مع إعلان السودان رسمياً ظهور الحالة الأولى المؤكدة من جدري القرود في ولاية غرب دارفور، الأحد الـ31 يوليو (تموز) الماضي، توالت إجراءات التحوط التي اتخذتها وزارة الصحة الاتحادية، من تفعيل علميات الترصد والتقصي، وأصدر وزير الصحة المكلف هيثم محمد إبراهيم قراراً بوقف تبخير الملابس المستعملة المستوردة المعروفة محلياً بـ"القوقو"، في المحاجر الصحية. وقد أطلق عليها السودانيون مجازاً اسم "القوقو"، كنوع من الدلع لكلمة "قمامة"، ورسخ الاسم في الاستخدام وبات هو الشائع، ويتندر البعض بتسميتها "المرحوم قدرك" أي كان على مقاسك.
في البداية، انعكس القرار على تجارة "القوقو" المنتعشة منذ سنوات، ثم على الرغم من تكرر حظر استيرادها مرات عدة، بموجب قرارات وزارية، استمر تدفقها إلى الأسواق.
وفرضت تجارة الملابس المستعملة نفسها كسلعة رابحةً ورائجةً، على الرغم من كل الإجراءات والتحفظات الرسمية عليها، وهي التي بدأت في الأصل كمعونات وتبرعات إغاثية عبر منظمات العمل الطوعي الإنساني والكنسي إلى بلدان أفريقية تستقبل أكثر من 80 في المئة منها، وتستهدف بصورة أساسية معسكرات النازحين واللاجئين على الحدود الغربية، غير أنها ضلت الطريق إلى الأسواق.
التحذيرات تلاحق "القوقو"
وظلت التحذيرات تلاحق الملابس المستعملة من كثير من الأطباء والمؤسسات الصحية وجمعية حماية المستهلك، من الأخطار والأمراض التي قد تسببها. وقد تزايدت في الآونة الأخيرة كميات الملابس المستعملة التي تتلقاها المؤسسات والجمعيات الخيرية باعتبارها هبات وتبرعات، مع عدم جودة التبخير بغرض تعقيمها وتطهيرها.
ويلفت بحر الدين يوسف، من تجار ملابس "القوقو" إلى أن "هناك مستويات عدة من تلك الملابس، أجودها تلك المنتقاة التي تصل إلى الخرطوم بأسعار تصل إلى نصف أسعار الملابس الجديدة، ويتم تصنيفها إلى درجات يوزع الجيد منها في العاصمة، أما النوع الأدنى جودة وتماسكاً فيتم توزيعه في أسواق الولايات بأسعار أقل بكثير من الأول".
ويقول يوسف، إن "معظم زبائن القوقو هم من الشبان والشابات، الذين يبحثون عن ثياب من ماركات شهيرة، وهؤلاء هم أول المتضررين معنا كتجار في هذه السلعة التي تحقق تجارتها أرباحاً جيدة، خصوصاً في حال التسويق لها عبر الإنترنت وتوسع دائرة الزبائن من مختلف الأعمار والفئات، ولا سيما في ظل التدهور الاقتصادي وسوء الأوضاع المعيشية وازدياد معدلات الفقر.
ويضيف، "بموجب القرار فإن السلطات تعد هذه الملابس قمامة غير صالحة، وهو أمر سيكون صعباً على تجار هذه السلعة ذات القبول الشعبي، لكن ماذا ستفعل الحكومة مع أنواع أخرى من (القوقو) انتشرت أيضاً، مثل الأحذية والشنط المستعملة والساعات والهواتف النقالة، فلماذا لا تحظر كلها لأنها قد تشكل خطراً بالقدر نفسه، بحسب مبررات الحكومة؟".
ويؤكد يوسف أن هناك ملابس تعرض بوصفها مستعملة، وهي في الحقيقة جديدة، لكن التجار يتحايلون ويعرضونها للماء والتجفيف كي تبدو مستعملة، وذلك تهرباً من دفع الجمارك والرسوم والاستفادة من التسهيلات التي تعامل بها الملابس المستعملة.
مخاطر صحية
وتحذر استشارية الأمراض الجلدية والتناسلية والأستاذة بكلية الفارابي ريلة عواض من خطورة السماح بدخول الملابس المستعملة في هذه الفترة، لأنها "تعد مصدراً للأمراض والأوبئة الفيروسية والبكتيرية الجلدية عموماً"، وتشتد خطورتها كونها "ناقلاً محتملاً للعدوى".
وتنصح عواض بمقاطعة الملابس المستعملة رسمياً وشعبياً، نظراً إلى خطورتها على الصحة العامة للفرد والمجتمع، وقد تكون "سبباً مباشراً" في نقل عدوى عديد من الأمراض الجلدية والصدرية.
وتلفت عواض إلى أنه لا يمكن التعويل الحاسم على التبخير أو التعقيم كوسيلتين للتخلص من بعض الميكروبات، لأنهما يظلان غير آمنين، وربما لم تتبع فيهما الطرق السليمة والفعالة، فضلاً عن أن بيئة التخزين السيئة تساعد على نمو الميكروبات وتكاثرها وزيادة نشاطها، ما قد يتسبب في مشكلات أخرى.
