بالونات ملونة وعدد لا بأس به من الألعاب، تلك التي اشتراها شريف (38 سنة) استعداداً للعيد، لا ليفرح بها أولاده الصغار الذين ينتظرونه عند باب المنزل كل مساء، بل ليفترش بها أحد أرصفة السوق في مدينة رام لله وبيعها بربح قد يسد ما تبقى من احتياجاته العائلية الضرورية قبيل عيد الفطر.
على الرغم من اكتظاظ الأسواق في مدن الضفة الغربية بالمتسوقين خلال الأيام القليلة التي تسبق عيد الفطر، فإن تأثير أزمة الرواتب يبدو جلياً على المواطنين، من خلال إقبالهم على الشراء من البسطات الشعبية التي تنتشر بكثافة وذلك لرخص ثمنها. إذ ما تزال الحكومة الفلسطينية عاجزة عن صرف رواتب كاملة لموظفيها العموميين منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مع استمرار التراجع الحاد في المنح الخارجية، والاقتطاعات الإسرائيلية من أموال المقاصة (الضرائب).
رواتب منقوصة
الحكومة خفضت رواتب جميع مستخدمي السلطة الفلسطينية بأكثر من 1000 شيكل (300 دولار)، كما اقتطعت نفقاتها التشغيلية. ويبلغ عدد الموظفين العموميين 139 ألف موظف بين مدني وعسكري، وتصل فاتورة رواتبهم الشهرية 593 مليون شيكل (180 مليون دولار)، بمعدل يصل إلى 2.404 مليار دولار سنوياً، بحسب أرقام وزارة المالية. ولا تشمل هذه الأرقام، فاتورة أشباه الرواتب (المتقاعدون والمخصصات)، البالغة خلال العام الماضي 964 مليون دولار.
شريف، الذي فضل عدم ذكر اسم عائلته، ويعمل في الأجهزة الأمنية الفلسطينية، قال لـ"اندبندنت عربية"، "عليَّ أن أدفع ثمن الدواء والطعام والإيجار والكثير من الفواتير. منذ ستة أشهر ونحن نتقاضى بين 75 و80 في المئة من الراتب، ولا تكفي لتغطية نفقاتي، فابني يعاني مرضاً في القلب، وأنا بحاجة إلى شراء أدوية له بتكلفة 500 شيكل كل شهر، حتى إنني لم أتمكن من شراء هدايا وثياب جديدة لأطفالي الذين ينتظرونني يومياً لأدخل بها عليهم، وهي عادة فلسطينية في العيد".
اقتصاد راكد
تنبع معظم المشاكل المالية للحكومة من صراع مع إسرائيل، بسبب حجب الأخيرة مبلغ 500 مليون دولار من عائدات الضرائب، التي تجمعها نيابة عن الفلسطينيين منذ عام 2019.
وقررت إسرائيل وقف تحويل الأموال لمعاقبة الحكومة الفلسطينية على دفع رواتب للأسرى الأمنيين الفلسطينيين وعائلات منفذي عمليات قتلوا خلال تنفيذهم عمليات ضد إسرائيل.
وتقول إسرائيل إن الرواتب "تشجع وتقدم محفزاً مباشراً على ارتكاب هجمات"، في حين يصف الفلسطينيون الدفعات بأنها مخصصات اجتماعية للعائلات التي تضررت من الصراع، ويرفضون قبول تحويل أي من أموال الضرائب ما لم يتم تحويلها بالكامل.
ويرى رجال أعمال فلسطينيون أنه كان لرفض السلطة الفلسطينية تسلم عائدات الضرائب أثر كبير في الاقتصاد الراكد والمنهك في الضفة الغربية.
جمال جوابرة، الأمين العام لاتحاد الغرف التجارية الفلسطيني، قال إن "موظفي السلطة الفلسطينية ينفقون رواتبهم عادة على السلع والمشتريات في الأسواق المحلية وتتضاعف مشترياتهم خلال فترة الأعياد، وبالتالي يدفعون العجلة الاقتصادية للتجار والمشغلين نحو الانتعاش، لكن الرواتب الناقصة أجبرت الموظفين على التقشف وتقليل عمليات شرائهم السلع والملابس والمأكولات وحتى الألعاب، وهو ما دفع أصحاب المتاجر إلى شراء سلع أقل من المصانع، التي ستبدأ بدورها تقليص كميات الإنتاج وطرح سلع أقل في الأسواق. هذا يدمر الاقتصاد كله".
خطير ومعقد
أدى النزاع الضريبي، بالإضافة إلى انخفاض بأكثر من 50 في المئة في المساعدات الدولية على مدى السنوات الماضية، إلى تعقيد وضع الفلسطينيين، وهو ما وصفه وزير المالية في السلطة الفلسطينية، شكري بشارة، بأنه "وضع مالي خطير".
