مع أول أيام موسم حصاد القموح في تونس، يستبشر المزارعون بهذا الحدث الفلاحي البارز الذي يتوج تقريباً سنة فلاحية مُضنية ومرهقة للحصول على محصول علّه يُجازي جهودهم ويتحصلون على أثمان مجزية عند إيداع المحصول ديوان الحبوب (حكومي)، ولكن في السنوات الأخيرة برزت مظاهر جديدة في مزارع الحبوب في تونس بدأت تثير الحيرة والربية بشأنها لما تمثله تهديداً حقيقياً لصابة الحبوب التي تعول عليها تونس للتقليص من حجم وارداتها من القموح بالعملة الأجنبية.
وأضحت مظاهر الحرائق والتهريب والضياع تمثل خطراً جدياً يتهدد صابة تونس من القموح بتسجيل نسب مرتفعة من الحرائق بشكل محير، وبخاصة تنامي ظاهرة تهريب المحصول إلى دول مجاورة لتونس، ومنها الجزائر وليبيا عن طريق وسطاء يدفعون أسعاراً مجزية للمزارين أفضل مما حددته وزارة الفلاحة التونسية، كما تعترض المحصول آفة لم تقدر الجهات المسؤولة على تطويقها والقضاء عليها، وتتمثل في نسب الضياع المحصول جراء تقادم آلات الحصاد وعدم صيانتها، إذ تقدر وزارة الفلاحة التونسية نسبة ضياع المحصول بأكثر من 10 في المئة.
صيحة فزع وتحذير
أول إطلاق صفارات الإنذار انطلقت في الأيام الأخيرة من خلال تحذير رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بمحافظة القيروان (وسط تونس) المولدي الرمضاني من عمليات تهريب جانب من صابة الحبوب إلى وجهة غير معلومة. وقال، "خلال الأيام الأخيرة لاحظت عمليات نقل لكميات من القمح بالجهة بواسطة عدد من الشاحنات الثقيلة نحو وجهة غير معلومة، داعياً الوحدات الأمنية والديوانية إلى التصدي لمثل هذه العمليات والضرب على أيدي العابثين بالأمن الغذائي". وأعرب الرمضاني عن خشيته من أن يؤدي نقل الشاحنات لكميات الحبوب إلى غير مراكز التجميع التابعة لديوان الحبوب أو المراكز الخاصة إلى نقص كبير في عمليات التخزين، مشدداً على ضرورة حماية صابة الحبوب، بخاصة بعد أن شهدته تونس من نقص حاد في مادة السميد والخبز قبل وخلال شهر رمضان المنقضي. وخلص بتأكيد ضرورة العمل على حماية الأمن الغذائي في ظل ما يشهده العالم من صعوبات جراء الحرب الروسية - الأوكرانية.
وجوب مقاومة التهريب
وأقر شكري الرزقي عضو المكتب التنفيذي للمنظمة الفلاحية التونسية بوجود مسألة تهريب كميات من محصول القموح، واصفاً المسألة بالجريمة في حق الشعب التونسي، لا سيما في مثل الظروف الدولية الحالية التي تتسم بارتفاع كبير في أسعار الحبوب في ظل الحرب المستعرة بين روسيا وأوكرانيا. وقال إن "قطاع الحبوب من المجالات الاستراتيجية والحيوية للبلاد، ما يوجب مزيداً من اليقظة والحذر والحفاظ على كل قنطار من الحبوب"، مرجحاً أن تضاعف السلطات الأمينة التونسية من مجهودها لمراقبة الحدود لقطع الطريق على ما وصفه بأباطرة التهريب مستغلي الأوضاع الحالية لتهريب الحبوب. واعتبر الرزقي أنه مع بروز كل أزمة عالمية أو إقليمية ينشط "تجار الحرب" بتنامي مظاهر المضاربة، وبخاصة التهريب إلى درجة وصول تهريب القموح لغاية ربحية ذات طابع أناني على حساب قوت الشعوب. وطالب المسؤول بالمنظمة الفلاحية التونسية بتجريم ظاهرة تهريب الحبوب وارتقائها إلى جريمة دولية، نظراً إلى ما يمثله قطاع الحبوب من مجال جد حيوي.
