شهر رمضان هو شهر الخير، هذا مؤكد. وهو شهر التكافل والرحمة، هذا معروف، ولا يحتاج إلى إثباتات أو بيانات. وقد يكون كذلك شهر غسيل الذنوب واكتساب الحسنات وتواتر الصدقات، وهو ما يصب في صالح الفئات الأكثر احتياجاً، إذ يتسابق القادرون على إطعام غير القادرين. كرتونة رمضان، إفطار صائم، مائدة رحمن، حسنة قليلة تمنع بلاوي كثيرة للمتسول الجوال أو غير المتفرغ وقائمة الخير الرمضاني طويلة ووفيرة.
الوفرة هذا العام مثيرة للاهتمام. وهي وفرة لا تقتصر على أهل الخير الذين يهرعون إلى حساباتهم البنكية لسحب مبالغ مالية، كل بحسب قدرته، لدسّ بعض جنيهات في يد محتاج، أو المشاركة مع أهل العمارة أو المجمع السكني لإطعام الخفراء وأفراد الأمن، أو شراء عشر أو عشرين أو ثلاثين كرتونة رمضان فيها شاي وسكر وزيت وتمر وصلصة لمساعدة عشرة أو عشرين أو ثلاثين أسرة في احتياجات البيت، لكنها وفرة تمتد إلى عمل التبرعات الذي صار مؤسسياً في العديد من جوانبه.
مبادرات الإطعام
عشرات المبادرات لغرض الإطعام في شهر رمضان، وعشرات مثلها لاستدامة توفير الطعام بقية أشهر العام، وعشرات المستشفيات القائمة على ما يجود به أهل الخير، وعشرات المراكز لكفالة الأيتام، وأخرى لحفر بئر مياه أو زراعة نخيل أو بناء مدرسة أو توفير علاجات لأمراض بعينها أبرزها سرطان الأطفال والفشل الكلوي وأمراض القلب والحروق وسرطان الثدي والشلل الدماغي وأمراض الكبد، وجميعها تدغدغ مشاعر أهل الخير عبر مئات الإعلانات الرمضانية التلفزيونية.
هذه الدغدغة تصل أقصى درجاتها في الشهر الفضيل، وهي دغدغة آخذة في النمو والتطور والتوسع على مدار السنوات القليلة الماضية. وفي كل عام يزيد عدد المبادرات والمؤسسات والمستشفيات والجمعيات القائمة على التبرعات، ويتقلص حجم الخير "الفردي" القائم على الصدفة.
هيثم علي (مهندس) (40 عاماً) يقول إنه كان يقتطع مبلغاً من المال في بداية كل رمضان، ويوزع منه على المتسولين الذين يغزون الشوارع خلال هذا الشهر، أو من يتصادف مروره وتبدو عليه علامات الفقر والعوز، لكنه أصبح يسلم هذا المبلغ كاملاً لجمعيات خيرية مختلفة في الأعوام الخمسة الماضية. أما هذا العام، قرر أن يتبرع بالمبلغ كاملاً لمبادرة "حياة كريمة". لماذا؟ لأنه لمح كلمة "تنموي" في إعلانات هذه المبادرة الرئاسية. يقول: "لا مجال للخروج من الظروف الاقتصادية الصعبة التي ضربت الفئات الأكثر احتياجاً بشكلٍ قاسٍ إلا بعمل "خيري" تنموي يضمن استدامة هذا الخير.
خير تنموي
المبادرة التي جرى تدشينها في عام 2019 لا تهدف فقط إلى تحسين ظروف المعيشة والحياة اليومية للمواطن، لكنها تهدف إلى التدخل الفوري لتوفير عوامل تضمن العيش الكريم، وهو العيش الذي يقي المواطن المصري شرور السؤال وطلب العون المادي أو الغذائي. وبحسب المبادرة، فإن "المواطن تحمل فاتورة الإصلاح الاقتصادي، وكان خير مساند للدولة المصرية في معركتها نحو البناء والتنمية".
