هل يتذكر أحدكم "كوفيد"؟ لا يُفترض أن يكون هذا سؤالاً طريفاً. لقد أزهق أرواح نحو 200 ألف شخص في المملكة المتحدة وحدها (يرد "كوفيد- 19" سبباً للوفاة في حوالى 196 ألفاً و977 شهادة وفاة، حتى وقت كتابة هذا التقرير)، ودمر عائلات كثيرة، تاركاً في النفوس أذى وحزناً يعجز اللسان عن وصفهما. لقد غير "كوفيد" حياة الناس إلى الأبد. يكابد نحو 400 ألف شخص "كوفيد الطويل الأجل"، وكثير منهم لا يقوون على العمل، أو عيش الحياة المفعمة بالنشاط التي اعتادوها سابقاً.
ولكن الآن؟ يبدو الوضع كما لو أن فيروس كورونا لم ينوجد أبداً. بيد أن موجة أخرى منه آتية، مباشرة بعد موجة التهاون والتراخي التي اجتاحت الأمة منذ أن رُفعت القيود- في وقت مبكر جداً وعلى حين غرة- في فبراير (شباط). الإصابات وحالات الدخول إلى المستشفى آخذة في الازدياد، وإن كان الارتفاع يطرأ على مستوى منخفض أصلاً ومعدلات وفيات أقل بكثير.
ومن الممكن تماماً أن تكون احتفالات "بلاتي جوبس" [اليوبيل البلاتيني للملكة اليزابيث الثانية] وحفلات مهرجان "غلاستونبري" الموسيقية قد ساهمت في نشر المرض. ونعلم أيضاً أن الانتشار يحصل بشكل مطرد، وإلى حين أن يسترعي قلق السلطات، يكون الوقت قد فات للحد منه. لن يمر وقت طويل قبل أن نصل هذه المرحلة ربما.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا ننسى المتحورتين الجديدتين المثيرتين للقلق: "بي أي 4" (BA.4) و"بي أي 5" (BA.5). ليس واضحاً بعد مدى الخطورة التي تنطويان عليها مقارنة مع المتحورات السابقة، ولكن من الجائز، حتى إن لم تكونا خطيرتين، أن تنشأ متحورة أخرى تبعث على الخوف إذ تكون أكثر قدرة على العدوى وأشدّ شراسة من المتحورات التي عرفناها سابقاً. تظهر هذه الطفرات الجينية على نحو عشوائي (حتى الإنفلونزا الموسمية يرتفع مستوى ضراوتها أحياناً ويتراجع أحياناً أخرى).
لهذه الأسباب، كانت الحكومة البريطانية متهورة جداً إذ تخلت عن معظم البرامج والأنظمة الأساسية التي كان معمولاً بها لمراقبة "كوفيد" ورصده، ناهيك عن إلغاء الاختبارات الروتينية في المدارس للكشف عن الفيروس، في جهود دعائية همها أن ننسى جميعاً "كوفيد" ونعيش حياتنا على نحو طبيعي. ولكن في زمن كوفيد، لا يمكننا أن نحيا حياتنا كما اعتدنا أن نفعل سابقاً. ربما نضطر إلى أن نتعلم هذا الدرس مرة أخرى، إنما بكلفة باهظة.
كان إلغاء التدابير الوقائية المتواضعة المتصلة بالصحة العامة في وقت سابق من العام الحالي (في ما يتناقض مع "الإغلاق") قراراً كبيراً آخر أخطأ فيه رئيس الوزراء بوريس جونسون. خلافاً لذلك، كان ينبغي تمديد الضوابط، وليس الغرض من ذلك التصدي لمعدل إصابات "كوفيد" الآخذ في الانخفاض، بل الحؤول دون حدوث إصابات تحتاج إلى دخول المستشفيات لمساعدة "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" ("أن أتش أس"NHS ) على الانتهاء من الحالات الصحية الأخرى (غير كوفيد) المتراكمة. لم نفعل ذلك، ومن ثم تفاقمت الضغوط المستمرة على "أن أتش أس" نتيجة النقص في أعداد الموظفين الذين هجروها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
إذن، أفلح هذا الجهد في حملنا على "التعايش مع كوفيد". الآن، حتى الأشخاص الذين ترتجف أقدامهم خوفاً أمام "كوفيد" من أمثالي يشعرون بانزعاج من ارتداء الكمامات في السوبر ماركت، وصعوبة في رفض المناسبات الاجتماعية. ربما لم نصل فعلاً إلى مناعة القطيع من طريق لقاحاتنا، غير أننا لم نفقد غريزة القطيع. ومع ذلك، يجب أن يدفعنا الصعود الأخير والمفاجئ في أعداد الإصابات إلى توخي بعض الحذر حيال الدعوات إلى الحفلات في الأماكن المغلقة، أو طبعاً الفعاليات التي تنظمها الشركات.
