يعتبر فيلم "دكتور مابوزي" وكذلك الفيلم الذي تلاه متحدثاً عن البطل نفسه بعنوان "وصية الدكتور مابوزي" عادة من الأفلام التي تحدثت بقوة وتفصيل وبشيء من التنبؤ ضمن إطار السينما التعبيرية الألمانية وبتوقيع المخرج فريتز لانغ، فيلماً أيديولوجياً من النوع الذي يمكن الإشارة إلى نخبويته. لكنه يعتبر من ناحية ثانية ولهذا السبب بالذات نموذجاً للكيفية التي عرفت بها السينما على مدى تاريخها الطويل، كيف تتعاطى مع الأكثر عادية بين النتاجات الأدبية الشعبية لتحولها أعمالاً كبيرة خالدة. ولعل في وسعنا دائماً أن نعطي نموذجاً شديد المعاصرة على هذا النوع من التعاطي من خلال اشتغال المخرج الأميركي الراحل ستانلي كوبريك على رواية "شايننغ" (الإشراق) من كتابة مواطنه مؤلف روايات الرعب والأعمال البوليسية التي اشتهرت بجماهيريتها من دون أن تتسم بأي عمق، ستيفن كينغ، ليحولها إلى واحد من أعظم أفلام الرعب ذات المعاني الفكرية في تاريخ السينما. لقد غضب الكاتب يومها إذ وجد أن روايته قد "تبدلت" - وبالأحرى "تشوهت" في رأيه - لكن الهواة الأكثر جدية رأوا أن كوبريك أسبغ على تلك الرواية نفسها أبعاداً لم يكن ممكناً أن يدركها الكاتب نفسه.
من تبسيطية الأدب الشعبي
وشيء من هذا يمكن على أية حال قوله بصدد فيلمي "مابوزي" ومن خلالهما بصدد استخدام لانغ هذه الشخصية التي كانت في الأصل "بطل" رواية نشرت مسلسلة في صحيفة "برلينر اليوستريت تسايتونغ"، مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، ولقيت من فورها نجاحاً جماهيرياً كبيراً، لكاتبها نوربرت جاك، ولئن كان كثر قد رأوا بعد إنجاز لانغ فيلمه "المابوزي" الأول أن الفيلم قد عرف كيف يصور عالم ما بعد الحرب الفوضوي، ويملأه بضروب الالتباسات التي تضع القارئ أمام خيارات عدة في مسائل مثل الخير والشر عبر أسئلة مقلقة حول المرحلة، وحول ضرورة عودة "الخير" ممثلاً بقوة ما، تساعد على ضرب "الشر المستطير" فإن هذه الأبعاد لم تبدُ على مثل ذلك الوضوح قبل ظهور الفيلم وربما الفيلم التالي له. ففي البداية عوملت الرواية كقطعة لا بأس بها من أدب شعبي من الصنف الذي كان سائداً في طول أوروبا وعرضها خلال النصف الثاني من القرن العشرين يوم انتشرت في العديد من المدن الأوروبية، وربما غير الأوروبية أيضاً، تلك الروايات التي تنشر مسلسلة على حلقات أسوة بما كان يفعل تشارلز ديكنز في الصحافة الإنجليزية ليسير على دربه عشرات الكتاب الذين من دون أن تكون لأكثرهم عبقريته، راحوا يبدعون حكايات مغامرات، وكان من بينهم كاتب "مابوزي" الذي ظل شعبياً حتى جاء السينمائي النمساوي الأصل، الذي كان يعمل في برلين أوائل العشرينيات من القرن الماضي، فريتز لانغ، فأخذ تلك الرواية المسلسلة، ليحولها إلى فيلم كان فيه أول تعاون له مع مؤسسة "أوفا" للإنتاج السينمائي الألماني التي سيكون لها شأن كبير في مسار السينما الألمانية حتى الحرب العالمية الثانية، لا سيما السينما النازية بطبيعة الحال. وهو لئن كان نجح في مشروعه الأول -الذي كتب السيناريو له شراكة مع رفيقته تيا فون هاربو- فما هذا إلا لأنه أسبغ على ذلك الفيلم الصامت، والتعبيري القاسي، دلالات مهمة تماشت مع ما كان يعتمل في تفكير الشعب الألماني في ذلك الحين من تساؤلات حول مفاهيم مثل السلطة، والزعامة والقدر. لقد حقق لانغ فيلمه ذاك "مابوزي" عام 1922 في ألمانيا، لكنه عاد إلى الموضوع والشخصية أنفسهما مرتين أخريين: مرة في ألمانيا نفسها في عام 1933، تحت عنوان "وصية الدكتور مابوزي" ومرة ثانية، في ألمانيا بعد زمن من سقوط النازية، وبعد عودته إليها من المنفى، أي في عام 1960، حيث حقق فيلم "دكتور مابوزي الشيطاني".
بين الأصل والتنويع
غير أن المرة الأولى كانت هي الأهم، لأن الثانية أتت تنويعاً عليها، في فيلم سيقول لانغ لاحقاً، وبعد تركه ألمانيا إنه إنما حققه "لكي أفضح وسائل هتلر، إذ وضعت شعارات ونظريات الرايخ الثالث على ألسنة المجرمين"، أما الثانية فأتت أشبه بتبرير لماضي لانغ كله. ومن هنا، من دون إهمال الفيلمين الآخرين، يبقى "مابوزي" الأصلي هو الأهم، خصوصاً أنه على ضوء مسيرة لانغ ومواقفه زمن إنتاجه، يمكن اعتباره نوعاً من التمهيد لوصول النازية إلى الحكم ومجيء "الخير" الذي يخلص الشعب من "الشر". ومهما يكن من أمر، فإن ما لا بد من الإشارة اليه هو أن هذا الفيلم كان يتيح، في التباسه، من التفسير، ما مكن ايزنشتاين، الماركسي الروسي، من إعادة توليفه، ليقدمه في موسكو كفيلم معادٍ للنازية، كما مكن الفرنسيين من إعادة توليفه أيضاً ليعرض في باريس ويقول عكس ما كانت نسخته الألمانية الأصلية تقول.
