مع وصول السيد محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية، مرّ النظام ومؤسساته في مرحلة عدم توازن نتيجة الصدمة التي شكلتها هذه الانتقالة وهذا التحول، وهي ما دفعته للتعامل مع الأنشطة الإعلامية والطلابية بكل حزم وقسوة وقمع ودموية، وفجرتها الجرأة التي مارستها صحيفة "سلام" العائدة إلى أحد أقطاب جماعة رجال الدين المناضلين، الجناح اليساري في المؤسسة الدينية موسوي خوئينيها.
بعد نشرها نص الرسالة السرية الموجه من مساعد وزير الأمن سعيد إمامي إلى وزير الأمن حينها قربان علي دري نجف آبادي، ويدعوه فيه إلى العمل لوضع قانون جديد للصحافة، بعد تزايد المخاوف والقلق من "تراجع الوضع الثقافي" وضرورة التدخل ووضع قيود على الكتاب والصحافيين والسيطرة على الوسط الثقافي للبلاد، وقد تضمنت الرسالة أسماء كتاب تعرضوا للاغتيال لاحقاً، ما استدعي من أجهزة النظام اللجوء إلى إقفال الصحيفة لمدة خمس سنوات.
هذا القرار فجّر حركة اعتراضية بين طلاب الجامعات، بخاصة في جامعة طهران اعتراضاً على هذا القرار، وتطورت الأحداث وانتقلت إلى الشارع، ما دفع النظام لاستخدام تشكيلات من جماعة "أنصار حزب الله" لمهاجمة الطلاب في السكن الجامعي وضربهم واعتقال البعض منهم، إلا أن حجم الثقة التي سيطرت بين الطلاب، وضرورة اغتنام الفرصة السانحة لتكريس الصوت الاعتراضي، دفعتهم للاستمرار في تحركهم بعد أن انضمت لهم جامعات أخرى في إيران، إلى أن انتهى الأمر بالنظام في 14 يوليو (تموز) 1999 للدفع بعناصر أمنية بلباس مدني بقيادة رئيس البرلمان الحالي محمد باقر قاليباف للهجوم على المساكن مستخدمين أقسى أنواع العنف، ما أدى إلى سقوط عدد من القتلى بين الطلاب.
هذه الحادثة، شكلت انتقالة مفصلية في الصراع بين النظام ومؤسساته مع قوى الإصلاح، إذ أسقطت صفة اليسار الديني عن الأنشطة السياسية، واتخذت صفة القوى الإصلاحية، بعد دخول قوى وأحزاب تاريخية وذات دور وثقل في بناء الثورة والنظام إلى هذه التوجهات، كالحركة الطلابية أو "مكتب تعزيز الوحدة" الذي سبق أن أسسه خوئينيها نفسه، وحركة "مجاهدي الثورة الإسلامية" بقيادة بهزاد نبوي، وآخرين ممن شكلوا الرافعة التي استند لها خاتمي في مواجهة قوى وأحزاب التيار المحافظ أو الأصوليين.
بدأ النظام يعيد ترتيب صفوفه واستيعاب الصدمة، وانطلقت أدواته بفعالية لإفشال التجربة الإصلاحية والخاتمية، ولم تتورع الأجهزة الأمنية من اللجوء إلى القتل والعنف ضد الأوساط المثقفة والإعلامية، فشهدت إيران موجة من الاغتيالات التي طاولت سياسيين ومثقفين وإعلاميين وفنانين، الأمر الذي وضع خاتمي بصفته رئيساً للسلطة التنفيذية في مواجهة هذه الأجهزة، وكشف عن الجهات التي تقف وراء هذه الاغتيالات، وتحميل وزارة الأمن المسؤولية المباشرة عنها، وانتهت باعتقال سعيد إمامي، الذي انتحر لاحقاً في سجن إيفين، وآخرين من جهاز وزارة الأمن.