يبدو منطقياً ترددنا في التسليم بأن "كوفيد" ما زال موجوداً، وما برح يصيب الناس بالمرض، وبأن الفئات السكانية الهشة سريرياً ما زالت في خطر. لا يروق لنا ذلك. يحلو لنا أن نفكر بأنه قد اختفى، أو أنه لا يختلف عن الإنفلونزا الموسمية. لقد شربنا "كولايد" النصائح التي راح بوريس جونسون يغدق بها علينا في وقت سابق من العام الحالي، كل الكلام حول "أن علينا أن نتعلم كيف نتعايش مع كوفيد"، أو "أن نضع الجائحة وراءنا"، ونعيش بشكل طبيعي، وما شابه.
حتى التدابير الوقائية بأدنى مستوياتها ليست معتمدة هذه الأيام. باستثناء المستشفيات والعمليات الجراحية، صار ارتداء الأقنعة الواقية نادراً جداً الآن. لقد تلاشى التأثير الذي يتركه نظراؤنا في سلوكنا الذي قادنا إلى الإبقاء على المسافات في ما بيننا، ووضع الكمامات في الأماكن المزدحمة، لقد أخذ مساراً معاكساً. أظهر الخلاف بشأن "بارتي غيت" [حفلات أقيمت في مقر رئاسة الوزراء في "10 داونينغ ستريت" في خرق لقواعد الإغلاق التي فرضتها الحكومة البريطانية للحد من انتشار كورونا] مدى التغير الذي طرأ على نظرة بعض الناس إلى "كوفيد"، من كونه تهديداً قاتلاً محتملاً وخطراً مشوباً بالغموض لا يتوافر له علاج مناسب أو لقاح مضاد (كانت هذه الحال آنذاك)، إلى اعتبار أن انتهاك القانون الذي شهده "داونينغ ستريت" أمر تافه، تماماً كما يخطئ الناس في تقدير الخطر الآن.
لننظر إلى الأمام إذن. لقد اجتزنا الانقلاب الصيفي، وعندما يحين الوقت، يؤسفني أن أقول هذا، سيذهب بنا الطقس مجدداً إلى الأماكن الداخلية (إن لم يكن بدأ فعلاً). ستتضاعف الزيادة الحالية في الإصابات وحالات الاستشفاء. سوف تظهر متحورات جينية جديدة. ربما يكون بعضها خطيراً جداً.
إذن، ماذا بشأن اتخاذ تدابير وقائية إزاء الموجة المقبلة في الخريف- الآن، وقت الاستعداد؟ أين الجهود المبذولة في سبيل جولة جديدة من الجرعات التحصينية المعززة، بل اللقاحات الجديدة المتعددة التكافؤ التي ستساعد في الحماية من متحورات فيروس كورونا غير المرصودة حتى الآن؟ أين ذهبت الحملة الإعلامية التي تذكرنا بتفادي المجازفة غير الضرورية إذا كنا أفراداً ضمن مجموعات هشة؟ هل العلاجات في متناولنا، وهل نملك مخزوناً كافياً من معدات الوقاية الشخصية؟ هل سيارات الإسعاف كافية؟ هل لدى "هيئة الخدمات الصحية الوطنية" عدد كافٍ من الموظفين المهرة ومتوسطي المهارة؟
أشك في ذلك، استناداً إلى روايات تصدر عن "أن أتش سي" الآن ومعدلات التطعيم المنشورة- سبعة فقط من كل 10 أشخاص منا حصلوا على التطعيم الكامل (أي مع الجرعات المعززة)، وحوالى 7 في المئة من السكان ليسوا محصنين بشكل كامل.
يعني هذا النقص في الحصانة أنه حتى موجة معتدلة من العدوى الخفيفة ربما تكون أصعب من أن تتصدى لها خدماتنا الصحية التي تكافح أصلاً. كما أي وقت مضى، يبدو أن الأمة لا تتمتع بجاهزية تامة.
"التعايش مع كوفيد" لا يعني أبداً تجاهله والعودة إلى فعل الأمور تماماً كما في السابق. التعايش مع كوفيد إنما بمسؤولية يعني إدخال تعديلات إلى أنماط العمل والمتعة كي نتفادى انتشار الفيروس الذي ما زال يجول بيننا. التعايش مع كوفيد يعني تعزيز الحماية التي توفرها مناعة القطيع عبر التطعيم المسؤول والجهد المستمر لرفع أرقام التلقيح. يعني تجهيز "أن أتش أس" لمواجهة حالة صحية عامة طارئة أخرى. يعني تصحيح أي شوائب في نظام الاختبار وتتبع المخالطين قبل الأزمة، والعمل مجدداً ببرامج المراقبة والرصد (مثل التحاليل التي كشفت عن فيروس شلل الأطفال في مياه الصرف الصحي مقدمة معلومات بالغة القيمة).
باليقظة المستمرة وحدها يمكننا أن نتعايش فعلاً مع "كوفيد"، وأن نبقيه بعيداً من حياتنا قدر الإمكان. لا يمكننا أنه ندعي بأنه غير موجود حتى لو أراد بوريس جونسون ذلك.
© The Independent