من جانب آخر، أبرز الرزقي أنه من ضمن المظاهر الخطيرة التي تهدد المحصول الزراعي تفاقم ظاهرة الحرائق في مزارع الحبوب التي أضحت ظاهرة مقلقة وتبعث على الانزعاج. وأكد أن معظم الحرائق ليست بفعل فاعل، بل هي متأتية بالأساس عن عدم انتباه المزارعين، ولا سيما عن طريق إلقاء بقايا السجائر ما يتسبب في نشوب حرائق في المزارع تأتي على كميات لا بأس بها من المحاصيل الزراعية. وقدّر الرزقي الخسائر الناجمة عن الحرائق في مزارع الحبوب بفعل الحرائق في حدود 500 هكتار (الهكتار يساوي 10000 متر مربع)، ما يستدعي مزيداً من اليقظة وتحسيس المتدخلين لتفادي خسائر تونس في أمس الحاجة إلى الحفاظ على صابة الحبوب، أما المحور الثالث الذي يتهدد محاصيل القموح في تونس، وهو خطير ويحتاج إلى عمل كبير من الدولة، بحسب المسؤول بالاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري، والمتمثل في تسديل نسب ضياع مهمة للمحاصيل جراء تقادم أسطول آلات الحصاد والجرارات.
ورجح الرزقي أن تونس تفقد سنوياً من محصول الحبوب في حدود 10 في المئة لتصل في بعض المحافظات إلى زهاء 20 في المئة بفعل الآلات القديمة جداً، وعدم قدرة القطاع على تجديد الأسطول، علاوة على أن الدولة تقدم منحاً للمزارعين لاقتناء الآلات الجديدة، لكن صرف المنح يتأخر سنوات عدة ما يجعل الفلاحين يعزفون على شراء الآلات.
محصول متواضع
وقدرت وزارة الزراعة التونسية محصول الحبوب لهذا العام في حدود 1.8 مليون طن مقابل 1.6 مليون طن في الموسم الزراعي لسنة 2021 بزيادة تسعة في المئة، وتحتاج تونس سنوياً إلى 3.4 مليون طن من الحبوب، يتم توريد معدل مليوني طن سنوياً معظمها من أوكرانيا وروسيا في حدود 60 في المئة، وبفعل الحرب في منطقة البحر الأسود ارتفعت أسعار الحبوب بشكل كبير ما جعل الحكومة التونسية تحرص على تشجيع الفلاح التونسي الناشط في الحبوب والترفيع في أسعار القموح.
وأوضح محمد علي بن رمضان نائب مديرة بإدارة الزراعات الكبرى بوزارة الفلاحة التونسية أن الترفيع في أسعار الحبوب عند الإنتاج لهذا الموسم سيكون له الأثر الإيجابي على مواصلة العناية بالزراعات والرفع في الكميات المجمعة إلى أكثر من 75 في المئة، بخاصة للقمح الصلب والحد من نسب التلف في مستويات عدة عند الحصاد، والتجميع والنقل. وأشار إلى أن وزارة الفلاحة أعلنت، مطلع شهر أبريل (نيسان) 2022، عن الترفيع في أسعار الحبوب وتسليمها إلى ديوان الحبوب الحكومي على أساس 130 ديناراً للقنطار الواحد (43 دولاراً) للقمح الصلب، أي بزيادة 43 ديناراً (14.3 دولار) عن الموسم الماضي، وإقرار 100 دينار (33.3 دولار) للقنطار للقمح اللين، أي بزيادة 33 ديناراً (10 دولارات) عن الموسم الماضي، و80 ديناراً (26.6 دولار) للقنطار من الشعير أي بزيادة 24 ديناراً (ثمانية دولارات) عن الموسم الماضي.
وكان المرصد الوطني للفلاحة (حكومي) كشف عن أن معدل سعر القمح اللين الأوروبي بالسوق العالمية بلغ 1288 ديناراً (429.3 دولار) للطن في أبريل 2022 ليبقى عند مستوى السعر العالمي في مارس (آذار) 2022 مقابل زيادة بنحو 70 في المئة أعلى مما كان عليه في أبريل 2021.
وتورد تونس القمح اللين بكميات مهمة لاستخدامه في توفير مادة الطحين المستخدمة في تصنيع مواد عدة من بينها الخبز، علماً بأن واردات سلة الحبوب المكونة من القمح اللين والصلب والشعير العلفى والذرة كلفت البلاد إلى نهاية مارس 2022 زهاء 1000 مليون دينار (333 مليون دولار).
