أعلن مهرجان القاهرة السينمائي قبل أيام أنه سيكرم المخرج المجري الكبير بيلا تار خلال دورته المقبلة التي ستعقد بين 13 و22 نوفمبر (تشرين الثاني) وستحمل الرقم 44. ولن يكتفي تار بالقدوم إلى العاصمة المصرية من أجل هذا التكريم فحسب، بل ستكون له ثلاثة نشاطات تليق بهذا الحدث المنتظر: المشاركة في تقديم فيلمين مرممين له سيعرضان خلال المهرجان، ودرس سينمائي يتناول فيه سيرته المهنية في تقليد تكرس في المهرجانات وبات يعرف بالـ"ماستركلاس"، وأخيراً ورشة عمل مع بعض صناع السينما الشباب المصريين، وهذه محصورة فيهم، أي إنها غير مفتوحة للعامة. يأتي هذا التكريم بعد تغيير الإدارة السابقة التي كان يترأسها المنتج والسيناريست ورجل الأعمال محمد حفظي وتسلم كل من الممثل حسين فهمي والمخرج أمير رمسيس الدفة، الأول رئيساً والثاني مديراً فنياً.
في السنوات الأخيرة، وتحديداً بعد وصول حفظي، شهد مهرجان القاهرة أعمال تطوير وتحسين في إطار رؤية أكثر حداثية للنشاط المهرجاني. من البديهي والحال هذه أن تستمر الأمور على هذا النحو، ليستعيد هذا الحدث الثقافي والفني مكانته بين سائر المهرجانات العربية. عديدة هي الأسماء البارزة التي استقطبها المهرجان في الدورات الماضية، من الروسي ألكسندر سوكوروف إلى الصربي أمير كوستوريتسا اللذين توليا رئاسة لجنة التحكيم، وصولاً إلى ضيوف من الدرجة الأولى كالبريطانيين كريستوفر همبتون ورالف فاينز وبيتر غرينواي والسويدي بيلي أوغوست والروسي بافل لونغين وغيرهم من القامات الكبيرة. بعضهم جاء وغادر، ولم يستفد الجمهور المحلي من حضورهم كثيراً، أو حتى لم يستفد منهم ألبتة. ويبقى حضور الأميركيين نيكولاس كيدج وهيلاري سوانك حفلة ختام إحدى الدورات الماضية نموذجاً سيئاً لحضور النجوم إلى القاهرة، إذ بدوا وكأنهما في جولة سياحية، ثم غادرا من دون ترك أي أثر. إلا أن المؤشرات في ما يتعلق ببيلا تار لا توحي بمبادرة شكلية بل باحتفاء حقيقي بسينما هذا الرؤيوي الذي يعتبر أحد أهم السينمائيين في العالم. وفي هذا يمكن الاعتماد على بعد نظر المدير الفني أمير رمسيس، السينيفيلي الشغوف الذي جاب المهرجانات الغربية، ويعرف أهمية الرجل وأهمية وجوده في القاهرة وأهمية أن يحتفى به وفق المعايير الدولية.
بادرة ثقافية
احتفى كثر من محبي تار بحضوره في مهرجان عربي، ربما لأن فرصة اللقاء بسينمائيين من هذه الطينة صارت قليلة أو حتى معدومة، بعد أن أسدل الستار على كثير من التظاهرات السينمائية، وفي ظل تراجع المكانة الثقافية للبلدان التي كانت تنظمها. فعدد من العواصم العربية، مثل دبي وبيروت ودمشق والدوحة والجزائر، تخلت عن مهرجاناتها التي أحضرت في الماضي عدداً لا يحصى من الأسماء الكبيرة. وفي هذا الإطار لا بد من التذكير بالدرس السينمائي الحاشد الذي قدمه المخرج الأميركي دارن أرونوفسكي في مهرجان الجونة الأخير، أمام جمهور كان حفظ أفلامه عن ظهر قلب. أفلام تار ليست منتشرة كأفلام زميله الأميركي، طبيعتها مختلفة وأنماطها لا تخاطب الجمهور العريض، إلا أنها تحظى بشعبية كبيرة في أوساط المشاهدين الذين يميلون إلى تجربة السينما التأملية، ذات الإيقاع المتمهل، والتي لا تهتم بالحكاية بقدر ما تشغلها كيفية سردها. تار "معبود" هؤلاء، على غرار أنغلوبولوس وتاركوفسكي، والأخير لطالما تم تشبيهه به.
أنجز بيلا تار البالغ من العمر 67 سنة تسعة أفلام روائية طويلة (مع العلم أنه يعتبر "تانغو الشيطان" وحده خمسة أفلام)، قبل أن يعلن اعتزاله السينما ليصبح "حصان تورينو" (2011) فيلمه الأخير. عندما تسأله "متى ستعود إلى السينما؟"، يجيب بعد فترة صمت قصيرة أن الانتظار سيكون طويلاً، ثم يضيف، "الآن مشغول بأشياء أخرى: مسرح، معارض. ضقت من فورما الفيلم الروائي الطويل، ثم إنني قلت كل شيء، ماذا أستطيع أن أقول بعد (حصان تورينو)؟ تكلمت عن الموت. ليس عندي ما أضيفه".
