"الوقت لا يُقدَّر بثمن"، عبارة تختصر نصف قرن من مسيرة "شيخ الساعاتية" في عاصمة شمال لبنان، طرابلس، جمال المبيّض، فهو واحد من آخر "المعلمين" الذين يحافظون على حرفة تصليح الساعات الميكانيكية والمصنوعة يدوياً في لبنان. وهو وريث عائلة اتخذت من الحفاظ على سير عقارب الزمن إلى الأمام مهنةً منذ الحرب العالمية الأولى، وتمكنت من صناعة سمعة مشرّفة عابرة لحدود المكان، ليصبح الركن الذي يحترف فيه مهنته علامة فارقة في ذاكرة أبناء المدينة، ومقصداً لكل باحث عن إعادة الحياة إلى الساعات النفيسة التي تضبط انتظام يومياته على إيقاع عقاربها.
لدى زيارته في محترفه الواقع في "سوق العطارين" بطرابلس، تدرك أنك وسط مكان شاهد على حقبات تطور الساعات، وتخال عندما تراقب الطاولة وحركاته أنك داخل غرفة عمليات، حيث ينتقل بين الملاقط والقواطع، ويستعين بالمناظير للتدقيق بأصغر العناصر المكوِّنة لآلة الزمن التي تعكس شخصية ومكانة أصحابها.
من الجد إلى الولد
العلاقة مع الزمن ليست جديدة عند عائلة المبيّض، فهي تعود إلى الجد "جميل المبيّض" الذي تعلمها على يد الحاج زكي ططر إبان الحرب العالمية الأولى. في ذلك الحين، بدأت ساعات الجيب تنتشر في الأوساط الطرابلسية. ويروي جمال المبيّض أن جده لم يكُن راغباً بالعمل لأنه كان الابن الوحيد لوالدته التي كانت تعمل كـ"داية البلد" (أي تؤدي دور القابلة)، وكانت أوضاعهم المالية جيدة نسبياً، مقارنة ببقية الجيران، ولكن "أصر الحاج زكي على نصحه بتعلم هذه الحرفة الطارئة على المجتمع الشامي لأنها توفّر له الأمان".
ورث الحاج جميل البراعة في تصليح الساعات عن معلمه، وأورثها لأبنائه الذين تعلموا "الكار" داخل محله البسيط في منطقة "بركة الملاّحة" أحد أحياء مدينة طرابلس القديمة. كما ورث القناعة لأن "الأولوية هي الاستجابة للتحدي الذي تفرضه الأعطال الطارئة على الساعة، بغض النظر عن العائد المادي"، مضيفاً أن "بعض الساعات يستغرق تصليحها شهراً، لكن الانتصار على التحدي هو الأهم، وتحقيق لذة النجاح".
جيل جديد
يفتخر جمال المبيّض بأنه يننتمي إلى الجيل الثالث من "الساعاتية" ضمن عائلته. في الخامسة من عمره، اكتشف والده ياسر حب ابنه للساعات، إذ كان الطفل الصغير يحاول تقليد والده، فيفكك بعض الساعات الموضوعة أمامه في المنزل، ويحاول إعادتها إلى سابق عهدها. يصف جمال نفسه بأنه "حشري"، لذلك أيقن والده أن تعليم ابنه من الطفولة سيفتح له باباً ليبرع في هذا الميدان الدقيق. بدأ الأب اختبار ابنه من خلال إعطائه "ساعات المنبّه القديمة"، لأن "حجم القطع فيها كبيرة مقارنةً بساعات الجيب واليد، وهي متينة لا تنكسر بسهولة، وقدّم له نصحية، بأن المدخل لإصلاح أي ساعة إنما يكون وفق تسلسل ميكانيكي دقيق "أول قطعة يتم فكها، هي آخر قطعة يتم تركيبها وهكذا دواليك"، الأمر الذي يتطلب التمتّع بذاكرة حادة.
يروي جمال أن البدايات تطلبت منه وقتاً، فهو كان يراقب حركة والده وكيفية مسكه واستعماله للأدوات كالمفكات والمفاتيح والملاقط وغيرها من الأدوات، مستذكراً أول ساعة قام بإصلاحها كانت "ساعة ماركة جوفيال، ربط رجالية من نموذج سي 96" واستغرقت منه قرابة الساعة من الوقت لتفكيكها وإعادة تركيبها، "أما الآن، فلا تستغرق أكثر من 5 دقائق". ويضيف "في البدايات، كنت أسأل المعلم الوالد عند القيام ببعض الخطوات، ولكن لاحقاً اعتدت على العمل الدقيق".
وبعدما تأكد الوالد أن ابنه احترف المهنة، انتقل إلى موقع المراقب، ويقول جمال "في الثمانينيات، بدأت أعمل بصورة مستقلة بحضور والدي، كان الزبائن يأتونني بساعات الجيب النادرة، فكنت أصنّع يدوياً القطع المكسورة، وعند سؤالي لوالدي عن رأيه، كان الجواب دائماً: في الماضي، أصلحت ما هو أصعب من ذلك"، مضيفاً "كنت أقرأ في كلام والدي تحدياً بوجوب الاستعداد الدائم لتطوير المهنة وانتظار ما هو أكثر دقة". وتأخر الوالد بالاعتراف بـ"المعلمية" لابنه حتى بعد 20 عاماً من عمل الأخير في تصليح الساعات، وما زال جمال يذكر الحادثة بحذافيرها عندما "أحضر أحد الزبائن ساعة ذهبية، عجز حرفيو التصليح حتى في حلب عن إصلاحها بسبب كسور في القطع الداخلية، آنذاك قمت بتصنيع القطع التي لم تعُد موجودة حتى في الشركة الإنجليزية المصنّعة لها". آنذاك، بادره الوالد الحاج ياسر بالقول "الآن إذا متّ، سأكون مرتاحاً بأن المهنة بخير، لأنه لم يعُد يصعب عليك شيء". ويعود بالذاكرة إلى ساعة من ماركة "زودياك" ورثها عن والده وكانت تختزن في عمقها اعترافاً ضمنياً بامتلاكه الكفاءة للحفاظ على الحرفة العائلية.
