برحيل الآغا حبيب العفري تشارف قصة أغوات الحرمين على النهاية، فقد تناقصت أعدادهم بالوفاة ولم يبق منهم سوى أعداد تحصى على أصابع اليد الواحدة، وتوقفوا عن مهماتهم بسبب كبر سنهم وسوء حالهم الصحية.
وعلى الرغم من غرابة قصتهم إلا أن التكتم على أشخاصهم يزيد الفضول حول تفاصيل حياتهم، التي يسودها التكتم من جانب الجهات المنظمة لعملهم في شؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي على مر عقود، حفظاً لخصوصيتهم وحساسية المهمة التي يؤدونها والأسرار التي يطلعون عليها لدى استقبال الوفود ولقاء رؤساء الدول والمسؤولين الزائرين لمثوى نبي المسلمين.
ونعت وكالة شؤون المسجد النبوي، الأربعاء 13 يوليو (تموز)، الآغا حبيب محمد العفري أحد أقدم أغوات المسجد النبوي الذي كرس حياته لخدمة المسجد والحجرة النبوية حيث قبر النبي محمد وأبي بكر وعمر، وأقيمت صلاة الجنازة عليه في الموقع الذي ظل ملازماً له طوال حياته بعد صلاة المغرب، وتم دفنه بمقبرة "بقيع الغرقد" التي تضم رفات خير أصحاب النبي وآله، ومشاهير أئمة المسلمين القدامى والمحدثين.
من هم الأغوات؟
عرفوا بأنهم طائفة من الأفارقة نذروا أنفسهم لخدمة الحرمين في مكة والمدينة، وتم خصيهم في قديم الزمان إما لغزو اقتحم بلادهم أو لمعتقدات خاطئة، وأصبحوا جزءاً من تاريخ الحرمين وبخاصة المدينة المنورة، فقد ارتبطوا منذ العصور القديمة بمسميات داخل المسجد النبوي وخارجه، مثل "دكة الأغوات"، وهو مكان معروف حتى اليوم بالمسجد، وحارة الأغوات في المدينة المنورة، وأوقاف الأغوات وهي مبان قديمة قريبة من المسجد النبوي خصص ريعها لهم.
ولا يجد الباحث سوى قصاصات تاريخية ومقاطع بسيطة بالكاد تعرف بتلك الشخصيات التي ينظر إليها السكان بإكبار، نظير ارتباطها بالمسجدين المقدسين في مكة والمدينة.
وحول دخولهم الحرمين، تذكر الروايات التاريخية أن معاوية بن أبي سفيان كان أول من وضع خداماً للكعبة المشرفة من العبيد، وابنه يزيد هو من اتخذ الخصيان لخدمة الكعبة، أما أغوات الحرم النبوي الشريف فيرد ذكرهم في مراجع كثيرة ومتضادة، إلا أن دراسات ترجح أن الذي جلبهم إلى المدينة النبوية هو السلطان نور الدين زنكي عام 558 للهجرة (1162 ميلادية)، ولا يبدو أنه استحسن فكرة إرسال الخدام بكثرة إليها في بادئ الأمر، لذا لم يستقدم سوى 12 "آغا"، حتى تزايدوا شيئاً فشيئاً وصولاً إلى مئات "الأغوات"، ليكونوا مجتمعاً وأسرة كبيرة من دون سبب واضح.
وكلمة "آغا" التي تطلق على تلك الفئة أعجمية لا أصل لها في اللغة العربية، إذ وثق الباحث في تاريخ المدينة الراحل صلاح الدين شكر لدى حديثه عن "الأغوات وصفاتهم" أن أصل الكلمة أعجمي وهي مستعملة في اللغات التركية والكردية والفارسية، وأنها كانت تطلق أيام الدولة العثمانية على الشيخ أو السيد أو صاحب الأرض، وكانت تطلق أيضاً على الخصيان الخدام في القصر وفي مكة والمدينة، بخاصة خدمة الحرمين الشريفين، إجلالاً لقدرهم.