من "تانغو الشيطان" (1995) إلى "هارمونيات فركمايستر" (2000) تتطلب أفلام تار جهداً خاصاً من المشاهد. أسلوبه المبني على حركات البانوراما والترافيلينغ البطيئة يطمح دائماً إلى إعطاء المتلقي إحساساً عالياً بالزمن. لا مثيل لغرابته، سواء شاهدت أفلامه أو قابلته شخصياً، وهو الشيء الذي أتيح لي مرتين، مرة في تورونتو ومرة في برلين. الرجل غير مهتم بأمجاد الأرض الباطلة. لم تستقبل أعماله دائماً بالحفاوة المطلوبة، بل تم رشقها بأحط النعوت، فيما بعض المخلصين اعتبروه واحداً من آخر أسياد سينما تعيش خارج التيارات والصيحات. في كلتا الحالتين لا تعني له الآراء كثيراً. يقول كلمته ويمشي. في شخصيته أو كاراكتره شيء من اليائس الانتحاري الماكث دوماً على شفير الهاوية، يهمل المظاهر ويسعى خلف الجوهر. منذ فيلمه الأول "عش العائلة" في عام 1979 التقط الهم الاجتماعي في المجر الشيوعية راصداً انهيار مجتمع برمته. وعلى الرغم من كل الجماليات التي كانت في قلب أفلامه ظل يدعي دائماً أنه لا يكترث بالأفلام. ففي رأيه أنه يستعمل السينما كما يستعمل النحات إزميله، ما يهم ليس الإزميل بل التمثال.
الخروج إلى الصدارة
سقوط الشيوعية في نهاية الثمانينيات ألهمه ملحمته السينمائية الأشهر، "تانغو الشيطان"، التي عرضت في برلين ورتبت له مكاناً دافئاً في حضن السينيفيليين في جميع أنحاء العالم، ومعها خرجت أفلامه من الدائرة المغلقة إلى الصدارة، مثيرة الرغبة والترقب، خصوصاً بعد أن عرض له "نغمات فركمايستر" في "كان"، وصارت أفلامه توزع في بلدان عدة، ما كان في الأمس مهمشاً ومتعذر الفهم، أضحى فجأة جديراً بالاكتشاف. جنون جامح في الصورة أبداه مهندس الزمن هذا، في كيماوية ممتازة من الواقعي والرمزي واللا وعي، بغية تصوير عالم منهك، خائر القوى. اهتمام كبير بلوره أيضاً في اتجاه تيمات ميتافيزيقية وكونية، مثل البحث عن أصول الشر لدى الإنسان. رفض رفضاً قاطعاً في كل أفلامه أن يوكل إلى السينمائي وظيفة القص، معتبراً أن زمن الحكايات ولى، وأن "لا قصص جديدة بعد العهد القديم"، وأن الشيء الوحيد الجدير بأن يصور هو الزمن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لطالما أبدى نزعة للمشاريع التي فيها كثير من المجازفة: جميع أفلامه بالأبيض والأسود (باستثناء واحد)، ومنها "تانغو الشيطان" الذي تبلغ مدته سبع ساعات وربع الساعة. "هذا كله يتطلب قدراً من الصبر سواء منك لأجل صناعته أو من المتلقي لمشاهدته، أليس كذلك؟"، سؤال طرحته عليه يوم عرض "اللندني"، فكان رده، "هذا سؤال كبير، لكن السؤال الذي أحب أن أطرحه على نفسي: لماذا أصنع أفلاماً؟ الأكيد أني لا أصنعها من أجل المال أو الشهرة أو الحياة السهلة. كل ما أسعى إليه هو أن أفهم. أن أفهم هذا العالم من حولي، ثم أريدك أن ترى كيف أرى هذا العالم، ما يحلو لي هو أن أريك تعقيد هذا العالم، واضعاً بعض الترتيب في هذا التعقيد. معظم الأفلام لها منطق هو الآتي: معلومة ثم قطع، معلومة ثم قطع. أعمل تقريباً على هذا النحو، لكن أختلف في التعريف عن المعلومة. لي مفهوم آخر للمعلومة، بحيث أني قد أجسدها في جزء من جدار أو في قطعة أرض. أما بالنسبة إلى استخدامي الأبيض والأسود فتفسيره بسيط، إذ يمكنك عبر اللجوء إليهما التركيز على شيء والتعتيم على آخر".
يرفض تار تشبيهه بتاركوفسكي، قائلاً إن السوفياتي كان مختلفاً في طرحه الموضوعات المعقدة. فخلافاً له، هو غير متدين. "أنا أؤمن بالناس. نعم نتشابه في أسلوب التصوير، لكن إذا زرت أوروبا الشرقية فسترى المساحات الشاسعة والمسطحة، وستبني تلقائياً صلة بين ما تراه في أفلامه وأفلامي، هذا التشابه بيننا يأتي من الواقع المتشابه، وقد يأتي من الأرض، لكن نمط تفكيرنا مختلف تماماً، ثم أنا، من جانب، سينمائي تقليدي ودقيق في صوغ التفاصيل، ومن جانب آخر قد أكون حداثياً إلى أقصى درجة لأني أطارد اللحظات الهاربة، ومرات عديدة نرتجل مع الممثلين، هذا التناقض موجود فيَّ، أما تاركوفسكي فكلاسيكي جداً في سينماه".