بعد الانخفاض الكبير للمياه التي تصل إلى نهري دجلة والفرات في العراق للموسم الثالث على التوالي، سواء تلك القادمة من إيران أو تركيا أو نتيجة الأمطار والثلوج، يبدو أن بغداد بدأت تفكر في التعامل الجدي مع ملف المياه عبر التصعيد السياسي الإعلامي الذي وصل إلى حد التهديد بقطع العلاقات التجارية مع تركيا وإيران.
وعلى الرغم من محاولات الحكومة العراقية منذ أشهر التواصل مع الطرفين التركي والإيراني لإيجاد حلول متفق عليها لضمان حصة العراق المائية التي تأتي من أراضي الدولتين، فإن ما حصل هو قطع تام للمياه من قبل إيران وخفضها بشكل كبير جداً من قبل تركيا، الأمر الذي بدأ يدق ناقوس خطر بشكل فعلي ما يهدد مصدر الحياة الأساسي.
تجريم التعامل
وبدت الضغوط الشعبية على البرلمان العراقي واضحة خلال زيارة النائب الأول لرئيس مجلس النواب حاكم الزاملي لمقر وزارة الموارد المائية، الذي هدد في مؤتمر صحافي بتشريع قانون يجرم التعامل الاقتصادي مع تركيا وإيران في حال عدم استجابتهما لمطالب العراق بشأن حصصه المائية.
وقال الزاملي وهو قيادي بارز في "التيار الصدري" في مؤتمر صحافي مشترك مع وزير الموارد المائية، "قد تضطرنا الدول المجاورة التي تربطنا معها ارتباطات عقائدية وزيارات وارتباطات تجارية واقتصادية، إلى تشريع قانون يجرم التبادل التجاري والاقتصادي مع تركيا وإيران"، مؤكداً أن البرلمان العراقي سيشرع هذا القانون في حال لم ترتدع الدولتان عن موقفهما بشأن حصة العراق المائية.
وشبه الزاملي ما تقوم به إيران وتركيا تجاه العراق بسياسة إسرائيل، مبيناً أن "إسرائيل تقتلنا بإطلاق النار والإيرانيين والأتراك يستهدفوننا من خلال قتلنا بقطع المياه عنا".
ويعد تصريح الزاملي أول خطاب لمسؤول عراقي من الكتل الشيعية يهاجم إيران ويهدد بقطع العلاقات التجارية والاقتصادية معها على خلفية موضوع المياه، حيث كان بعض النواب يهاجمون تركيا فقط ويطالبون بقطع العلاقات التجارية معها.
شريكان مضران
ويعتمد العراق في تغذية أنهاره سنوياً على المياه الآتية من تركيا وإيران، خصوصاً في فصل الربيع، فضلاً عن الأمطار والثلوج، إلا أن الموسم الحالي شهد انخفاضاً كبيراً وغير مسبوق منذ سنوات عدة، وهو ما بدا واضحاً في انحسار مساحة نهري دجلة والفرات داخل الأراضي العراقية، وجفاف أنهر وبحيرات في محافظة ديالى مثل حمرين ونهر ديالى.
فعلى الرغم من كون العراق شريكاً تجارياً مهماً لإيران وتركيا، ويعد من المستوردين الكبار للمواد المصنعة في الدولتين، فضلاً عن تعاقده مع شركاتهما لتنفيذ مشاريع في مختلف المجالات، فإن الجانبين كانا يسيران في اتجاه معاكس لهذا التقارب العراقي، حين اتخذا سلسلة من الإجراءات المستمرة التي زادت من خفض إيرادات المياه إلى البلاد بشكل كبير.
الوضع خطير جداً
من جهته، قال الخبير الزراعي عادل المختار إن وضع المياه في العراق وصل إلى حد خطر قد يؤدي إلى مزيد من تخفيض مساحات الأراضي الزراعية المروية عن الموسم الماضي.
وأضاف أن "الوضع المائي اليوم في العراق وصل إلى وضع خطر جداً، ولا بد أن يكون هناك موقف قوي من دول الجوار لكون العراق وهذه الدول ليسوا أعداء"، لافتاً إلى أن التغاضي عن حقوق العراق وتجاهل ندائه، حفز نائب رئيس البرلمان على تصريحه الحالي، لا سيما أن الوضع يتطلب رد فعل قوياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
توقف الزراعة
ولفت إلى أن وزارة الموارد المائية أعلنت أن المخزون انخفض بنسبة 50 في المئة، وهذا يعد تطوراً خطيراً عن العام الماضي، مرجحاً أن يتم تخفيض الخطة الزراعية إلى مليون ونصف المليون بعد أن خفضت الموسم الماضي إلى مليونين ونصف المليون، فضلاً عن إمكانية توقف الزراعة خلال الشتاء المقبل إذا حل جافاً.
