عاشت مدينة بنغازي في شرق ليبيا بعد سنتين من ثورة فبراير (شباط) 2011، وتحديداً منذ 2013 عاماً دامياً ومحزناً، فُجعت فيه ثاني أكبر مدن البلاد بعد العاصمة طرابلس بعمليات اغتيال وتفجير وتفخيخ لم تشهدها من قبل، نفذها إرهابيون يظهرون على حين غرة يسفكون دماً ويزهقون أرواحاً ويختفون بلا أثر لتدوَّن الجريمة ضد مجهول يعرف الجميع كنهه ويعجزون عن ضبطه متلبساً بالجرم الفظيع.
نهضة ما قبل السقوط
قبل تغوّل تنظيم "داعش" وبدئه بممارسة نشاطاته الإرهابية في بنغازي كانت المدينة تعيش نهضةً ملفتة وازدهاراً مضطرداً بعد سقوط نظام معمر القذافي، الذي عاداها وعادته طويلاً وعاقبها بتركها فريسة الإهمال وجمّد كل فرص ومشاريع التنمية فيها. وتمثلت بداية تلك النهضة في تسارع العمران والتعافي الاقتصادي وارتفاعاً ملفتاً في مؤشرات التنمية.
وكانت من بين أهم المؤشرات على النهضة المتسارعة التي تشهدها بنغازي ازدهار شارع تجاري حيوي يحمل اسم "شارع فينيسيا"، بمحاله التي تحمل أسماء أهم وأشهر الوكالات العالمية وأضوائه التي تسحر القلوب والأبصار.
وعلى الرغم من المكانة التي اكتسبها شارع فينيسيا كعصب حيوي لاقتصاد مدينة بنغازي، إلا أن عمر الشارع يعتبر قصيراً مقارنةً بشوارع المدينة التاريخية والمعروفة بنشاطها التجاري وحيويتها منذ عشرات السنوات، حتى أن عمر بعضها كسوق الحوت وشوارع وسط المدينة تجاوز قرناً من الزمن بينما نشأ شارع فينيسيا كشارع تجاري قبل 15 سنة فقط. وكانت المنطقة التي احتضنته، الواقعة جنوب بنغازي، قبل نشوئه، مجموعةً من المزارع والمساحات الفارغة غير المستفاد منها.
وتُعتبر أسعار العقارات في هذا الشارع فلكية ومن بين الأغلى في بنغازي وتُقدر بملايين الدنانير (الدولار الأميركي يساوي 4.30 دينار ليبي)، وقد حجزت كل الأسماء التجارية "البنغازية" المعروفة مكاناً لها فيه، إضافةً إلى وكالات علامات تجارية عالمية ذات شهرة عالمية.
الحرب ودمار فينيسيا
شهد شارع فينيسيا في العام 2013 وبداية العام الذي يليه أحداثاً دامية ومؤسفة مثل تفجير الثانوية العسكرية الذي راح ضحيته عشرات الطلاب في اليوم الذي كانوا يحتفون فيه بتخرجهم من الثكنة، وتبناه تنظيم "داعش"، إضافة إلى عمليات اغتيال شخصيات أمنية وعسكرية وقع بعضها في وضح النهار وعلى مرأى ومسمع أهالي بنغازي.
وبعد إطلاق الجيش الوطني الليبي "عملية الكرامة" العسكرية لـ "تطهير" المدينة من المجموعات الإرهابية، تحصنت ميليشيات متطرفة في شارع فينيسيا ومبانيه. وعلى وقع المعارك الشرسة وضربات المدافع وقذائف الطائرات، تهاوى عدد كبير من المباني والمحال التجارية ما أدى إلى خسائر بملايين الدنانير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورأى الإعلامي الليبي أحمد الفيتوري أن "شارع فينيسيا أصبح محطة تجارية مهمة داخل المدينة خلال فترة شهدت حراكاً اقتصادياً نسبياً، ثم اتسعت رقعة السوق بتوافد التجار لاستئجار المباني وشرائها وكان الأمر يبشّر بالخير بما أن هذا الانفتاح جذب الوكالات العالمية والعلامات التجارية البارزة لحجز مكانها في المدينة وأصبح المستهلك أمام خيارات متعددة وبديلة، إضافة إلى تغيير نمط التسوّق الذي كان محصوراً في أماكن محددة".
وأضاف الفيتوري أن "هذا الانفتاح اصطدم بمجموعة أعمال إرهابية من قتل شخصيات وتفجير مبانٍ عسكرية، ثم بدأت الحرب على الإرهاب وأصابت أسواقاً حيوية ومنها شارع فينيسيا الذي لم يتوقع أحد أن يعود كما كان، لكن في غضون فترة وجيزة عادت الحركة وتزايد عدد المحال والبناء. وأدى ذلك إلى فتح فرص عمل أمام شريحة من الشباب. وأتمنى أن يستمر تطوير الشارع من خلال الحفاظ على البنية التحتية من خلال اتحاد كلمة التجار بهدف المصلحة العامة".
النهوض السريع
بعد مضي سنتين على صمت المدافع وتلاشي أزيز الرصاص بدأ تجار شارع فينيسيا بلملمة الجراح بسرعة وإزالة الركام وبدء تشييد ما هُدم ودُمِّر ليستعيد الشارع بريقه الذي خفت فترة. وسارت عمليات الترميم والهدم وإعادة البناء بوتيرة سريعة لم يتوقعها أحد ليستعيد بهاءه المفقود ويتزيّن بحلته البهيجة من جديد مستعيداً مكانته السابقة كعصب رئيس لاقتصاد بنغازي.
وقال أحد العاملين المصريين في مقهى شهير في الشارع "عايشت المراحل الثلاث: النهضة والسقوط والنهوض. كان فينيسيا في العام 2013 شارعاً مزدهراً يضاهي أشهر الشوارع في مصر بمحاله الفخمة وأسماء الماركات العالمية، وكانت الاستثمارات في الشارع تزداد، لكن ظهور داعش والحرب التي تلت عرقلا كل شيء ودمرا جزءاً كبيراً منه". وأضاف "فينيسيا ليس مجرد شارع في بنغازي، بل هو مركز الاقتصاد والنشاط التجاري في المدينة، والدمار الذي لحق به أثّر في اقتصاد المدينة ككل ولكن المفاجئ أنه رجع الآن كما كان، بل أفضل. كل ذلك حدث في وقت سريع ربما بسبب قوة رأس المال الذي يحرك الشارع".
على أن النهوض مجدداً يلخص حكاية بنغازي مع الإرهاب. فهي كانت أول مدينة عربية تحرّرت من براثن "داعش"، قبل أن تلحق بها مدن عراقية وسورية.