الكشف عن تورط أجهزة النظام في عمليات الاغتيال، أعطت خاتمي هامشاً للمناورة والعمل على تكريس رؤيته الفكرية والثقافية والسياسية، القائمة على تعزيز الحريات الشخصية والفردية، وحماية حرية الرأي، وتوسيع أفق التعددية السياسية وحرية العمل الحزبي والسياسي، الأمر الذي أسهم في بروز أحزاب وقوى إصلاحية إلى جانب القوى التقليدية والتاريخية التي حسمت خياراتها بالانتقال إلى الضفة الإصلاحية من دون أن تعلن عداءها للنظام وتحت سقف الالتزام بالدستور.
استمر النظام في محاصرة خاتمي وتجربته، فشهدت تلك المرحلة حملة واسعة من المحاكمات والاعتقالات للسياسيين ووزراء وإعلاميين ومفكرين، كانت تجري محاكمتهم في محاكم الثورة برئاسة القاضي سعيد مرتضوي بتهمة إضعاف النظام والنيل من ولاية الفقيه، حتى بات السؤال السائد بين هؤلاء "لم تذهب إلى السجن بعد؟". والقاضي مرتضوي، وبالتعاون مع محكمة الصحافة، أصدر قراراً بإقفال أكثر من 100 صحيفة ومجلة محسوبة على الأحزاب الإصلاحية في يوم واحد، في محاولة يائسة لإسكات وكم الأفواه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإجراءات التي اتخذها النظام بحق الصحافة، كلفته جهداً كبيراً، إذ إنه لجأ إلى تشكيل جهاز خاص لمتابعة أدق التفاصيل التي تنشرها هذه الصحف، والآراء التي يكتبها السياسيون الإصلاحيون ورجالات الفكر والمثقفين، ما جعله المرجعية لكل القرارات التي صدرت بحق الصحف والناشطين الإصلاحيين.
ولم تقف جهود النظام وأجهزته عند هذه الحدود، بل حاول بكل ما امتلك من سلطة إلى تعطيل عمل البرلمان في مناقشة مسودة قانون جديد للإعلام تقدم به البرلمان السادس (2000 – 2004) الذي سيطر عليه الإصلاحيون، إلا أن فشل الأقلية المحافظة في تعطيل هذه العملية، دفعت المرشد الأعلى في شهر أغسطس (آب) 2001 للتدخل مباشرة وإصدار حكم ولائي، "حكم حكومتي"، طلب فيه من رئيس البرلمان حينها الشيخ مهدي كروبي بسحب القانون وتعطيل مناقشته، ما دفع كروبي لتنفيذ الحكم التزاماً بالدستور الذي يعطي الحق للمرشد في تعطيل القوانين، على الرغم من اعتراض النواب الإصلاحيين على ذلك، وعندما توجهت شخصياً بالسؤال لكروبي عن أسباب التزامه بهذا الحكم، كان جوابه "أنا من المؤمنين بولاية الفقيه وأحكام ولي الفقيه ملزمة، فضلاً عن التزامي بتطبيق الدستور وما جاء فيه".
سياسة التعطيل والمحاصرة التي مارسها النظام وأجهزته، وما رافقها من تهديدات وتسليط سيف القضاء والمحاكمات، سمحت له بإيجاد شرخ بين القوى الإصلاحية والشارع الشعبي، فضلاً عن خلق حالة من الإحباط داخل المجتمع دفعت الكثير من الشرائح إلى العزوف عن المشاركة في الانتخابات الرئاسية والبلدية والنيابية، الأمر الذي مهّد للنظام طريق العودة للسيطرة على كل مفاصل السلطة التنفيذية والتشريعية والبلدية بالحد الأدنى من المشاركة التي مارستها الكتلة البشرية المؤيدة له، والتي تشكل قاعدته الشعبية، بحيث انتهت الأمور إلى إخراج القوى الإصلاحية من دائرة القرار، وفتحت الطريق أمام وصول محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية، بعد أن سبقه غلام علي حداد عادل إلى تولي رئاسة السلطة التشريعية.