مستشار رئيس الوزراء لشؤون التخطيط وتنسيق المساعدات، استيفان سلامة، قال "وصلنا عشرة في المئة فقط مما كان يصلنا في عامي 2013 و2014، وهذا يعني تناقصاً بنسبة 90 في المئة عن المعدل الذي يصلنا بالعادة لخزينة الحكومة، الصعوبة الكبرى هي في نقص الدعم الدولي وتناقص الدعم لخزينة الحكومة الفلسطينية، إذ لا توجد صعوبات كبيرة في ما يتعلق بالدعم الإنساني والتنموي الذي يوجه لفلسطين، إن ما جرى وما يجري هو غير طبيعي لم يتم التعامل معه بالسابق بهذه الطريقة".
ويرى سلامة أن الدعم الأوروبي سيكون له تأثير في التخفيف من الأزمة المالية التي تمر بها الحكومة، إلا أنه لن ينهي الأزمة، التي سببها الأساسي الاقتطاعات الضريبية وقرصنة إسرائيل على أموال السلطة الفلسطينية، وأضاف "نتوقع أن يصلنا 200 إلى 300 مليون دولار من الدعم الدولي المالي لخزينة الحكومة هذا العام، ولكن حتى الآن لم يتم وصول أي من تلك الوعود المالية".
في الأوضاع الطبيعية، تحتاج الحكومة الفلسطينية إلى نفقات بقيمة 1.35 مليار شيكل شهرياً (409 ملايين دولار) حتى تكون قادرة على صرف 100 في المئة من فاتورة الرواتب، والإيفاء بالتزاماتها تجاه مؤسساتها، إلا أن الحكومة تواجه عجزاً شهرياً بأكثر من 320 مليون شيكل (100 مليون دولار)، ويتفاقم العجز مع مدفوعات واجبة السداد كأقساط قروض مستحقة وفوائدها لصالح القطاع المصرفي الفلسطيني.
أما الدين العام المستحق على الحكومة الفلسطينية، فقد سجل حتى نهاية العام الماضي 12 مليار شيكل (3.363 مليار دولار) منها قرابة 7.8 مليار شيكل (2.363 مليار دولار) ديوناً لصالح البنوك العاملة في السوق المحلية. وتضاءلت فرصة حصول الحكومة على المزيد من القروض المصرفية من القطاع المصرفي الفلسطيني، بسبب ارتفاع الإقراض وتركز الائتمان للحكومة الفلسطينية.
الخبير الاقتصادي نصر عبد الكريم، قال لـ"اندبندنت عربية"، إن "الأزمة المالية الحالية مختلفة وأصعب تماماً عن سابقاتها، إنها مستعصية ومعقدة مع انسداد أي أفق لحلها، فالدول المانحة تحجب مساعدتها المالية المقدمة للسلطة، إذ بلغ إجمالي المساعدات هذا العام أقل من خمسة في المئة".
وأضاف عبد الكريم، "يستوجب على السلطة الفلسطينية أن تسرع في تنفيذ إصلاحات بنيوية وهيكلية من أجل إعادة بناء الموازنة، وهذا يعني تقشفاً حقيقياً، ووضع حد للتهرب الضريبي، لأن الأزمة الاقتصادية في فلسطين ستستمر حسب اعتقادي، وعلى السلطة أن تتحرك بشكل جدي من أجل أن يستعيد المواطنون الثقة فيها".
خطة تقشف
بحسب وثيقة أعدتها وزارة المالية الفلسطينية، تعتبر فاتورة الرواتب أحد أصعب التحديات التي تواجه الحكومة في إدارة المال العام، لأنها تشكل قرابة 70 في المئة من إجمالي نفقات الحكومة شهرياً.
تفاقم الأزمة المالية للسلطة والحد من قدرتها على دفع الالتزامات المختلفة وارتفاع الضغوط على موازنتها دفع الحكومة الفلسطينية قبل أيام للإعلان عن تشكيل لجنة مختصة لدراسة رواتب جميع الموظفين وقانون الخدمة المدنية، وطرح خطة تقشف لإصلاح وتنقية فاتورة رواتب الموظفين العموميين (مدنيين وعسكريين).
وتتضمن الخطة، تجميد كل الترقيات للمدنيين والعسكريين، واعتماد مبدأ التدوير الوظيفي بين الوزارات مع تنفيذ التقاعد المبكر (طوعي)، في القطاع العسكري لمن تزيد أعمارهم على 45 عاماً ولديهم 15 سنة مقبولة للتقاعد، والقطاع المدني لمن تزيد أعمارهم على 55 عاماً ولديهم 15 سنة مقبولة للتقاعد.
وترى وزارة المالية، في مقترحها، أن البدء في تنفيذ التقاعد المبكر الطوعي، سيكون اعتباراً من النصف الثاني من 2022، بهدف توفير 154 مليون شيكل (44 مليون دولار).
