في الماضي، كان المواطنون الشرفاء إذا لمحوا لصاً طاردوه في الشارع وهم يصيحون "إمسك حرامي". وفي الحاضر، فإن المواطنين الشرفاء حائرون بين مطاردة اللص افتراضياً والوقوع في براثن مسروقاته المثيرة. منهم من يضيق عليه الخناق ويبلغ إدارة المنصة العنكبوتية في عصر التمكين الرقمي، ومنهم من يقع فريسة البضاعة المسروقة فيصدقها ويشاركها ويكوّن آراءه ومواقفه بناء عليها. والنتيجة، ملايين الأخبار والتدوينات والمعلومات والحسابات الكاذبة والزائفة والمضللة تنضح بها منصات التواصل الاجتماعي في تحدٍّ صارخ لمبادرات مطاردة الأكاذيب العنكبوتية، وجهود - تقول الشركات المالكة للمنصات - إنها تبذلها لمكافحة التزييف العميق والحسابات المزيفة.
التزييف العميق وربما غير العميق أيضاً ومعهما كافة أشكال التضليل والكذب على منصات التواصل الاجتماعي ومن ورائها، تقف هذه الآونة في مواجهة هي الأشرس منذ بزوغ عصر المنصات الافتراضية، تحديداً منذ نجح الأب الروحي لـ"سوشيال ميديا" وهو موقع "ماي سبيس" في كسر حاجز المليون مستخدم ناشط شهرياً في عام 2004.
قانون الخدمات الرقمية
اللائحة الجديدة الصادرة عن الاتحاد الأوروبي قبل أيام تقوم على التزام الشركات التكنولوجية الكبرى التعامل الفوري مع المعلومات المضللة التي تحفل بها منصاتها، وهي اللائحة المدعومة من قبل "قانون الخدمات الرقمية".
وكان البرلمان والمجلس الأوروبي توصلا بعد ما يزيد على عام ونصف العام من العمل والمناقشات، إلى قانون الخدمات الرقمية الأول من نوعه في العالم وهدفه التنظيم الرقمي للشركات العملاقة المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي.
بنود القانون تحمي الفضاء الرقمي من أخطار المحتوى غير القانوني حماية للحقوق الأساسية للمستخدمين في أوروبا. وسيتعين على هذه المنصات إزالة أي محتوى مسيء أو غير قانوي يتعارض وقوانين الدول الأوروبية مثل التنمر والكراهية والتضليل والتحرش، إضافة إلى التأكد من أن المنتجات التي تعرض للبيع تتوافق والمعايير الأوروبية من حيث الصحة والسلامة، وليست مزيفة أو مقلدة. و"يجبر" القانون الجديد المنصات الرقمية على مراعاة قدر أكبر من الشفافية في خوارزميات المقترحات أو التوصية التي تعرضها أمام المستخدمين لغرض توجيههم لمنتج أو محتوى بعينه، وألا تُبنى المقترحات على أساس دين أو جنس أو هوية المستخدم، مع ضرورة توافر إلغاء التوصية.
وتحوي نصوص القانون كذلك مكافحة ما يعرف بـ"النمط المظلم" بحيث يتم دفع المستخدم وجذبه للنقر على إعلانات أو رسائل تحوي معلومات مضللة.
تصدي أممي للتزييف؟
وقبل صدور هذه القوانين بأشهر قليلة، تحديداً في أبريل (نيسان) الماضي، وبناء على طلب من أوكرانيا، تبنت غالبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (باستثناء الصين وفنزويلا)، خطة عمل للتصدي للمعلومات المضللة على الإنترنت ومنصاتها الافتراضية. مجلس حقوق الإنسان التابع للمنظمة الأممية أكد حينها الدور الأساسي الذي تلعبه الحكومات في مواجهة الأخبار والقصص الكاذبة على الإنترنت. ودول عدة أكدت في المقابل دور الشركات المالكة للمواقع ومنصات التواصل الاجتماعي في مجابهة هذا الخطر الرقمي الداهم.
هذا الخطر الداهم ليس جديداً. فالإشاعات تنتشر في المجتمعات البشرية منذ بدأ الإنسان يعيش في تجمعات. في كتابه "إشاعات غيّرت العالم"، رصد الكاتب الروماني يوجين تشيروفيتشي، أبرز الإشاعات التي غيرت تفاصيل في مجرى التاريخ. لكنه أشار أيضاً إلى أن طبيعة العقل البشري تجعله عرضة لتصديق الإشاعات، ما قد تنجم عنه عواقب وخيمة ومن خلال رصده لأبرز الإشاعات منذ مطلع تاريخ التجمعات الإنسانية وحتى تسعينيات القرن الماضي، بنتائج مفادها بأنه كثيراً ما يتم توظيف الإشاعات كأدوات للتلاعب بمصائر البشر وتضليلهم والدعاية الكاذبة منذ مطلع التاريخ. وهذا التلاعب وصل أوجه في العصر الرقمي بعدما تحولت المنصات الرقمية إلى وسيلة "فذة" لنشر الإشاعات والأخبار الكاذبة. وعلى الرغم من مرور آلاف الأعوام على انتشار آفة الإشاعات، إلا أن البشرية ليست أقل عرضة لتصديقها والمساعدة في نشر آثارها عبر تداولها اليوم عما كانت عليه أمس.