وعلى الرغم من أن المبادرة عملت على تجهيز مليون "كرتونة رمضان"، وهي الكرتونة الكلاسيكية التي تضمن إمداداً من المواد الغذائية قد يدوم أسبوعاً أو أسبوعين، فإن المبادرة، ومن خلال الكرتونة، تعمل على بناء قاعدة معلومات ضخمة تحوي عدد الأسر الأولى بالرعاية ونوعية احتياجاتها وسبل المساعدة التي يمكن تقديمها لرفع المعاناة عنها سواء بفرص التعليم أو التدريب أو التشغيل أو بدء المشروعات الصغيرة وغيرها، وذلك في تحول تاريخي لـ"كرتونة رمضان" من المنفعة الآنية والمساعدة اللحظية إلى تنمية مستدامة للأسر المستحقة.
الأسر المستحقة وغيرها من الأسر التي كادت تكون مستحقة بفعل الأحداث الاقتصادية المتواترة أعادت طرح تساؤل حول قدرة أو جدوى أموال التبرعات في إصلاح ما تسبب فيه برنامج الإصلاح الاقتصادي ومن بعده كورونا وأخيراً الحرب في أوكرانيا. صحيح أن الآثار متفاوتة بحسب مستويات الدخل، لكنها طاولت الجميع.
تفاوت درجات التضرر
البحث في تفاوت الدرجات، وأي الفئات تضررت أكثر من أخرى في ظل انخفاض سعر الجنيه المصري في مقابل الدولار، إذ فقد الجنيه 17 في المئة من قيمته خلال الأيام القليلة الماضية، واشتعال الأسعار بما في ذلك المواد الغذائية الأساسية مؤجل لحين انتهاء الشهر الكريم.
يتصور البعض أن وتيرة الدعوة إلى التبرعات ومناشدة أهل الخير المساهمة في "بنك الطعام" و"وقف النخيل" أو "مستشفى 57375" أو "مستشفى 500 500" أو "ساهم في رجوع أم غارمة لأسرتها" أو "الأجهزة التعويضية" أو "بناء أسقف لبيوت القرى النائية" أو "جاموسة عُشر لأسرة فقيرة" أو "كسوة العيد ليتيم" مكثفة بشكل زائد في رمضان الحالي.
وعلى الرغم من أن الكثافة نسبية، وأن شهر رمضان بات لصيقاً بإعلانات التبرعات التي يذهب أغلبه لحال سبيله عقب انتهاء الشهر الكريم، فإن الأوضاع الاقتصادية الضاغطة بشدة وأسعار السلع الغذائية المرتفعة جداً، ومعدل التضخم السنوي الذي سجل 12,1 في المئة مارس (آذار) الماضي مقابل 4,8 في المئة للشهر نفسه من العام السابق جميعها يطرح سؤالاً عن قدرة التبرعات وإعمال الخير في إصلاح ما أفسدته مرارة برنامج الإصلاح الاقتصادي وقسوة إغلاقات كورونا وصدمة حرب روسيا في أوكرانيا.
هناك من ينتقد التركيز على مساعدة الأسر المستحقة بكراتين الطعام وأكياس اللحوم ووجبات الإفطار وموائد الرحمن، وهو الشكل المباشر والكلاسيكي والمحبب إلى قلب العاطي والمعطى إليه، لأن أثره آني وفرحته لحظية. المنتقدون يتساءلون عما بعد مرحلة الهضم! فالطعام فانٍ، ومتعة التهامه وقتية، والعبرة بالوجبة التالية.
انخفض الفقر واستمر
في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فرح المصريون بإعلان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أنه وللمرة الأولى منذ عقدين تتراجع معدلات الفقر من 32.5 في المئة عام 2017-2018 إلى 29.7 في المئة عام 2019-2020.
صحيح أن انخفاض النسبة المئوية لم ينعكس كثيراً على حياة الفقراء، أو يرفع قليلاً من مستوى معيشة الغالبية، لكن أعطى أملاً في تحسن ربما يطرأ قريباً ويشعر به المواطن الآخذ في تجرع مرارة فواتير الإصلاح الاقتصادي الذي بات معروفاً بـ"شر لا بد منه"، ناهيك بسوء الأوضاع الاقتصادية التي تراكمت على مدار نصف قرن قبل اندلاع أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011.
وتيرة التبرعات ومناشدة القلوب الرحيمة ربما تنشط وتتأجج في رمضان، لكنها صارت مكوناً رئيساً من مكونات برامج وحزم الرعاية الاجتماعية، حيث جهود سد الفجوات التي خلفها الفقر وتضميد جراح الإصلاح الاقتصادي التي فاقمت الألم ولملمة شظايا الوباء التي أصابت الجميع، وأخيراً دهان موضع الألم للتسكين الموقت جراء آثار حرب روسيا في أوكرانيا.
