في دارفور السودانية لا تهدأ الأزمة المُندلعة منذ عام 2003، التي حافظت على وتيرة صراع مسلح ممتد يخلف بين الفينة والأخرى ضحايا غالباً ما يبلغون المئات، ولم تنجح الثورة السودانية لا في حل الصراع، ولا حتى في تحجيمه، وتبدو الدولة السودانية شبه عاجزة عن توفير الأمن في الإقليم.
ودخل مجلس الأمن الدولي على خط الصراع أخيراً، وطالب بالتحقيق في أحداث بلدة "كرينك" الواقعة على بعد 80 كيلو متراً، شرق مدينة الجنينة، التي امتد لها العنف القبلي أيضاً، حيث كانت حصيلة القتلى هذه المرة ما يزيد على 200 شخص، وتم إغلاق المستشفى المركزي في المدينة لأول مرة منذ بداية الصراع.
لماذا تتسع الأزمة في دارفور، ما معطياته وما متغيراته، وإلى أي آفاق سيمتد؟ وهل هو مؤثر على الاستقرار الإقليمي؟ وهل يمكن أن تشكل الهشاشة الأمنية مدخلاً لنشاط جماعات إرهابية متطرفة في الإقليم كـ"داعش" مثلاً؟ هذه الأسئلة وغيرها تبدو شائعة في الفضاء الإقليمي تحت مظلة أن الصراع الدارفوري قد انبثق عن صراعات السلطة في الخرطوم، ولا يزال، وأن أخطر المتغيرات الراهنة هي أن اتساع الصراع المرتبط بالموارد الطبيعة، أي الذهب، بخاصة أن الصراع يملك أبعاداً مؤثرة على الأمن والاستقرار الإقليمي.
بداية الصراع
المعطيات المبدئية للصراع الدارفوري تمثلت في نزاع على السلطة جرى في نهايات القرن العشرين بين حسن الترابي زعيم الجبهة القومية الإسلامية وعمر البشير الرئيس المخلوع عام 2019، حيث أفرز انقلاب 1989 في السودان سلطة برأسين، أحدهما للجبهة القومية الإسلامية، التي خططت للانقلاب بزعامة الترابي، والثاني هو رأس السلطة التنفيذية عمر البشير، الذي كان واجهة هذا الانقلاب.
امتداد هذا الصراع انتهي بإزاحة الترابي عن السلطة عام 1999، وهو ما رد عليه الترابي باختيار محاربة البشير في إحدى مناطق السودان الهشة تاريخياً، وهي إقليم دارفور، ونشر كتاباً بشأن المظالم التي وقعت على الإقليم وأهله تاريخياً، وتكونت حركة مسلحة ضد السلطة المركزية، هي حركة العدل والمساواة، التي نسبت إلى الترابي، وهو ما أسفر عن اجتياح إقليم دارفور من جانب السلطة المركزية مطلع عام 2003، الأمر الذي نتج عنه هروب مئات الآلاف من السكان إلى تشاد، وكذلك تكوين معسكرات لإيواء من بقي من السكان في دارفور داخل الحدود السودانية.
الأزمة دخلت إلى مجلس الأمن بدفع واضح من أمرين، الأول استخدام دارفور ورقة في الانتخابات الأميركية لضمان أصوات الأميركيين من أصول أفريقية، والثاني دور لمنظمات يهودية على خلفية مخططات استراتيجية إسرائيلية في تقسيم السودان، حيث تابعت هذا الدور بنفسي في زيارة علمية للولايات المتحدة امتدت عاماً، تابعت فيها جلسات الكونغرس بهذا الشأن، كما حضرت أنشطة للمنظمات اليهودية عن دارفور في واشنطن، ورأيت بأم عيني جناحاً لدارفور في متحف الهولوكست اليهودي بواشنطن.
وقد استطاعت الفواعل غير الرسمية ومنظمات المجتمع المدني حول العالم تحويل أزمة دارفور إلى شأن عالمي فيما يعرف بتحالف "انقذوا دارفور"، وذلك نظراً لطبيعة الفظائع والانتهاكات ضد الإنسانية التي مارسها نظام البشير في الإقليم.
وقد أسهم ذلك في صدور عدد من قرارات مجلس الأمن تحت ولاية الفصل السابع ضد السودان، وتكوين بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور اعتباراً من عام 2006، وهي البعثة التي انسحبت في نهاية 2021.
وقد حافظت دارفور على أن تكون إحدى منصات التفاعل بين أطراف المعادلة السودانية في الخرطوم، وذلك بعد أن أسس البشير ما كان يعرف بقوات الجنجويد التابعة لنظامه، اعتباراً من عام 2013، وذلك بقوة قوامها سبعة آلاف مقاتل، حيث تشكلت النواة الأساسية لهذه المجموعة المسلحة من أبناء إقليم دارفور، وسرعان ما انضم إليها لاحقاً مجموعة من أبناء الولايات الأخرى، وهي القوات ذاتها التي أسندت إليها مهام قتال الحركات المسلحة في إقليم دارفور عام 2003، حيث تمكنت قوات الدعم السريع في وقت وجيز من هزيمة الحركات التي تقاتل نظام الخرطوم، خصوصاً في معارك (البعاشيم) 2014، وقوز دنقو بجنوب دارفور في 2015، والأخيرة أنهت الفاعلية العسكرية لقوات حركة العدل المساواة، التي يقودها جبريل إبراهيم، والتي ما زالت تحمل السلاح حتى الآن، حيث تمت إبادة كثير من قواتها وأسر المئات في هذه المعركة.