أهمية إنجاح موسم الحصاد والتجميع
وخلال إعطائها إشارة انطلاق موسم الحصاد بإحدى قرى محافظة سليانة (شمال غرب) يوم الثامن من يونيو (حزيران) 2022، أكدت رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن على أهمية تحقيق الأمن الغذائي على الرغم من التحديات الكبرى التي يواجهها القطاع من تغيرات مناخية وتداعيات الحرب الأوكرانية التي عمقت الأزمة الغذائية على المستوى العالمي من حيث ارتفاع الأسعار وكثرة الطلب على المواد الأولية. ودعت، بالمناسبة، الأسرة الفلاحية إلى بذل مزيد من الجهد واليقظة لإنجاح موسم الحصاد والعمل على المحافظة على الصابة وتجميعها على أحسن وجه والمحافظة على جودة المحصول. وشددت على أهمية تعديل آلات الحصاد والمصادقة على مراكز التجميع ومراقبتها وحث المنتجين على تسليم منتجهم إلى مراكز التجميع وتشديد المراقبة على التجميع العشوائي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وذكرت نجلاء بودن رمضان أن الحكومة رفعت في أسعار الحبوب بصفة ملحوظة لتشجيع المنتجين وكل المتدخلين في القطاع على الانخراط في برنامج طموح لمعاضدة جهود المنتجين وكل الفاعلين في قطاع الحبوب وتحفيزهم لكسب التحدي والمتمثل في تجميع أكثر ما يمكن من الحبوب لهذا الموسم وتحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب ابتداءً من الموسم المقبل.
ضغط لرفع أسعار الإنتاج
وبسبب ضعف أسعار القمح المحلي وارتفاع تكلفة الإنتاج، يبحث مزارعون داخل منظماتهم أشكال التصعيد للضغط على الحكومة لإجراء تعديلات للأسعار تتماشى والمستجدات العالمية في سوق الحبوب، ملوحين بالامتناع عن تسليم محاصيل الموسم الجديد وبيعها في مسالك موازية (المقصود به التهريب) بأثمان يحددها قانون العرض والطلب، ورأى عضو تنسيقية "فلاحون غاضبون" (منظمة مدنية)، هيثم الشواشي، أن مزارعي الحبوب بالمحافظات الأكثر إنتاجاً، شمال البلاد، يدرسون إمكان حجر المحصول وعدم بيعه لديوان الحبوب، مؤكداً عدم قبول سياسة الأمر الواقع التي تريد الدولة فرضها على المنتجين. وقال الشواشي، "لن نقبل مستقبلاً بأسعار مرجعية تحددها الدولة من دون مراعاة مصالح المنتجين، بينما يدعم المزارع الأجنبي عبر شراء الحبوب من السوق العالمية بأسعار عالية". واعتبر أن المنتجين غير مجبرين على بيع محاصيلهم بأسعار بخسة، مؤكداً أن حجز المحصول وتوجيهه نحو صناعة الأعلاف أو ترويجه في مسالك موازية سيكون أكثر مردودية للمزارعين، وانتقد الشواشي بشدة قبول السلطات قانون العرض والطلب العالمي واستيراد الحبوب بأسعار مرتفعة بينما تريد فرض سياسة الأمر الواقع على المنتجين المحليين الذين يعانون ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج، وهو ما يفسر عزوف المزارعين عن مواصلة الإنتاج.
الحرب الروسية - الأوكرانية
وفرضت الحرب الروسية - الأوكرانية واقعاً جديداً على الدول التي لا توفر خبز مواطنيها من إنتاجها الخاص، بعد أن قفزت أسعار الحبوب لمستويات قياسية، ما قد يكلف الموازنة نحو 1300 مليون دينار (433.3 مليون دولار) إضافية لدعم الغذاء، بحسب تقديرات خبراء الاقتصاد.
وأكد عضو المكتب التنفيذي لاتحاد الفلاحة والصيد البحري محمد رجايبية دعم منظمة المزارعين لمطالب الفلاحين بإقرار زيادة جديدة في سعر القمح على وقع المستجدات الجديدة في سوق الحبوب العالمية. وقال إن ديوان الحبوب يشتري القمح من السوق العالمية بـ400 دولار للطن، بينما يشتري المنتج المحلي بـ870 ديناراً، أي ما يعادل 300 دولار، مطالباً بدعم الإنتاج المحلي لخلق الوفرة وكبح تكلفة واردات الغذاء والتبعية للحبوب المستوردة. واعتبر أن السياسة الزراعية الحالية تدعم المنتج المستورد على حساب الإنتاج المحلي، مؤكداً أن ضعف الأسعار سيؤدي إلى حجز المزارعين للمحصول، أو ربما بيعه في مسالك موازية أو تهريبه نحو الأقطار المجاورة.