غطت المماحكات السياسية بين تركيا والتيار الصدري، المشهد السياسي العراقي العام خلال اليومين الماضيين. فقد ردت تُركيا عبر سفيرها في العراق فاتح يلدز على مطالب التيار الصدري بإلغاء كافة الاتفاقات السياسية والعسكرية مع تُركيا، بالدعوة إلى ما وصفتها بـ"عدم استخدام العبارات الملتوية بخصوص حزب العمال الكردستاني"، رافضة نعت الكُردستاني كقوة معارضة تركية، بل مجرد "منظمة إرهابية". تصريحات السفير التركي أتت تصعيدية تجاه التيار الصدري، إذ حملت ما يمكن اعتباره تحذيراً للأخير، منبهاً "من يدعون أنهم أصدقاء تركيا، وينتظرون صداقتنا، لا داعي لاستخدام عبارات ملتوية بخصوص العمال الكُردستاني".
إدانة من التيار الصدري
الردود التركية جاءت عقب تغريدة لزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر يوم الخميس الفائت (13/06/2019)، دان فيها بشدة عملية القصف التركية لمناطق من إقليم كردستان العراق، داعياً الحكومة العراقية لاتخاذ تدابير عاجلة "إننا ندين ونستنكر ونشجب القصف التركي للأراضي العراقية وإن كان وفق اتفاقات فإنها اتفاقات هزيلة لا معنى لها". وطالبت تصريحات زعيم التيار الصدري بما اسماه "تجذير السيادة العراقية"، داعياً إلى حقوق متماثلة للدولتين "وإما أن تكون الاتفاقات عادلة تجيز للطرفين قصف الإرهابيين لا المعارضة في كلا البلدين"، مُردفاً "أدعو الحكومة التركية لإنهاء ملف المعارضة بصورة سلمية ووفق حوار ممنهج يحفظ للطرفين سلامته وحرية رأيه بالطرق الحضارية المنطقية".
ويتخذ التيار الصدري مثل تلك المواقف بين الفينة والأخرى، فهو يسعى إلى تحقيق ثلاثة أهداف سياسية. يتعلق الأول بمنح نفسه سمة التيار العراقي الوطني، الذي يعتبر أن الوطنية العراقية لا يُمكن أن تتحقق من دون سيادة عراقية تامة على مجالها العام في وجه القوى الإقليمية، بالذات تركيا، وإلى حد ما إيران. كذلك فإن التيار يسعى لتثبيت زعامة مقتدى الصدر، كشخصية عابرة باهتماماتها ومواقفها للطوائف والقوميات العراقية، وراعٍ لكل قضايا البلد، وبنزعة أبوية.
قصف استثنائي
أتى رد فعل التيار الصدري بعد يوم واحد من استهداف رتلٍ من الطائرات التركية لمحطة وقود أهلية قرب مدينة آميدية (العمادية) في محافظة دهوك بإقليم كردستان العراق. القصف أدى إلى تدمير المحطة وألحق أضراراً مادية بالطريق السريع المؤدي للمدينة، ومن ثم تلتها موجات قصف أخرى للمناطق المحيطة. عمليات القصف التركية الاستثنائية في العمق العراقي، جاءت بعد قرابة الأسبوعين من بدء عملية "المخلب" العسكرية البرية داخل أراضي إقليم كردستان العراق، بعمق عشرين كيلومتر، لملاحقة مقاتلي حزب العمال الكردستاني ومُعسكراتهم. إذ عادة ما تكون عمليات القصف الجوية ملحقة للعملية البرية، لكنها تقتصر على المناطق الجبلية القصية، وتراعي التفريق بين مقاتلي العمال الكردستاني والقواعد الاجتماعية الكردية العراقية، حتى في القرى الحدودية.