مهنة ذائعة السمعة
وأصبح جمال ذائع الصيت في عالم صناعة وتصليح الساعات، وخلال حديثه أحضر ساعةً أُرسلت إليه بالشحن الجوي من أستراليا لإصلاحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
العمل فن
لا تُعتبر الساعة مجرد آلة لقياس الوقت، وإنما هي انعكاس لشخصية وأناقة حاملها، يصف جمال هذه الحرفة بـ"الفن الذي يسعى إلى ترميم وتجديد القطع المهمة والقديمة التي أصبحت جزءاً من التراث"، لافتاً إلى أن "الساعة الجيدة هي تلك المصنوعة من مواد جيدة، وتستغرق وقتاً طويلاً في صناعتها وصياغتها، فالساعات القديمة هي نتاج جهد ذهني وصناعة يدوية صافية في فرز الأسنان وصناعة الأجزاء الداخلية، أما حالياً، فتُستعمل الآلات والمخارط التي تنتج أدوات متماثلة ومتطابقة".
يعتقد جمال أن "الخوف هو نقيض لحرفي تصليح الساعات، لأن الثقة بالنفس هي المدخل لإيجاد الحل للمشكلات المستعصية". ويعطي مثالاً، "جاءتني ساعة رولكس كرونوغراف أوتوماتيك نادرة، تتجاوز قيمتها 35 ألف دولار، لم أتردد في تفكيكها وإصلاحها مع أنني لم أقم بعمل مماثل منذ 30 عاماً".
تغمر السعادة جمال عندما يرى الشعور بالرضا على وجوه زبائنه الذين يتأكدون من النتيجة وعودة الحياة إلى قطعهم النفيسة، وهو يعايش هذا الواقع كل يوم، ولكن من بين أهم تلك اللحظات عندما تمكّن من إصلاح الساعة التابعة لكنيسة قرطبا في قضاء جبيل، حيث أكد له رعاتها أن "جميع ساعاتية لبنان الذين سبقوه في المحاولة عجزوا عن إصلاحها". وهذ الأمر فتح أمامه أبواباً كثيرة، ليُشار إليه في الوسط المهني بـ"رجل المهمات المستحيلة"، فيبادره بعض الزبائن بالقول "خذ ما تشاء ولكن أعِد إلينا ساعاتنا". وبحسب جمال، "يعلم الساعاتي الخبير العُطل بمجرد فتحه للساعة، أما الطارىء على المهنة، فيختبر أشياء مختلفة، وقد يودي بحياة القطعة".
ويكشف أنه "في كثير من الأحيان، يجري تعديلات على الساعات، كما فعل أخيراً في صناعة مفتاح ساعة لونجين نادرة يدوياً"، متحدثاً عن الشعور بالتحدي لديه من أجل إصلاح الساعات التي "كانت تشكل قطعة أساسية في مهر وهدية زواج العائلات التقليدية، بحيث تصبح جزءاً من ذاكرة العائلة"، وهو الذي أصلح أنفس التحف لعائلات طرابلس من بينها "ساعة الكرملين لرشيد أفندي كرامي" (رئيس سابق للوزراء). ويأسف لأن بلدية عاصمة الشمال "استبدلت الساعة الميكانيك في برج الساعة الحميدية في طرابلس بجهاز آخر يعمل على الكهرباء، الأمر الذي حرم المدينة من تراث عمره 200 عام".
ويعبّر جمال المبيّض عن عشقه لهذه المهنة التي ارتقى فيها إلى رتبة "شيخ الكار" و"المستشار" لزملائه الساعاتية، قائلاً "من المؤسف أن تموت هذه المهنة التي أصبح محترفوها قلة قليلة، لأنها حرفة يدوية ميكانيكية". وأكد أنه يبحث كثيراً عمّن يرث هذه المهنة، ولكنها لا تجد من يحترفها لأنها تحتاج في آن، إلى قوة قلب، الهدوء، التفرُّغ التام، الذاكرة والإبداع". كما "تتطلب قبل كل شيء الأمانة والصدق، لأن الحرفي يتعامل مع ساعات تندرج في خانة المجوهرات الثمينة والتحف النفيسة". ويرجو أن "يمد الله بعمره ليحاول تعليم حفيده الوحيد الحرفة".
ويرفض المبيّض حديث النهايات بشأن الساعات الميكانيكية في زمن التكنولوجيا الرقمية، لأن "للساعة هيبة ومكانة رفيعة". ويأسف لأن "التصليح يأخذ كل وقته، ولم يتمكن حتى اليوم من صنع ساعة تحمل بصمته بالكامل، لأن ذلك يستغرق سنوات من العمل". كما ذكر الآثار السلبية التي يسببها الجلوس لساعات طويلة في العيون وفي الأصابع واليدين.