وتابع المختار أن "العراق بحاجة إلى تفاعل دول الجوار مع مطالبه لمعرفة كيفية تقاسم الضرر، بخاصة أن تلك الدول لا تعطينا معلومات عن الواردات المائية التي لديها، وهذا ما يجعلنا لا نعرف تقدير وضعنا المائي"، مشدداً على ضرورة أن يكون هناك تعاون مع كل من العراق وتركيا وسوريا وإيران، وعقد اجتماعات حتى لا تتعقد الأمور.
وكان عون ذياب مستشار وزير الموارد المائية العراقي، قال إن "الخزين المائي المتاح هو أقل بكثير مما كان عليه العام الماضي، لكونه انخفض بنسبة 50 في المئة بسبب قلة الأمطار والواردات القليلة من دول الجوار".
وأضاف في تصريحات صحافية أن "سنوات الجفاف المتعاقبة: 2020 و2021 و2022، كان لها تأثير قوي في وضع الإيرادات المائية في العراق"، لافتاً إلى أن هذا الأمر يعطي تحذيراً لكيفية استخدام المياه خلال الصيف المقبل وخلال الموسم الشتوي.
ارتفاع نسبة الملوحة
وأدى قطع إيران المياه الواصلة من أنهر فرعية إلى الأراضي العراقية عبر محافظتي ديالى والبصرة إلى جفاف نسبة كبيرة من الأراضي في شرق العراق، وزيادة نسبة الملوحة في شط العرب بشكل يهدد حياة أكثر من مليونين ونصف المليون شخص يعيشون فيها.
ومنذ عام 2009 وحتى الآن، قدمت سلسلة من المقترحات من مراكز دراسات ودوائر رسمية عراقية متخصصة لإنشاء سد في ملتقى نهري دجلة والفرات "شط العرب" في مدينة البصرة، لوقف تلوث مياهه والتقليل من المد المالح الذي يدخل إليه من مياه الخليج العربي.
لكن كل هذه الدراسات والمقترحات لم تلقَ جدية واهتماماً من قبل الحكومات العراقية المتعاقبة أو من البرلمان العراقي، ويتم الحديث عنها في كل صيف عندما تمر البصرة بأزمة مياه مالحة وملوثة، كنوع من الوعود التي تنطلق مع بوادر احتجاجات تشهدها المدينة سنوياً على عدم إيجاد حلول لهذا الملف الذي يهدد حياة السكان.
وعلى الرغم من التحذيرات من ضرورة وقف توجيه مياه الصرف الصحي إلى مياه شط العرب من مختلف المدن العراقية، وإيجاد حلول لها تضمن وصول هذه المياه بأقل قدر من التلوث، فإن المشكلات التي يعانيها العراق وأزمته المالية أوقفت عديداً من مشاريع المجاري الخاصة بتحويل مياه الصرف الصحي إلى مياه صالحة للزراعة.
وتحاول وزارة الموارد المائية العراقية أخذ زمام المبادرة في موضوع إنشاء سد شط العرب وتنفيذه خلال الفترة المقبلة، ليكون سداً تنظيمياً هدفه منع دخول المد المالح إلى ملتقى نهري دجلة والفرات خصوصاً أنه مشترك مع إيران.
18 مليار دولار
بدوره، قال رئيس إحدى مؤسسات الدراسات والاستشارات الاقتصادية منار العبيدي إن مقدار الاستيرادات العراقية من تركيا وإيران يبلغ 18 مليار دولار.
وأضاف أن "إيقاف عمليات التعاون التجاري مع تركيا وإيران سيؤدي إلى توقف البضائع الإيرانية والتركية للعراق، وسيؤدي إلى خسارة للجانب التركي، لكون العراق الشريك الخامس التجاري مع تركيا والأول مع إيران في موضوع استيراد البضائع".
وتربط العراق بإيران علاقات اقتصادية كبيرة وضحت أرقام كشفت عنها بيانات إدارة الجمارك الإيرانية عن بلوغ حجم التبادل التجاري بين العراق وإيران قرابة 9.27 مليار دولار، صدرت إيران إلى العراق بـ8.22 مليار دولار، فيما بلغ معدل حجم التبادل التجاري بين العراق وتركيا نحو تسعة مليارات دولار، بمعدل سنوي بحسب تصريحات رئيس جمعية الصناعيين ورجال الأعمال في تركيا والعراق نواف قليج، أدلى بها لوكالة "الأناضول" التركية العام الماضي.
ويستورد العراق كثيراً من البضائع الإيرانية والتركية لا سيما المواد الغذائية والمواد المنزلية، إضافة إلى إمدادات الغاز من طهران التي تعتمد بغداد عليها بصورة أساسية لتزويد محطاتها الكهربائية التي تعمل بالغاز.
