تقع أطلال قصر "أسيس" جنوب سوريا على طريق بادية الشام، وعلى بعد 105 كيلومترات من العاصمة دمشق، متموضعاً أعلى جبل "أسيس" البركاني على فوهة تتشكل فيها، في سنين الأمطار الغزيرة، بحيرة تتوزع المنشآت العمرانية حولها، لتشكل موقعاً أثرياً وثّقت فيه أبنية يعود بعضها إلى العصر البيزنطي، والقسم الأكبر منها يرجع إلى العصر الأموي، ويعد القصر الجزء الأهم فيه.
جبل "أسيس"
ويقع جبل "أسيس" في منتهى المرتفعات البركانية الشمالية الشرقية المتفرعة من جبل العرب وحراته (أراضيه البركانية)، وهو جزء من جبل حوران، إلى شرقه تقع صحراء الصفا، ويطلق عليه محلياً جبل "سايس" أو "سيس"، وورد اسمه في نقش بازلتي يعود إلى العصر الأموي، محفوظ في المتحف الوطني بدمشق، وكذلك ذكره ياقوت الحموي، في معجمه "معجم البلدان"، ووصفه بأنه مقام للوليد بن عبد الملك، وذكر في معجم أبو عبيدة البكري اللغوي الجغرافي "معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواقع"، أن لفظة "أسيس" (بضمّ أوّلها) هي تصغير "أسّ"، موضع في الشام.
ويضم هذا الجبل مجموعتين من الأبنية تعودان إلى عهد الوليد بن عبد الملك، الأولى تقع على منحدر الفوهة البركانية والثانية في سفح الجبل، فقد شيّد الوليد الأول في الفترة الأموية مجمعاً عمرانياً يضم قصراً ومنتزهاً صحراوياً له ولأفراد عائلته، ومخطط القصر يشبه كثيراً بناء المنشآت الأموية الأخرى مثل الرصافة وقصر الحير الشرقي وغيرها من أبنية بصرى وحوران.
أقدم القصور الأموية
ويصنفه الباحثون كواحد من أقدم القصور الأموية في الصحراء، بخاصة زخرفته الجصية التي تعتبر الأقدم في تاريخ الزخرفة الإسلامية، وبينت البعثة الأثرية الألمانية التي قامت بالتنقيب عنه برئاسة كلاوس بريش، أن آثار جبل "سيس" من أهم المواقع التي تمثل العمارة الأموية الصحراوية وما زالت قائمة حتى الآن.
وكان أول من تنبه لهذا القصر المؤرخ الفرنسي جان سوفاجيه عام 1938 ونشر عنه بحثاً أظهر فيه التجانس الموجود في تقنية بناء القصر وملحقاته ومواد البناء المستخدمة، وبرهن على أنها تعود إلى العصر الإسلامي، ثم قارن بين مميزات العمارة في هذه المجموعة المتجانسة مع القصور الأخرى، وبرهن على أن تأسيسه يعود لزمن الخليفة الوليد الأول وقدم تفسيراً لاسم "سيس"، ويمتد القصر وملحقاته فضلاً عن عدد من المنازل السكنية الفاخرة بطول 300 متر على حافة الخبرة (البقايا الأثرية حول البحيرة)، ويشبه تنظيمه الداخلي التنظيم المعماري لقصر عنجر، الذي بناه الوليد أيضاً.
التنظيم الداخلي للقصر
وبني القصر على مخطط مربع الشكل، يتألف من سور محيط مربع الشكل متساوي الأضلاع، عدا ضلعه الجنوبي أقصر بما يقارب المتر، ترتفع في زواياه أربعة أبراج دفاعية مستديرة، وكذلك نجد في منتصف ثلاثة من واجهاته أبراجاً نصف دائرية أو شبه أسطوانية، بينما يتموضع مدخل القصر في منتصف الواجهة الرابعة (الشمالية)، وبحسب الوصف المقدم من جمعية البحث العلمي الألمانية، كان يتألف برج الواجهة الشمالية من طابقين مقببين بالآجر، يتخلله مدخل يليه ممر مسقوف ينفتح على فناء يتوسط القصر، وتحيط به أروقة عدة، كما يحتوي على بئر ماء مبنية من الحجارة البازلتية، وتطل عليه مجموعة من القاعات، وقد بلطت أرضيات الفناء والأروقة وممر المدخل بالحجارة المنحوتة، كما دلت الأعمال إلى أن أرضية القاعات كانت مبلطة بفسيفساء رخامية أزيلت في مراحل لاحقة. وفي الزاوية الجنوبية الشرقية للممر، ثمة بناء منفصل مؤلف من غرف عدة مبنية من الآجر، ربما كانت مخصصة لإقامة الحراس، وهذا يدل إلى وجود قسمين مفصولين في القصر (عام وخاص).