اليوم، يهب أفراد حياتهم وتخصص كيانات ملايين الدولارات لصناعة الأخبار والمعلومات الكاذبة. لماذا؟ الأسباب تختلف. بحسب ورقة بحثية عنوانها "من أين تأتي الأخبار الكاذبة؟"، منشورة على موقع "مركز تكنولوجيا المعلومات والمجتمع" في كاليفورنيا، فإن أولئك الذين يديرون مواقع إخبارية مزيفة أو يصنعون محتوى رقمياً كاذباً، يسعون إلى تسجيل أكبر عدد ممكن من الزوار والقراء لتحقيق مكاسب مالية تتزايد بزيادة عدد النقرات، أو لأغراض سياسية بغية إحداث تأثير أو تغيير في قيم المستخدمين وتوجهاتهم السياسية أو بغرض الاستقطاب السياسي أو إثارة البلبلة وعدم الاستقرار، أو بغرض الاستدلال المحفز أو المدفوع عاطفياً عبر خوارزميات تسلب المستخدم استقلاليته في التفكير واتخاذ القرار وغيرها كثير.
اللائحة الأوروبية الصادرة حديثاً التي تم التوصل إليها بمشاركة أكبر شركات التكنولوجيا وتلك المالكة لمنصات التواصل الاجتماعي المعروفة، تعني عصراً جديداً من المصداقية في مواجهة الزيف الرقمي ومرحلة حديثة من التصحيح في مقابل التضليل الافتراضي، أو هكذا يُفترض ويتوقع.
التزام الكبار
الـ33 موقعاً وشركة التي وقعت على اللائحة تعني "التزام" الكبار. "غوغل" و"ميتا" و"تيك توك" و"تويتر" وغيرها، ألزمت نفسها مشاركة مزيد من المعلومات مع الاتحاد الأوروبي مع تقديم كل منها تقريراً مبدئياً يقيّم مدى القدرة على التزام هذه القواعد مطلع العام المقبل.
ولا يتوقع أن يشهد العام المقبل أو بعد المقبل انتهاء عصر الزيف الرقمي والتضليل الافتراضي. لكن يتوقع – أو يتمنى البعض- أن تصبح الشركات المالكة أكثر مسؤولية ووعياً بحق المستخدمين في تصفح واستخدام آمنين، والقوانين أكثر قدرة على النفاذ، حماية للمستخدمين من الوقوع في براثن التضليل والكذب والفبركة والتحول إلى أدوات مساعدة لها من دون أن يدروا عبر المشاركة غير الواعية، وأنظمة الدول أكثر قدرة على التفرقة بين حماية المستخدمين من التزييف والكذب والفبركة من دون اعتداء على حرياتهم وحقوقهم من جهة، وبين السيطرة على المستخدمين وتوجهاتهم عبر المنع والحجب والحظر. والمستخدمون أنفسهم أكثر وعياً وقدرة على كشف الزيف ومنعه عبر أدوات الإبلاغ وحماية أنفسهم بأنفسهم من الوقوع ضحايا التزييف والتضليل.
باب النجار مخلع
الطريف أنه قبل أيام قليلة، رفع عدد من مسؤولي دول أوروبية راية "باب النجار مخلع" (مكسور). فقد نجح أحدهم في خداع عدد من رؤساء بلديات وعمدة عواصم أوروبية، وأجرى معهم مكالمات هاتفية بالفيديو على أنه نظيرهم الأوكراني عمدة كييف فيتالي كليتشكو. وبعدما أسهب "كليتشكو" في الحديث مع نظيرته الألمانية عمدة برلين فرانسيسكا غيفي لمدة أكثر من ربع ساعة، وبدأ يتحدث عما وصفه بـ"مشكلة اللاجئين الأوكرانيين الذين يسيئون استغلال المميزات الألمانية الممنوحة لهم"، داعياً إياها للعمل على إعادتهم إلى أوكرانيا من أجل ضمهم إلى صفوف الخدمة العسكرية حتى انقطع الاتصال. وكانت عمدة برلين بدأت تشكك في المحادثة الغريبة، فاتصل مكتبها بالسفير الأوكراني في ألمانيا الذي أكد أن عمدة كييف لم يجرِ اتصالاً بالعمدة. العمدة فرانسيسكا قالت إنه لم تكُن هناك أية مؤشرات إلى أن المكالمة تجري مع شخص غير حقيقي، وإن الشخص على الطرف الآخر كان يشبه كليتشكو تماماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الفخ ذاته وقع فيه كل من عمدة مدريد خوسيه لويس مارتينيس الذي بادر بالاتصال بالشرطة بعد مرور دقائق عدة من الحديث مع "عمدة كييف كليتشكو"، وكذلك عمدة فيينا مايكل لودفيغ. المثير أن لودفيغ هرع إلى التغريد بأنه تحدث عبر الفيديو مع عمدة كييف، وهو بطل ملاكمة سابق في الوزن الثقيل. لكن المفارقة المحرجة هي التي كانت من الوزن الثقيل حين حذف التغريدة، ثم نشر الحساب الرسمي للعاصمة النمساوية بياناً جاء فيه أن "العمدة وقع ضحية لجريمة خطيرة من جرائم الإنترنت".
