شغلت الحركة النسوية منذ تبلورها في الغرب بصورة منظمة خلال الربع الأخير من القرن الـ 18 الدارسين والكتاب، فعكفوا على درسها والتأريخ لها ورصد موجاتها المتعاقبة وتناول محاور اهتمامها، ووضعوا فيها عشرات الكتب والدراسات في مختلف اللغات، ولا تزال هذه الحركة بعد قرنين ونيف على تبلورها تشغل كثيراً من هؤلاء، وتريق مزيداً من الحبر وتستدرج الجديد من الإصدارات، ولعل آخرها كتاب "في النظرية السياسية النسوية: البنى الفكرية والاتجاهات المعاصرة" للباحثين العراقيين رعد عبدالجليل وحسام الدين علي مجيد، الصادر في سلسلة "عالم المعرفة" الكويتية عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.
الباحثان أستاذان جامعيان متخصصان في العلوم السياسية، ولهما العديد من الكتب والبحوث في هذا الحقل المعرفي.
بنية الدراسة
يُهيكل الباحثان دراستهما في مقدمة وستة فصول وخاتمة، ويسندان إلى هذه الهيكلية مهمة النهوض بموضوعها، فيطرحان في المقدمة تساؤلات تتعلق بواقع المرأة في المجتمعات المعاصرة وبالفكر النسوي ومساره منذ نهاية القرن الـ 18 وعلاقته بالنظرية السياسية، ويحاولان الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها في الفصول الستة، ويخلصان في الخاتمة إلى وضع النسوية في ميزان النقد، وهما في ذلك كله يصدران عن مراجع غربية يستندان إليها في التعريف بموضوع الدراسة والتأريخ له ورصد موجاته المتعاقبة.
وفي هذا السياق يقوم الباحثان بالتأصيل المفاهيمي للنسوية في الفصل الأول، ويريان إليها من زاوية كونها نظرية سياسية في الفصل الثاني، ويرصدان المؤثرات الفكرية الغربية على الموقف منها في الفصل الثالث، ويستنبطان أسسها في الفصل الرابع، ويصنفان نظرياتها في الفصل الخامس، ويقرآن في التمكين السياسي النسوي في الفصل السادس، وبذلك ينهض كل من الفصول الستة بالدور المنوط به في هيكلية الدراسة.
المفهوم والمصطلح
لا بد قبل الخوض في مضامين الفصول وأدوارها من الإشارة إلى مفارقة تتعلق بالمفهوم والمصطلح الذي يعبر عنه، وهي أن حوالى قرن من الزمان يفصل بين تبلور الأول ووضع الثاني، ففي حين شكل كتاب "دفاع عن حقوق المرأة" للسيدة ماري وولستونكرافت الصادر في العام 1792 "إيذاناً بانطلاق الحركة النسوية بصورة منظمة صوب المطالبة بمجموعة الحقوق والحريات الفردية الأساس على قدم المساواة مع الرجال"(ص 243)، يرى الباحثان أن ظهور المصطلح للمرة الأولى حصل على يد الفرنسية هيوبرتن أوكليرت عام 1882 في صحيفة "المرأة المواطنة"، تعبيراً عن "التزام أيديولوجي بالعمل على تحقيق المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الرجال والنساء، سواء أكان ذلك داخل البلد الواحد أم عبر العالم"(ص 16)، وقد جرى إطلاقه على الأفكار النسوية السابقة لتاريخ ظهوره.
وبمعزل عن المفارقة الزمنية بين المصطلح والمفهوم، يتناول الباحثان الخليل ومجيد في الفصل الأول النسوية باعتبارها نظرية من جهة، وحركة من جهة ثانية، أما النظرية فتقوم على أساس المساواة وتطالب بحصول النسوة على حقوقهن القانونية والسياسية والاجتماعية، وبهذا المعنى تكتسب بعداً سياسياً وتنطوي على موقف نقدي وتتحول إلى ممارسة عملية، وهو ما يعززه تركيزها في أواخر القرن الـ 20 على محاور اهتمام من قبيل "السياسة الشخصية والتمييز بين المجالين العام والخاص ونقاش الرعاية أم العدالة وموضوع المساواة والاختلاف، إضافة إلى مواضيع الجنس والإنجاب ومعاودة الإنجاب والإجهاض والأمومة ورعاية الأطفال والهوية الجنسية التي شكلت جميعها مواضيع جوهرية مرتبطة بالنظرية السياسية النسوية"(ص 19). وأما الحركة فتسعى "إلى إعادة تنظيم العالم على أساس المساواة بين الجنسين في جميع العلاقات الإنسانية. إنها حركة ترفض كل تمييز على أساس الجنس وتلغي جميع الامتيازات والأعباء الجنسية، وتسعى إلى إقامة اعتراف بالإنسانية المشتركة للمرأة والرجل باعتبار ذلك أساس القانون والعرف"، كما ينقل الباحثان عن تيريزا بيلينغتون غريغ (ص21)، وهكذا تُشكل الحركة تطبيقاً للنظرية وتتقاطعان في بؤر التفكير ومحاور الاهتمام.
السياسية النسوية
النظرية النسوية باعتبارها سياسية هي موضوع الفصل الثاني من الكتاب، فيتناول الباحثان القضايا والعلاقات الإنسانية والمفاهيم والتصورات التي تنشغل بها النظرية، ويبينان وظائفها وأدوارها في طرح الأفكار والتخمينات وتجريد التعميمات وتخطيط المفاهيم والتأويل والتفسير، ويعرفان بالافتراضات التي قامت عليها لا سيما افتراض "الطبيعة الإنسانية" وعلاقة الخضوع والاضطهاد، ويرصدان المفاهيم الأساس التي صاغتها، لا سيما مفهومي البطريركية والنوع الاجتماعي، ويحددان الأعطاب التي تعتريها، ومنها التعدد والتبعية والتشرذم والتناقض والانحياز والتبرير والحصرية، وعليه نكون إزاء نسويات متعددة ترسم صورة مشوشة وغير محددة وغير دقيقة للمرأة، وتفتقر إلى الشمولية وتتبع النظريات السياسية الكبرى.