خطوة صعبة
وأوضح العبيدي أن هذا الإجراء سيعمل على إيقاف كثير من التعاملات التجارية، وسيضغط على الجانبين التركي والإيراني لإيجاد حلول لقضية المياه، فضلاً عن تأثيره في موضوع دخول السياح إلى تلك الدول.
ولفت إلى أن إيقاف الاستيرادات من هاتين الدولتين في ظل الظروف الحالية أمر صعب، في ظل الأزمة الأوكرانية - الروسية وارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل كبير، مشيراً إلى أنه من الصعب إيجاد بديل عن الدولتين مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار البضائع في العراق.
منافذ غير رسمية
وأشار العبيدي إلى صعوبة تطبيق القرار لكون جزء كبير من البضائع والاستيرادات من إيران وتركيا تدخل عن طريق منافذ غير رسمية، وأغلبها تدخل عن طريق التهريب، مبيناً أن قسماً منها يدخل من إقليم كردستان، ولذلك "نحن لا نعلم مدى التزام الإقليم بمثل هذا القرار إذا ما صدر".
وتابع أنه عام 2020 صدرت تركيا عشرة مليارات دولار للعراق، إلا أن المسجل عن طريق وزارة التجارة العراقية بلغ 1.5 مليار دولار، ما يدل على أن تلك البضائع دخلت عن طريق الإقليم أو منافذ غير رسمية، لافتاً إلى أن الشيء نفسه حصل مع إيران. فالعراق يستورد الغاز الإيراني بشكل كبير لا سيما في فصل الصيف، وإيقاف استيراده سيؤثر بشكل كبير في الحياة اليومية.
أوراق ضغط
وأيد النائب محمود القيسي ما ذهب إليه الزاملي. وقال في تغريدة له على "تويتر"، "نثني على تصريح حاكم الزاملي الخاص بمقاطعة البضائع الإيرانية والتركية في حال استمرار أزمة المياه".
وأضاف "نعم العراق يمتلك أوراق ضغط كثيرة، ولا بد من تغيير قواعد العمل في العلاقات الخارجية".
موقف وطني
بدوره قال مدير مركز للدراسات الاستراتيجية غازي فيصل، إن "تشريع قانون يحظر التعامل مع تركيا وإيران يشكل موقفاً وطنياً للدفاع عن الأمن المائي العراقي".
وأضاف أن تشريع هذا القانون يأتي ضمن حماية الأمن الاقتصادي، الزراعي والصناعي، وحماية الأمن المائي ومواجهة مشكلات التصحر وارتفاع درجة الحرارة والتلوث، بما يسبب أضراراً بالغة للأمن الاقتصادي الوطني، وهو شكل خطير من أشكال الحروب الاقتصادية والمائية، مبيناً أن "إقدام البرلمان على تشريع القانون سيتضمن إجراءات تمنع وتجرم المنظمات والأشخاص من التعامل السياسي والاقتصادي ومختلف أشكال العمل المشترك في حال استمرار تركيا وإيران بالتغافل عن الحقوق العراقية المشروعة".
إحراج حلفاء إيران
واعتبر فيصل أن "عرض القانون وتشريعه سيشكل مأزقاً على حلفاء إيران، لكون موضوع المياه وجفاف أنهار العراق وبحيراته وأهواره، يؤرق العراقيين، ومن يقف مع إيران سيواجه رفض وكراهية الشعب"، لافتاً إلى أن طرح الموضوع في البرلمان سيشكل موقفاً ضاغطاً على الدولتين.
وينبع نهر الفرات من جبال طوروس في تركيا ليخترق الأراضي السورية ويدخل بعدها إلى الأراضي العراقية عند البوكمال في محافظة الأنبار، ليلتقي نهر دجلة ويكونا شط العرب.
ويبلغ طول نهر الفرات من منبعه في تركيا حتى مصبه في شط العرب 2940 كيلومتراً منها 1176 كيلومتراً في تركيا و610 كيلومترات في سوريا و1160 كيلومتراً في العراق، ويتراوح عرضه بين 200 إلى أكثر من 2000 متر عند المصب.
فيما ينبع نهر دجلة من جبال طوروس جنوب شرقي الأناضول في تركيا، ويعبر الحدود السورية التركية، ويسير داخل أراضي سوريا بطول 50 كيلومتراً تقريباً، ليدخل بعد ذلك أراضي العراق عند قرية فيشخابور.
ويبلغ طول مجرى النهر نحو 1718 كيلومتراً ينبع من تركيا ومعظم مجراه داخل الأراضي العراقية بطول يبلغ نحو 1400 كلم، وتصب خمسة روافد فيه بعد دخوله الأراضي العراقية وهي (الخابور والزاب الكبير والزاب الصغير والعظيم وديالى)، وهذه الروافد تجلب إلى النهر ثلثي مياهه، أما الثلث الآخر فيأتي من تركيا.