كذلك يحذر الأمين العام لجمعية حماية المستهلك السودانية ياسر ميرغني، من السماح بدخول الملابس المستعملة أو استخدامها، مذكراً بأن الجمعية نشط في محاربة دخول تلك الملابس ووقف تسربها إلى أفريقيا، فضلاً عن التعريف بمخاطرها.
ويكشف لـ"اندبندنت عربية" عن أن الجمعية حثت رئاسة مجلس الوزراء مراراً على التدخل لتعزيز قرارات منع دخول ومكافحة تهريب الملابس المستعملة، خصوصاً من دول الجوار الحدودي، مع وقف أي استثناءات من المنع مهما كانت المبررات والجهات.
شكوك التطهير
ويشكك ميرغني في جدوى عمليات التبخير التي تخضع لها تلك الملابس قبل السماح بدخولها، مضيفاً أنه من غير الممكن تبخير كل قطعة على حدة، إلى جانب التساهل في العملية نفسها، لافتاً إلى أن قرارين وزاريين سابقين من التجارة والصحة شملا وقف عمليات التبخير، بالتالي لم تعد هناك حجة لدخولها.
وبررت وزارة الصحة قرارها بمنع تبخير الملابس المستعملة بأنه يجيء تقديراً للوضع الوبائي الراهن وتحسباً للمخاطر المتوقعة.
وجاء القرار بناءً على توصية اجتماع المجلس الاستشاري للحجر الصحي، ونسبةً لخطورة الوضع العالمي ومنع انتشار الأمراض المنقولة من خلال تزايد العدوى الوبائية المتوقعة، بخاصة وباء جدري القرود.
وكانت الوزارة قد أعلنت عن تسجيل أول حالة مؤكدة بجدري القرود بالسودان بولاية غرب دارفور لطالب يبلغ من العمر 16 عاماً، تم تأكيدها في المعمل القومي للصحة العامة، ولا وجود لحالات أخرى.
خطة شاملة
وأكدت السلطات وضع خطة شاملة لمجابهة جدري القرود والتصدي لانتشاره، تقوم على تفعيل الترصد المرضي لاكتشاف الحالات في وقت مبكر في حال حدوثها والمتابعة والتقصي في المعابر البحرية والجوية والبرية، فضلاً عن تحديد وتهيئة مراكز للعزل وتدريب الكوادر الصحية في مختلف فئاتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال مدير الإدارة العامة للطوارئ ومكافحة الأوبئة، منتصر محمد عثمان، إن إجمالي حالات الاشتباه بلغت 38 حالة كانت جميعها سلبية باستثناء حالة غرب دارفور.
وشرعت الوزارة في عمليات التقصي النشط بين الوزارة الاتحادية وفي ولاية غرب دارفور لتحديد جهة الإصابة، مع التوعية والتثقيف للمواطنين وتقوية معمل الصحة العامة "ستاك" الذي يقوم بدور الفحص والتشخيص مع توفير الإمداد الدوائي وتوفير معدات الحماية الشخصية للكوادر الطبية.
وتعول السلطات بدرجة كبيرة على تكثيف العمل التوعوي الإعلامي والاتصال الجماهيري عبر الملصقات، خصوصاً خلال فترة العدوى بعد ظهور الطفح الجلدي وانتشارها بالملامسة والسوائل والممارسات الجنسية، والتعريف بالأعراض كظهور البثور والحمى والصداع وآلام العضلات وتضخم الغدد الليمفاوية.
خبرة السودان
ويؤيد المتخصص في الأوبئة والمدير السابق لإدارة الوبائيات القومية بابكر المقبول، قرار حظر الملابس المستعملة المتزامن مع ظهور المرض في السودان، لافتاً إلى أن ملابس "القوقو" ليست محرمة بشكل قطعي، لكن لا تتوفر شروط التبخير والتطهير المتقدم، ما يجعل ما يتم الآن ليس بالأمر الكافي لجعل الملابس المستعملة آمنة، لذلك من الأفضل عدم تشجيع هذه الظاهرة، خصوصاً في ظل طارئ جدري القرود العالمي.
ويلفت المقبول إلى أن لدى السودان خبرة في التعاطي مع جدري القرود، إذ سبق له أن مر بهذه التجربة خلال عامي 2005 و2006، مع ظهور 19 حالة مؤكدة في ولاية الوحدة وتمت السيطرة على المرض خلال فترة وجيزة، كما شهدت منطقة حوض الكونغو انتشاراً للمرض في تواريخ متقاربة.
يضيف، "منذ ذلك التاريخ ولأكثر من أربعة عقود لم تكن هناك أي حالات وبائية، حتى عاود الظهور بصورة حالات متقطعة في الغرب الأميركي ودول حوض الكنغو مجدداً، لكن في حالات وفترات محدودة كانت سريعاً ما تنتهي".