تدخل عسكري تقليدي
تشن تركيا عملياتها العسكرية ضمن الأراضي العراقية منذ عام 1983، بتوافق مع الحكومات العراقية المتتالية، التي كانت تفضل سيطرة تركيا على تلك المناطق على أي نفوذ للقوى السياسية والعسكرية الكردية. استمرت الحملات العسكرية التركية طوال عقد الثمانينيات والتسعينيات، وكانت كلها عبر اتفاقات غير معلنة بين الحكومة المركزية العراقية ونظيرتها التركية. تحولت بالتقادم لأن تؤسس تركيا قواعد عسكرية ثابتة، فالطرف التركي كان متأكداً من أن عدم قدرة النظم العراقية على السيطرة على تلك المناطق الوعرة. استمرت أشكال التدخل التركية بعد ذلك، وتحديداً بعد نمو القوة العسكرية لحزب العمال الكردستاني في المناطق الجبلية بين تركيا والعراق.
وفي مرحلة احتلال داعش لمناطق واسعة مع العراق عقب عام 2014، فإن تركيا أرادت مزاحمة إيران التي تملك نفوذاً قوياً على فصائل الحشد الشعبي المهاجمة على المناطق السنية العراقية، لذلك فإن تركيا أسست قاعدة عسكرية تدريبية كبيرة نسبياً في عمق الأراضي العراقية، وساهمت في تدريب آلاف المقاتلين من قوات "حرس نينوى" التابعين لتيار نائب رئيس الجمهورية الأسبق أسامة النجيفي.
تشكيك بصدقية الأحزاب الشيعية
تصدر مختلف الأحزاب والتيارات السياسية الشيعية العراقية بين فترة وأخرى بيانات وتصريحات شجبٍ للتدخل والقواعد العسكرية والاتفاقات المتبادلة بين تركيا والحكومات العراقية، لكن مختلف المراقبين يشككون بصدقية تلك التوجهات. والتصريحات عادة ما تبقى في مجال المواجهة اللفظية المحضة فحسب، وهو ما تعرفه تركيا تماماً. فأي منها لم يتحول إلى توجهات سياسية ذات قيمة، على الرغم من أن جميع هذه القوى السياسية الشيعية رئيسية ومركزية في تشكيل مختلف الحكومات العراقية، منذ عام 2003 وحتى الآن.
يذكر المراقبون مواقف حزب الدعوة والتيار الصدري، اللذان داوما على شجب التوجهات العسكرية التركية داخل الأراضي العراقية، لكنهما لم يتخذا أية إجراءات عبر الحكومات التي كانت بقيادتهما في تلك الأوقات.
نقد للتيارات الشيعية
كذلك فإن النقد يوجه للتيارات الشيعية باعتبارها تركز وتحصر نقدها على التدخلات العسكرية التركية في العراق، من دون أية انتقادات للتوغل الإيراني في مختلف مفاصل الحياة العامة العراقية، تحديداً ضمن فصائل الحشد الشعبي، التي تعتبر عملية مرتبطة ومتأثرة بالنفوذ والتوجهات الإيرانية، أكثر مما هي تابعة للحكومة المركزية العراقية. فهذه القوى السياسية لم تصدر عنها انتقادات مشابهة حين قامت إيران بقصف صاروخي لمعسكرات ومقرات الأحزاب الكردية الإيرانية ضمن إقليم كردستان العراق. على أن الانتقاد الأهم يوجه لهذه القوى السياسية وفصائل الحشد الشعبي، وما ترمي إليه من ابتزاز لإقليم كردستان العراق.
فالقوى المركزية تسعى للقول أن جانباً مهماً من القضية يتعلق بعدم قدرة السلطة والجيش المركزي العراقي على مد نفوذه على كامل الأراضي العراقية، خصوصاً على المناطق الحدودية مع تركيا، وأن إقليم كردستان داخل في توافقات وتوازنات سياسية مع تركيا والأحزاب الكردية غير العراقية من دون العودة إلى السلطة المركزية. لكنها تسعى في النهاية لأن تقوض من سلطة ومكانة إقليم كردستان العراق، لصالحها هي.