موسم الجمع
الإحصاءات الرسمية تشير إلى أن أغلب الجمعيات الخيرية تجمع نحو 80 في المئة من التبرعات في شهر رمضان من كل عام، وهو ما يفسر تركيز الحملات والإعلانات في هذا الشهر، وذلك لاستهداف الجمهور الذي ينوي إخراج الزكاة والصدقات من قليل أو كثير من دغدغة المشاعر لاستقطاب أكبر عدد ممكن من المتبرعين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المتبرعون، ومنهم من هو متضرر من الأوضاع الاقتصادية المتأزمة، لا سيما في ضوء الوضع في أوكرانيا، والمتبرع لهم وهمزات الوصل من جمعيات ومبادرات بعضها ذو طابع حكومي أو رسمي مثل "حياة كريمة" يعولون على هذه التبرعات للمساهمة في تعديل الواقع الاقتصادي والاجتماعي بالغ القسوة الذي يعانيه كثيرون، لكن يبقى السؤال قائماً حول استدامة أثر هذه التبرعات من حيث المدة وحجم القدرة على دعم الأسر والأفراد أمام معدل تضخم أدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والمشروبات بنسبة تعدت الـ23 في المئة، وأبرزها الخضراوات والزيوت والحبوب، وكذلك أمام انخفاض احتياطي النقد الأجنبي بقيمة أربعة مليارات دولار ليصل إلى 37 مليار دولار، وهو ما يكفي لتغطية خمسة أشهر فقط من الواردات السلعية.
التبرعات وحدها وأهل الخير منفردون وروح رمضان المعطاءة الكريمة لا تعمل وحدها على تضميد الجراح الاقتصادية والاجتماعية لثلث المصريين. فمن جهة، أعلنت وزارة المالية المصرية الشهر الماضي عن حزمة مساعدات للحماية الاجتماعية بقيمة سبعة مليارات دولار. وقالت الوزارة إن الهدف منها هو "التعامل مع تداعيات التحديات الاقتصادية العالمية وتخفيف آثارها على المواطنين".
المواطنين في تلك الأثناء، وعلى الرغم من الأوجاع الاقتصادية وبغض النظر عن التحركات الطارئة للحكومة والمناشدات المكثفة للمتبرعين وأهل الخير، بدأوا رحلة البحث عن "كعك" العيد. صحيح أن المعدلات الجنونية والكميات غير المنطقية التي تدخل كل بيت شهدت نوعاً من الترشيد خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أن شبح الاستهلاك الملياري يلوح في الأفق.
فعلى مدار السنوات الخمس الماضية تأرجح حجم الإنفاق على كعك العيد بين 2.5 وثلاثة مليارات جنيه مصري (بين 136 و162 مليون دولار أميركي)، هذا العام، وعلى الرغم من توقعات تقليص منظومة الكعك والعمل على توعية المواطنين بأن القمح المستخدم في عمل الكعك صار سلعة بالغة الحساسية، وأن ما يحتاج إليه رغيف العيش يحرم على صينية الكعك، فإن المؤشرات تشير إلى أن وزارة التموين تطرح كعكاً بأسعار مخفضة، وواجهات المحلات بدرجاتها المتفاوتة تنضح ببشائر الكعك.
يشار إلى أن وزير المالية المصري محمد معيط قال قبل أسابيع قليلة إن أسعار القمح العالمية التي ارتفعت في أعقاب الحرب في أوكرانيا ستكلف مصر ما يزيد على 12 مليار جنيه مصري (نحو 749 مليون دولار أميركي) إضافية.
اللافت أن صفحات على منصات التواصل الاجتماعي بدأت تناشد أهل الخير التبرع بالمال أو بعلب الكعك والبسكويت للأسر الفقيرة لإدخال الفرحة على قلوبهم وبيوتهم في مناسبة عيد الفطر المبارك، وهو ما أثار انقساماً مجدداً بين فريق يرى أن الأزمة لا تترك خيار رفاهية الفرحة الممثلة في علبة كعك بأموال التبرعات، وفريق آخر يميل إلى إدخال الفرحة بالكعك والبسكويت رافعين شعار "شبعني اليوم وأمتني غداً" وإن كان الشبع هنا ليس سد رمق، بل شبع كعك وبسكويت وغريبة بأموال التبرعات.