مثل دمية روسية
من هذا المنطلق اعتبر "مابوزي" أشبه بتلك الدمية الروسية الشهيرة، التي إن فتحتها ستجد في داخلها دمية أخرى وهكذا دواليك... غير أن هذا كله لا يلغي الأهمية الفائقة للفيلم من الناحية التعبيرية والفكرية، وكذلك بصفته شاهداً على مرحلة كان الشعب الألماني والفكر الألماني يتخبطان فيها بعد هزيمة الحرب العالمية الأولى المذلة، أي المرحلة التي أرهصت بمجيء النازية ومهدت لظهور هتلر كمخلص للشعب الجرماني مما هو فيه. ولعل من الطرافة أن نذكر هنا أن صاحب الرواية نفسه كان دائماً من أول الذين أدهشتهم تلك التفسيرات التي أسبغت على روايته، تشهد على ذلك مقدمات تناولت علاقة الفيلم بالرواية حين أعيد اكتشافها، ولا سيما في فرنسا بعد ظهور الفيلم بنصف قرن وترجمت بعدما كانت سمعة الفيلم قد غطت عليها تماماً، مذكرة بأن الكاتب نوربرت جاك لوكسمبورغي الأصل كان انتقل إلى ألمانيا عام 1920 ونال جنسيتها، في وقت بدأ ينشر فيها رواياته التي بدت طوال عقود منسية تماماً كما نسي هو أيضاً. ومع ذلك كان من حسن طالعه أن قراء نهاية القرن العشرين وليس فقط لتأثرهم بالفيلم اكتشفوا في روايته خفايا وأبعاداً شديدة الحداثة عرفت كيف تظهر بدورها مابوزي تحت سمات شيطانية لا يخفف من حدتها قوله في الفيلم "إن التعبيرية لعبة مثل أي لعبة أخرى. اليوم كل شيء لعبة لا أكثر". ويقيناً أن هذا القول لم يأتِ مصادفة في الفيلم، حتى وإن كان لانغ، بعبقريته السينمائية المتواكبة مع التباساته السياسية أعطى في الفيلم، كتابةً وإخراجاً، دوراً أساسياً لنظرية اللعب، إذ كل شيء في هذا الفيلم ينضوي حول لعبة الاستعراض، والتنويم المغناطيسي، والتحايل في لعب الورق. وما التنويم المغناطيسي هنا، وما لعبة "الباكاراه" سوى احتفالات يمكن المرء فيها أن يكون لاعباً وممثلاً ومتفرجاً في الوقت نفسه.
اكتشاف غنى خفي
كل هذه التنويعات على الشخصية، على تفاوت قيمتها الفنية في ارتباطها أو عدم ارتباطها بالرواية، إنما تكشف لنا الغنى الذي اتسم به العمل الأول، والإبهام الذي ملأه. من هنا لم يكن غريباً أن ينقسم الباحثون في شأنه بين من يرى أنه "هيأ الأذهان لقبول مجيء النازية" ومن يرى أنه "إنما فضح النازية قبل مجيئها". وفي هذا الإطار ربط السجال حول "دكتور مابوزي" بالسجال الذي سيثور حول فيلم ملتبس آخر من أفلام فريتز لانغ "متروبوليس". ومن الأمور ذات الدلالة هنا أن يكون لانغ نفسه قد هرب من ألمانيا النازية في عام 1933، ليس لأن غوبلز، وزير الدعاية الهتلرية، شاء اعتقاله واضطهاده، بل لأنه شاء تسليمه مسؤولية السينما النازية، استناداً إلى التفسير النازي لأفلامه، ولا سيما منها "دكتور مابوزي" و"متروبوليس". ومهما يكن من أمر، فإن ما لا شك فيه هو أن "دكتور مابوزي" حتى كرواية، وربما في لا وعي الكاتب، يحمل صورة واضحة للفوضى التي عمت ألمانيا عشية صعود النازية، والفساد الذي طاول ذلك البلد، ولا سيما خلال معارك الشوارع التي دارت بين السبارتاكيين (أنصار روزا لوكسمبورغ) والقوات العسكرية، وهو ما يصوره الفيلم في طريقه، ودائماً في شكل ملتبس الأبعاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مسار غني
وفريتز لانغ (1890 – 1976) هو، سواء في مرحلته الألمانية، أو لاحقاً في مرحلته الأميركية، ثم بعد عودته إلى ألمانيا وقد تخلصت من النازية وأشباحها، هو فنان نمساوي الأصل، ولد في فيينا لأبوين يهوديين. بدأ حياته مهندساً معمارياً، وهو توجه نلاحظه في الهندسة الرائعة التي تهيمن على بنية أفلامه. وفي عام 1916 انصرف إلى كتابة السيناريو قبل أن يخوض العمل السينمائي مخرجاً، في مسار تواصل أكثر من نصف قرن وقاده إلى تحقيق أعمال يعتبر أكثرها تحفاً في الفن السابع مثل "الأضواء الثلاثة" و"نيبيلونغن" و"متروبوليس" وسلسلة "مابوزي" و"امرأة على القمر" و"م الملعون" و"ليليوم" و"غضب" و"المطاردة" و"الجلادون يموتون أيضاً" (1944 وكتبه شراكة مع برتولد بريخت).