضوء على كيفية استعداد كثير من الحكومات للتصرف بشكل حيادي في حالة نشوء حرب باردة جديدة بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة من جانب، وروسيا والصين ومن يصطف معهما في الجانب الآخر. كما يظهر هذا الاختيار أن العديد من الدول راضية عن تبني سياسة عدم الانحياز التي تجنبهم دعم الغرب أو منافسيه الرئيسين في موسكو وبكين.
وفي حين يرى بعض المحللين الغربيين أن سياسة عدم الانحياز، تبدو استراتيجية معقولة للبلدان كطريقة للحفاظ على الاستقلال الذاتي وتجنب الخيارات المكلفة بين القوى الكبرى، إلا أنهم يرون أن القوى العظمى ستحاول استقطاب القوى الرئيسة غير المنحازة، لتعزيز قوتها في الصراع، على اعتبار أن السلم والأمن الدوليين سيتضرران إذا رفضت العديد من الدول الانحياز إلى أي طرف. ولكن ما الفارق بين حركة عدم الانحياز التي احتفلت العام الماضي بالذكرى الستين لتأسيسها، ومفهوم عدم الانحياز في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
نشأة عدم الانحياز
عندما بدأت الحرب الباردة في منتصف القرن العشرين، سارعت القوتان العظميان، الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة، إلى تشكيل تحالفات عسكرية متنافسة، إذ أسست الولايات المتحدة عام 1949 منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأسس الاتحاد السوفياتي حلف وارسو في مايو (أيار) عام 1955. لكن بعض الدول النامية في العالم الثالث كان تعاطيها مختلفاً مع سياسة الأحلاف، إذ استضاف رئيس أندونيسيا سوكارنو في مؤتمر باندونغ عام 1955 جوزيب تيتو رئيس يوغوسلافيا، ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، والرئيس المصري جمال عبد الناصر، ودعوا جميع الحكومات التي لم ترغب في الانضمام إلى أحد هذين التحالفين من القوى العالمية إلى تشكيل حركة عدم الانحياز، التي استهدفت "التعايش السلمي، والاستقلال عن الاستعمار والإمبريالية". ولم تصبح حركة عدم الانحياز طوال تاريخها منظمة مثل الاتحاد الأفريقي، أو دول الكومنولث، كونها "حركة" تعقد مؤتمراً لرؤساء الدول أو حكومات دول عدم الانحياز كل ثلاث سنوات.
لكن سياق نشأة حركة عدم الانحياز وتطورها، يختلف عن السياق الحالي للأحداث. فقد توحدت الدول الأعضاء في الحركة عام 1961 كون معظمها كانت مستعمرات سابقة، وكان مبدأ مناهضة الاستعمار في الحركة، يعني حسبما يقول كيث غوتشاك أستاذ العلوم السياسية في جامعة ويستيرن كيب، أن عليها تقديم الدعم الكامل للنضالات المسلحة ضد المستوطنين في روديسيا، وضد نظام الفصل العنصري في ناميبيا وجنوب أفريقيا آنذاك، وأن عدم الانحياز هو وسيلة لمقاومة القوى الاستعمارية والإمبريالية، والحفاظ على الاستقلال واحترام السيادة وسلامة الأراضي، وعدم الاعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، والبقاء بعيداً من الصراع السوفياتي -الأميركي.
تحديات الماضي
ومع ذلك، واجهت الحركة معضلة منذ البداية، إذ كان ينبغي على دولها عندما تنتهك دولة قوية المبادئ الأساسية مثل السيادة وسلامة الأراضي، أن تقف لمعارضتها، لكنها فشلت في الاتفاق على متى تنحاز إلى أي طرف. فقد رأى القادة اليساريون في دول مثل كوبا وفيتنام، القوى الغربية على أنها تهديدات إمبريالية جديدة، وانحازوا بوضوح إلى موسكو على الرغم من انضمامهم إلى حركة عدم الانحياز، بينما كانت بعض الدول المحافظة في الشرق الأوسط، تميل باستمرار نحو واشنطن، فيما سعى كثيرون إلى الحياد النسبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن جميع هذه الدول ظلت في الحركة من دون معيار متفق عليه حول درجة التوافق المقبولة. وفي عام 1979، انقسم الأعضاء بشدة حول الغزو السوفياتي لأفغانستان، وصوتت 56 دولة من الحركة لإدانة الغزو في الأمم المتحدة، لكن تسعة منهم أيدوا موسكو وامتنعت 26 دولة عن التصويت، وهي أرقام تتشابه بشكل ملحوظ مع الأصوات الأخيرة بشأن الهجوم الروسي على أوكرانيا. وأدت هذه الانقسامات حول الحرب السوفياتية في أفغانستان إلى إضعاف حركة عدم الانحياز وتقويض قدرتها على فرض المعايير الدولية، وقدرتها على ممارسة النفوذ الجماعي، حتى عندما كانت القوى العظمى تتلاعب بقواعد السيادة وتقرير المصير.