توسع مهام الدعم السريع
وبعد تلك المعارك الطويلة، أضحت قوات الدعم السريع أكثر تأثيراً في المشهد السوداني، حيث استمدت قوتها مباشرةً من الرئيس المعزول عمر البشير، الذي تجاهل انتهاكات جنودها المستمرة، وتذمر ضباط الجيش من قلة انضباط جنودها وتداعيات ذلك على توازن القوة العسكرية في البلاد، وكذلك تداعياته على الاستقرار المحلي.
وفي هذا الصدد، توسعت مهام الدعم السريع محققةً انتشاراً واسعاً في جميع ولايات السودان، كما جرت إعادة تنظيمها عبر ثلاثة قطاعات رئيسة، أهمها قطاع الخرطوم في مناطق (طيبة – شمال الخرطوم) (والخرطوم 2 بوسط العاصمة) (وضاحية المنشية بالعاصمة الخرطوم). وتم تسليحها بجميع أنواع الأسلحة الثقيلة، من بينها مضادات للطائرات والمدافع، وخلال العامين الماضيين تمكن الدعم السريع من تخريج سبع دفعات عسكرية، تضم الدفعة الواحدة نحو ألف جندي.
في المحصلة، باتت قوات الدعم السريع تملك ثقلاً أمنياً وعسكرياً في الساحة السياسية السودانية، خصوصاً بعد الثورة السودانية 2019، حيث تمركزت منذ اليوم الأول للاعتصام بالمواقع الاستراتيجية للدولة، ونجحت في تأمينها بامتياز، وهو ما جعل قائد قوات الدعم السريع، الفريق محمد حمدان دقلو، مقبولاً من جانب القوي الثورية السودانية لتضمن توازناً مع الجيش الذي يرتفع التوجس بشأنه من جانبها، فيما يخص حالة دعم للتحول الديمقراطي.
كما سمحت هذه الأوضاع بأن يكون دقلو نائباً لرئيس مجلس السيادة السوداني، ولكن ذلك لم يمنع من تنافس صراعي مكتوم بين أكبر طرفين عسكريين في البلاد، خصوصاً مع رفض حميدتي قائد قوات الدعم السريع تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية في اتفاق جوبا للسلام 2020، وهو الاتفاق الذي يفضي بدمج قواته في القوات المسلحة النظامية والرسمية في البلاد، أي الجيش الوطني، وهو أمر يرفع وتيرة توجس مؤسسة الجيش من حميدتي وقواته، ويعكس نفسه في الصراعات الدارفورية، من حيث مدى فاعلية الدولة في كبح جماح الصراعات القبلية من ناحية، وانفتاح المشهد على تصفية الحسابات بين الأطراف من ناحية أخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البعد الاقتصادي
المتغير الأهم المرصود أخيراً هو دخول البعد الاقتصادي في صراع دارفور، أي الصراع على الموارد، وخصوصاً الذهب، حيث إن الرافعة المالية لحميدتي كانت سيطرته على أراضي دارفور، وهو ما أتاح له تدشين شركات التعدين، وذلك تحت مظلة قدرات على تصدير الذهب للخارج مباشرة عبر علاقات إقليمية بالخليج، وفرتها لحميدتي حرب اليمن، اعتباراً من عام 2015، حيث أسهمت قواته في دعم التحالف العربي.
في هذا السياق، أصبحت الأراضي والذهب مطمعاً لقوات الجنجويد، المعروفة في كل غرب أفريقيا، والتي استجلبتها الدولة السودانية في مرحلة مبكرة اعتباراً من عام 2003، حيث استباحت الأراضي السودانية نظراً لهشاشة الدولة فيما يخص ضبط حدودها المشتركة مع 9 دول، وأصبحت هذه القوات تعمل لأجندتها الخاصة مخترقة قوات الدعم السريع، التي تغير حالياً من ولائها لحميدتي القائد إلى ولاء جديد، وهو معدن الذهب، وهو أمر سوف يدخل الصراع في دارفور مرحلة جديدة من التصعيد من ناحية، ومن التمدد الإقليمي من ناحية أخرى.
تشاد وليبيا
ويمكن القول إن كلاً من الأوضاع في تشاد وليبيا مؤثرة على حالة الصراع بدارفور، وذلك من حيث تدفق السلاح الليبي إلى دارفور، ومشاركة بعض الحركات المسلحة الدارفورية في الصراع الليبي طبقاً لأجندة كل حركة ومع جميع الأطراف الليبية.
وعلى صعيد مُوازٍ، فإن الصراع الداخلي التشادي له أثر على الحالة في دارفور، خصوصاً في ضوء تفاعل محمد حمدان دقلو (حميدتي) مع الحالة في تشاد، ودعمه لبعض الأطراف السياسية فيها، وهو ما يجعل الرجل وقواته مستهدفين أيضاً من الجانب التشادي، وتبدو دارفور ساحة مناسبة لتصفية الحسابات.
إجمالاً، يبدو المشهد الدارفوري مرتبطاً باعتبارات إقليمية، ومرتبطاً أيضاً بالحالة في الخرطوم، وهو ما يجعل التوقعات بشأن الاستقرار الأمني في هذا الإقليم السوداني الهش بعيد المنال، بل إن تفاعلاته قد تسهم على نحو ما في مزيد من الإضعاف لمؤسسة الدولة في السودان إلى حدود لا يعلمها إلا الله.