كما تشمل الخطة التقشفية المعلن عنها، المضي قدماً في دمج المؤسسات والهيئات العامة، التي تؤدي خدمات ذات طابع مشترك، إضافة إلى تقنين التوظيف في القطاع الحكومي لأقصى درجة ممكنة، وتشريع قانون خدمة مدنية جديد شامل يعكس سياسات ومتطلبات الحكومة، إلى جانب ترشيق القطاع الأمني والتركيز على المهام الأساسية المناطة به.
أزمة ثقة
في ظل موجة احتجاجات شعبية فلسطينية على غلاء الأسعار، التي طالت المواد الأساسية والمحروقات وإعلان الحكومة الفلسطينية وجود أزمة مالية مستعصية تستدعي خصم نسبة من رواتب موظفي القطاع العام، وخطة محكمة للتقشف، يصادق مجلس وزراء السلطة الفلسطينية، على تعيين 1500 عنصر في الأجهزة الأمنية، الأمر الذي أثار ردود فعل غاضبة على القرار.
الائتلاف الفلسطيني للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية "عدالة"، استنكر بشدة في بيان صحافي "التعيينات الأخيرة"، معتبراً أن "هذا التناقض في سياسات السلطة بمحاباة أجهزتها الأمنية، يعزز الفجوة الموجودة أصلاً مع الشعب الفلسطيني، الذي فقد ثقته بالحكومة ومخرجاتها، التي تستثني حاجات وأصوات الناس المتعالية، في ظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية تزداد سوءاً يوماً بعد يوم"، وفق البيان.
وأشار الائتلاف إلى أن "تعيين العناصر الجدد ترسيخ لسياسات الحكومات الفلسطينية المتتالية بتخصيص النسبة الكبرى من الموازنة للأجهزة الأمنية، ما من شأنه تعزيز القبضة الأمنية على المجتمع الفلسطيني، وهو يتناقض مع ما تحدثت عنه الحكومة حول إجراءات ستتخذها للتخفيف من الأزمة المالية".
وطالب البيان، الحكومة بأن تقوم بدورها في الحد من عملية رفع الأسعار، وإجراء مراجعة شاملة وعميقة لكل السياسات، بما يشمل مخصصات الموازنة، وضرورة إعادة توزيعها وفقاً للاحتياجات التنموية للمجتمع الفلسطيني وشرائحه المختلفة، والعمل على تحقيق العدالة الضريبية، وتخفيف الأعباء عن جموع الفقراء والموظفين، بما ينسجم مع أسس العدالة والمساواة.
وكان استطلاع سابق للرأي نشره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في سبتمبر (أيلول) 2021، قد كشف عن أن 78 في المئة من سكان الضفة وغزة يريدون استقالة الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وأن 19 في المئة فقط يعتقدون أنه يجب أن يظل بمنصبه.
وقال خليل الشقاقي، مدير المركز، الذي يجري استطلاع الرأي العام الفلسطيني منذ أكثر من عقدين، "هذا هو أسوأ استفتاء رأيناه للرئيس، لم يكن في وضع سيئ مثل اليوم".
خيبة أمل
التقرير السنوي للائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، نهاية مارس (آذار) الماضي، أفاد باستمرار هيمنة مكتب الرئيس محمود عباس على المؤسسات العامة وبالأخص الرقابية، ومعاقبة من "يخرجون عن الولاء للنظام أو لتصفية حسابات".
وأشار التقرير إلى استمرار التدخلات السياسية والأمنية في التعيينات العليا، إذ ما زالت العديد منها (بما فيها الترقيات والنقل) يتم ترشيحها من المقربين المتنفذين وبدعم مؤسسات أمنية تحت مبرر السلامة لاعتبارات شخصية أو حزبية (للموالين للنظام وأبنائهم).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت التقرير إلى أن ذلك شمل تعيينات في السلك الدبلوماسي ومؤسسات أمنية، والقضاء الشرعي، على حساب الجدارة والكفاءة ومن دون التقيد بمبادئ تكافؤ الفرص للمواطنين ومن دون الالتزام بإجراءات الشفافية، "ما أتاح لسلطة الحكم تسخير مؤسسات الدولة لخدمة القائمين على النظام الحاكم ولتحصين النظام الحالي بتدعيمه بالموالين ووضعهم بالمناصب العليا وليس بالضرورة وفقاً للصالح العام".
وأكد التقرير ضرورة اتخاذ القائمين على الحكم قراراتهم لصالح المواطنين أو المنفعة العامة من أجل إعادة ثقة المواطن بمؤسسات الدولة.
ويرى مراقبون أن الضائقة الاقتصادية العامة التي تنخز بخاصرة المواطنين منذ عدة أشهر جعلت الناس يشعرون بخيبة أمل كبيرة من عجز الحكومة عن حلحلة أزمتها المالية كما فعلت لسنوات، وتبلغ نسبة البطالة في الضفة الغربية نحو 16 في المئة من بين المشاركين في القوى العاملة بواقع 142 ألف شخص، في حين أن مرتبات من يعمل من الفلسطينيين، مثل الموظفين الحكوميين، تتراوح بين 700-1000 دولار شهرياً.