وعندما كان تفكك الاتحاد السوفياتي إلى 15 دولة إيذاناً بنهاية الحرب الباردة، تراجعت أهمية الحركة، حيث كافح أعضاؤها المتنوعون لتحديد دورها في عالم لم يعد يتشكل من خلال المواجهة السوفياتية - الأميركية، ومع ذلك نجت الحركة، واحتفل أعضاؤها البالغ عددهم 120 دولة بالذكرى الستين للمجموعة في بلغراد خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
معضلات دائمة
بيد أن حركة عدم الانحياز تواجه اليوم تحديات جديدة مع استمرار الحرب في أوكرانيا. فبالنسبة إلى العديد من الحكومات في أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية، يظل عدم الانحياز أمراً جذاباً بالنظر إلى أن معظم هذه الدول تعتمد بشكل كبير على التجارة والاستثمار والمساعدات من جميع القوى الغربية والصين وروسيا أيضاً، وبالتالي يصبح الاصطفاف إلى جانب طرف من الجانبين المتنافسين، معوقاً اقتصادياً.
ويبدو هذا خطراً واضحاً مع حالة بيلاروس، وهي إحدى دول عدم الانحياز التي تواجه عقوبات غربية قاسية بسبب المساعدات التي تقدمها إلى المجهود الحربي الروسي. كما تواجه الدول المعارضة لروسيا خطر قطع إمدادات الطاقة، ويبدو أن الانحياز إلى جانب الصين في أي سيناريو مستقبلي، مثل الصراع مع تايوان، سيكون أكثر تكلفة وخطراً للدول التي تختار الحياد.
عوامل جاذبة
ومع ذلك، فإن الحياد النسبي يتمتع بجاذبية أخرى من وجهة نظر أمنية، إذ إنه يتيح للحكومات الحصول على أسلحة من مصادر متعددة، ويحد أيضاً من الاعتماد الكامل على قوة واحدة من القوى العظمى المتصارعة. وهو ما ينطبق بشكل كبير على الهند، التي لا تزال تعتمد بشكل كبير على الأسلحة الروسية، كما ينطبق بدرجة أقل على دولة مثل فيتنام.
وعلاوة على ذلك، يساعد عدم الانحياز في إبقاء الأبواب الدبلوماسية مفتوحة أيضاً، الأمر الذي يمنح مرونة للحكومات التي تشعر بالقلق من فقدان استقلالها السياسي إذا كانت تعتمد بشكل كبير على دولة أو كتلة واحدة قوية للحصول على الدعم السياسي.
لكل هذه الأسباب، من المرجح حسبما يشير جون سيورسياري أستاذ السياسة العامة في جامعة ميتشغان، أن يظل عدم الانحياز شائعاً خلال السنوات المقبلة، لأن جاذبيتها الاستراتيجية أصبحت أقوى الآن مما كانت عليه خلال الحرب الباردة بسبب التكامل العالمي الأعمق بين دول العالم. فعلى عكس خمسينيات القرن الماضي، تمتلك معظم البلدان الآن روابط اقتصادية وسياسية وعسكرية قوية مع كل من الشرق والغرب.
أخطار على الأمن الدولي
لكن على الرغم من أن عدم الانحياز يمثل سياسة معقولة لكثير من الدول، فإنه من وجهة نظر الغرب قد يسبب مشاكل للأمن الدولي، بعدما حطم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الوهم بأن مهاجمة الأراضي وحروب القوى العظمى كانتا من الماضي، وهو ما يتصادم مع المبادئ المحددة لحركة عدم الانحياز، ولذا فإن الغرب بقيادة الولايات المتحدة يشعر بأن الإحجام عن الانحياز إلى جانب ما في مثل هذه الحالة، يمكن أن يضعف المعايير الدولية ويقوض الأمن العالمي. فعلى الرغم من أن معظم أعضاء حركة عدم الانحياز أدانوا الهجمات الروسية، فإنه لم تفرض عقوبات على روسيا سوى دولة واحدة فقط من دول عدم الانحياز هي سنغافورة، بينما يتجاهل الآخرون المسؤولية، ما يجعل الحرب في أوكرانيا عبئاً تتحمله الولايات المتحدة وحلفاؤها الأساسيون، الذين يرون أن هذا من شأنه أن يرسل الرسالة الخطأ للكرملين بأنه سيتم التسامح مع الاستيلاء على أراضي دولة أخرى من قبل القوى الكبرى.
طريق مختصر
وفي ظل هذا الصراع المتزايد بين القوى الكبرى، يطالب بعض المفكرين والباحثين الغربيين بخطب ود الدول الأكبر تأثيراً من بين دول عدم الانحياز، لكسبها إلى جانب التحالف الغربي، وخصوصاً دول الشرق الأوسط المنتجة للطاقة. إذ يشير إليوت أبرامز رئيس تحالف فاندنبرغ في مقال نشره مجلس العلاقات الخارجية، إلى أنه نظراً إلى الاحتياج العالمي الهائل للطاقة وسعي الحلفاء للبحث عن بديل، من الضروري البحث عن مصادر بديلة أخرى، مثل إمدادات غاز شرق البحر المتوسط من إسرائيل ومصر وقبرص، لمساعدة أوروبا على خفض اعتمادها على الغاز الروسي.
ويؤكد أبرامز أولوية التفكير في وجود طريق مختصر في التنافس مع الصين، ومفتاحه في الالتزام بأمن الشرق الأوسط وأوروبا، إذ إن موارد أميركا محدودة وتحتاج إلى مزيد من الموارد لمواجهة الصين، ومن ثم يصبح من الخطأ التخلي عن الحلفاء والمصالح في أي مكان، لأنه سيضعف كل التحالفات الغربية في كل مكان، مع الوضع في الاعتبار أهمية إمدادات النفط والغاز في الشرق الأوسط، واستحالة التخلي عن الشرق الأوسط.