المؤثرات الغربية
على أن هذه الأعطاب قد تكون ناجمة في جوانب منها عن المؤثرات الفكرية الغربية وآثارها في الموقف من المرأة، وهو ما يفرد له المؤلفان الفصل الثالث من كتابهما، فنتعرف معهما إلى موقف أفلاطون الباطني ضد المرأة المغلف بحياد ظاهري، وموقف أرسطو المتناقض منها المستند إلى قوانين الطبيعة وقيم المجتمع الأثيني الإغريقي، وموقف الكنيسة السلبي منها ودعوتها إلى التبتل، وموقف جان جاك روسو الذي يميز بين الرجل والمرأة انسجاماً مع الطبيعة والنظام والموروث الأرسطي، وموقف الماركسية منها الذي يربط بين تحررها وتحرر الطبقة العاملة ويصدر عن المادية التاريخية، وموقف الوجودية ممثلاً في سيمون دي بوفوار التي تحرض النساء على فعل التحرر من التبعية والدونية والاستعباد جزءاً من المشروع الوجودي، وعليه تتعدد المؤثرات الغربية في النسوية بتعدد الفلسفات الصادرة عنها، مما يقود إلى تعدد في النظريات وتنوع في الأفكار.
هذا التعدد في النظريات النسوية المبني على تعدد في المرجعيات الفلسفية التي تنتمي إليها يتناوله المؤلفان في الفصل الخامس من الكتاب، فيصنفان النسويات المتعددة تصنيفاً مرجعياً من جهة وتصنيفاً معاصراً من جهة ثانية، ويدرجان في كل منهما النسويات المنتمية إليه، فيندرج في التصنيف الأول "النسويات الليبرالية والراديكالية والاشتراكية وما بعد الحداثة والسوداء"، ويندرج في التصنيف الثاني "النسويات الإنسانية والمتمركزة حول المرأة والتفكيكية"، ويسهبان في شرح كل من هذه النسويات على حدة.
في الفصل الرابع من الكتاب يسلط المؤلفان الضوء على مجموعة من الأسس الفكرية للنظرية السياسية النسوية، وفي مقدمها العدالة النسوية في ظل ثنائية الذكر، الأنثى وجدلية المجالين العام، الخاص في إطار العدالة، ففي الأساس الأول تسعى النسوية إلى إعادة النظر في مفهوم العدالة بعيداً من المساواة الرياضية ومع الاعتراف بالتمايز بين الجنسين، ولعلها تفعل ذلك انطلاقاً من إدراكها توزع المواقف من المرأة بين الخوف عليها والنظرة الدونية إليها، وإعادة الاعتبار إليها والخوف من منافستها الرجل والخوف من تفكك الأسرة من جهة، وانطلاقاً من تعرضها للاضطهاد الجنسي والهيمنة الذكورية والاستضعاف الجسدي من جهة ثانية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الأساس الثاني يميز المؤلفان بين الدولتي والمدني من جهة، والشخصي والاجتماعي من جهة ثانية، ويدرجان الدولتي والاجتماعي في المجال العام، والمدني والشخصي في المجال الخاص. وتقوم علاقة جدلية بين طرفي الثنائية الأصلية وبين طرفي كل ثنائية فرعية في إطار الأصلية، وهو ما يحصل داخل دائرة مطلب العدالة.
تمكين المرأة
إن تحقيق هذا المطلب، وهو مدار النظرية السياسية النسوية، يقتضي العمل على تمكين المرأة، وهو ما يفرد له المؤلفان الفصل السادس والأخير من كتابهما، وهما بعد تعريف هذا المفهوم "بأنه عملية شاملة تكتسب المرأة بواسطتها سيطرة أكبر على ظروف حياتها، وتشتمل على أبعاد اقتصادية وسياسية وتعليمية واجتماعية عدة، بحيث تعزز قدرة المرأة على السيطرة على الموارد وقدرتها على الاختيار والتحكم في شؤون حياتها، وقبل كل شيء تعزيز احترامها لذاتها" (ص 246)، ويبحثان في أشكال نظام الـ "كوتا النسائية" ونطاق انتشاره عالمياً لتحقيق مطلب العدالة، ويعرضان واقع الحقوق النسوية في الشرق الأوسط وإمكان التغيير، ويضعان الـ "كوتا النسائية" في ميزان النقد.
من خلال الهيكلية الآنفة الذكر، يخلص المؤلفان إلى وضع النسوية في ميزان النقد في خاتمة الكتاب، ويبينان أبرز الانتقادات التي تعرضت لها الحركة النسوية، بدءاً من عموميتها في مخاطبة النساء واقتصارها على قضايا محددة تشمل أصنافاً معينة منهن، مروراً بغربيتها وقفزها فوق نضالات النساء في آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتجاهلها تفاوت النساء حول العالم في حيازة عناصر القوة المادية، وصولاً إلى تسليمها بوجود هوية مشتركة نسوية يتم التعبير عنها بضمير الجمع "نحن" في سياق الأدبيات النسوية، الأمر الذي يدحضه واقع الحال والوقائع العالمية، لا سيما في المجال السياسي وصناعة القرار.