التزييف العميق
يشار إلى أن التزييف العميق تقنية تعتمد على الذكاء الاصطناعي الذي يستبدل صورة وجه أو صوت أو كليهما بوجه وصوت شخص آخر لتبدو الوسائط المرئية والسمعية المزيفة كأنها حقيقة.
وعلى الرغم من أنها تقنية مستخدمة في صناعة الدراما السينمائية، إلا أن الثورة الحادثة في التكنولوجيا الرقمية مكنت أفراداً عاديين من استخدام هذه التقنية، وبينهم من يستغلها في تصرفات غير سوية تلحق الضرر بالأفراد والمجتمعات. وتحظى السياسة والساسة بنصيب "عادل" من التحريض والتنمر والتحرش والابتزاز والنصب والاحتيال مثلهم مثل المستخدمين العاديين. وسبق وتم استعمال تقنية التزييف العميق لتزييف خطب وهمية يلقيها زعماء ومحادثات غير حقيقية تدور بين كباء المسؤولين وتسريبات لم تحدث غيّرت مجرى أحداث في دول وشعوبها.
الساحة العربية عامرة
عربياً، الساحة العنكبوتية عامرة بكل ما لا يلذ أو يطيب من تضليل وتزييف وفبركة، شأنها شأن بقية مناطق العالم الواقع تحت سطوة العصر الرقمي. لكن الخصوصيات الثقافية والتاريخية والسياسية والتعليمية والنفسية تصنع فروقاً في ساحة التضليل والتزييف.
يمكن القول إن التعامل مع هذا الخطر العنكبوتي الداهم يتسم بقدر أكبر من الفوضى والضبابية. فدرجات وعي الثقافة الرقمية التي تجعل المستخدم حساساً للتزييف وقادراً على التحقق من مصداقية المحتوى، تتفاوت بشدة بين الدول وبعضها، وفي داخل الدولة الواحدة. كما أن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في عدد من دول المنطقة، جعلت من التزييف والتضليل تهمة الجميع وسلاح الكل. حكومات تتهم أشخاصاً أو كيانات بالتزييف والتضليل لإثارة البلبلة وإشاعة عدم الاستقرار وشيوع عدم الثقة. وأشخاص وكيانات تتهم الحكومات بالتزييف والتضليل لإحكام سيطرتها على البلاد وسطوتها على العباد عبر إشاعة أفكار تتعلق بـ"الخطر الغامض" و"المؤامرة الكبرى" و"التربص المزمن".
صراعات حتى النهاية
يشير مدير البحوث في "مركز سياسات الشرق الأوسط" في معهد "بروكينغز" دانيال بايمان في ورقة عنوانها "كيف تلعب صراعات الشرق الأوسط حتى النهاية على منصات التواصل الاجتماعي؟"، إلى وجود أشخاص وكيانات ومؤسسات تقف وراء إنشاء مواقع إخبارية مزيفة، وتجري تغييرات في مواقع إخبارية حيث تعدل في محتوى وعنوان الخبر، وتنشره ليبدو كأنه خبر حقيقي. وهناك من ينتحل صفة كتاب وصحافيين ومعارضين، ومن يفتئتون على تشابه أسماء مواقع خبرية حقيقية بكتابتها بطريقة خاطئة، لإشاعة أخبار كاذبة تكتسب مصداقية من الاسم الشبيه.
روبوتات وكتائب عنكبوتية وجيوش افتراضية تغرد وتدون وتشارك وتدق "لايك" وتعيد تدوير أخبار مزيفة ومعلومات مضللة. وبين المستخدمين من يصدق ولا يتشكك، فيكوّن رأياً ويبني توجهاً. وتتسع قاعدة الرأي وقد يتحول إلى رأي عام. ويتمدد التوجه وقد يصبح أيديولوجيا أو قناعة شعبية.
الرهان الحالي في عصر التزييف والتضليل يقع على طرفين رئيسين: الفاعل والمفعول به. الشركات الفاعلة المالكة للمنصات والمواقع التي تتسع للفبركة والكذب، عليها بذل مزيد من الجهد لتقليص هامش التضليل. والمستخدمون المفعول بهم، عليهم بذل مزيد من الجهد للبحث والتشكك قبل الدق والمساهمة في النشر وتوسيع قاعدة انتشار التزييف والتضليل.