رتب عسكرية
ومع توافق مواصفات الأغوات الأساس إلا أن أعمالهم تختلف من شخص لآخر، وهم أشبه بالكتيبة العسكرية بحسب صلاح الدين الذي ذكر أن تقسيم أعمالهم يبدأ بالرئيس ويسمى شيخ الأغوات ليأتي بعده النقيب وهو الذي يخلف الشيخ بعد موته، ثم يأتي بعد ذلك الأمين ويليه مباشرة "مشدي والخبزي ونصف خبزي وشيخ بطال"، والأخير دوره معاقبة المخالفين في عملهم.
وفي السابق، كان المخطئ يُجلد، وتم إلغاء العقوبة بتعيينهم موظفين رسميين، وآخر مرتبة لسلم الأغوات المتفرقة هم "المشرفون" الذين يتولون الإشراف على توزيع الأعمال، ويعين أقدم الأغوات شيخاً عليهم وهو المسؤول عن أوقاتهم وسير عملهم في الحرم، وبعد موت الشيخ يصبح النقيب شيخاً والأمين نقيباً وينوب النقيب عن الشيخ في حال غيابه، ويأمر كما يأمر الشيخ.
وروى صلاح الدين أن ما يميز درجات الأغوات هو لباسهم الذي يرتدونه بحسب مناصبهم، وفق شارات وعلامات بحسب رتبهم تظهر على الزي، وفي القديم كانوا يتشددون في الزي، فالآغا في السابق لا يلبس ثوباً مفتوح الزرر، ومن يفعل ذلك يعاقب.
في ذاكرة زوار الحرمين
وعرفت هذه الشريحة بمهمات تصل إلى 40 مهمة لا يقوم بها أحد غيرهم، فيقومون سابقا بغسل المطاف وتنظيف الحرمين وإنارة القناديل وغير ذلك من الأعمال، أما في سنوات مضت وقبل أن تهرم بقيتهم الباقية، فانحصر عملهم في أربع وظائف هي المشاركة في استقبال الملك والوفد المرافق له وخدمة ضيوف الدولة من رؤساء ووزراء وغيرهم من المرافقين والتابعين ومنع النساء من الطواف بعد الأذان.
وفي المسجد النبوي الشريف يعملون على تنظيف الحجرة النبوية وفتحها للضيوف عند الحاجة واستقبال ضيوف الدولة عند باب السلام ومرافقتهم وملازمتهم إلى أن يغادروا المسجد النبوي الشريف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع مرور الزمن وكبر سنهم وسوء حالهم الصحية طويت صفحتهم في الحرمين ولم يعد لهم دور سوى ذكراهم الباقية، فزائر المسجد النبوي حتى يومنا هذا يجد دكتهم التي ترتفع عن الأرض بنحو 40 سنتيمتراً يسار الحجرة النبوية، والتي كانت تستخدم في عهد الرسول من جانب "أهل الصفة" الذين كان يصرف لهم ما يحتاجون من غذاء وكساء، لقاء تفرغهم للعلم وخدمة الرسول والمشاركة في غزواته.
وأما في مكة فلم يعلق مكانهم في ذاكرة الزوار، إذ وجد لهم مكان يسمى بـ "مقعد الأغوات" يجمعهم خلال اليوم، ليتغير بعد مشاريع التوسعة إلى مكان بجوار أحد الفنادق.
فتوى توقفهم
وتوقفت ظاهرة قدوم الأغوات بفتوى أصدرها المفتي العام للسعودية الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز، الذي قاد هيئة كبار العلماء في البلاد إلى اتخاذ قرار يقتضي وقف استقدام الأغوات، مبرراً ذلك بضرورة "عدم تشجيع الاعتداء على الغير بهدف الوصول إلى شرف خدمة الحرمين، بعد أن شاع أن آباءهم كانوا يتعمدون إخصاءهم لإرسالهم إلى الخدمة في السعودية"، بحسب ما تشير التقارير الصحافية السعودية.
وكان مرسوم ملكي صدر في عهد الملك عبدالعزيز عام 1927، وجاء فيه "بخصوص أغوات الحرمين لا يحق لأحد أن يعترض عليهم أو يتدخل في شؤونهم وأن يبقوا على عاداتهم وتقاليدهم"، إلا أن تطور الزمن بعد ذلك أفضى إلى طي صفحة ذلك التقليد، فلم يبق غير ثلاثة من أغوات المدينة بعد رحيل رابعهم الأربعاء عن عمر جاوز الـ 90 عاماً.