وبنيت جدران القصر من الحجر البازلتي المقصب، بالإضافة إلى حجارة أخرى منحوتة أحضرت من أبنية تعود إلى العصور الكلاسيكية الأقدم، وهذا ما ظهر واضحاً من خلال تيجان الأعمدة وأجزائها التي نقشت على بعضها حروف وأسماء يونانية، بينما استخدم اللبن في بناء الأجزاء العليا من بعض الجدران، واستخدم الآجر في بناء بعض الأقواس.
ملحقات القصر
وجاء في مجلة دراسات تاريخية (العدد 139) ذكر لملحقات القصر مع وصف دقيق لها، وأول هذه الملحقات جامع مبني من اللبن غير المشوي على أساسات من الحجر البازلتي المقصب، على مخطط بسيط يتكون من قاعة مربعة الشكل لها مدخلان، الأول في الجهة الشمالية والثاني في الشرقية، وتقسم القاعة إلى قسمين، جنوبي وشمالي بواسطة ثلاث دعائم تحمل قوسين كبيرين نصف دائريين، وتوجد على حجارة قاعدة الدعائم بعض الزخارف، وهناك إفريز بارز عند بداية الأقواس، ويتموضع المحراب في الجدار الجنوبي ويأخذ شكل حنية نصف دائرية، تبعاً لوصف المستشرق الفرنسي جان سوفاجيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما يضم القصر حماماً، يعتبر أقدم حمام إسلامي خارج المدن، يقع على مصطبة صغيرة بالقرب من حافة الخبرة، بنيت جدرانه من الحجارة البازلتية المقصبة، بينما بنيت القبوات من الآجر المشوي وطليت بطبقة من الطينة الكلسية، ويتألف من ثلاثة أقسام، البراني يتمثل بقاعة رئيسة مخصصة للاستراحة والتبديل، وفيها مدخل الحمام ومسقوفة بقبوة تحوي في قسمها الأيمن مصطبة مرتفعة لها مسقط نصف دائري، تعلوه قبة نصف كروية، وعلى الجهة المقابلة إلى اليسار من المدخل توجد حجرتان صغيرتان تعلوهما قبوة أقل ارتفاعاً، والقسم الثاني الوسطاني يتألف من قاعتين صغيرتين، وتنفتح كل منهما على القسم البراني بنافذتين ضيقتين، الأولى مخصصة للمياه الدافئة والثانية للساخنة، ومنها يدخل إلى القسم الجواني وهو عبارة عن غرفة البخار، وهناك قسم في القبو يحتوي على المواقد والحطب، كما يحتوي الموقع على خان وبئر وسد يحجز وراءه ماء السيل، وعلى أبنية متنوعة أخرى معظمها مخصص للسكن.
النقوش والزخارف
وتكثر في محيط الموقع صخور بركانية منقوشة على بعضها نصوص وكتابات صفائية (نسبة إلى تلال صفا الواقعة في حوران وهي تسمية جامعة لعدد كبير من النقوش المكتشفة في بادية الشام وما يجاورها)، وسبئية ويونانية وعربية كتبت بالخط الكوفي البسيط، وحملت رسومات لحيوانات وأشخاص بمشاهد مختلفة، وقد نفذت عفوياً بطريقة النقر الخفيف وبعضها حفر بعمق بسيط، وهي تعطي فكرة موسعة عن حياة وأحوال وثقافة شعوب تلك المنطقة.
وكان قد عثر في الأجزاء العليا من برج الدخول على قطعة زخرفية باللون الأسود نفذت على أرضية بيضاء تتضمن آية قرآنية، كما وجد على الأجزاء السفلى من الجدران في داخل القصر بقايا زخارف، بخاصة في القاعات، ونفذت زخرفة نباتية تحمل مشاهد متنوعة باللون الأسود أو الأحمر أو الرمادي، كما عثر في بعض قاعاته على مجموعة من الأواني الزجاجية ذات الألوان الزرقاء والخضراء من النوع العاتم والشفاف، وهناك بعض المسارج الفخارية التي تعود إلى العصر البيزنطي المتأخر وبعض القطع من العاج المزخرف وقطع نقدية تعود إلى العصر الأموي والعصور اللاحقة له.