تعود بدايات نشأة الصحافة المغربية إلى عام 1820 إلا أنها لم تتحول إلى مهنة قائمة بذاتها إلا في فترة الحماية الفرنسية عام 1912، واتسمت في فترة الاستعمار الأجنبي بأنها كانت في أغلبها منبراً لحث المغاربة على مقاومة الاحتلال، ومنصة لنشر المقالات التي تبث الروح الوطنية في نفوس القراء، ما جعلها وسيلة مهمة في ذلك الوقت أسهمت في دحر الاستعمارين الفرنسي والإسباني.
وبعد استقلال المغرب في سنة 1956، وفي خضم تشكيل المشهد السياسي الفتي حينئذ، برزت الصحافة الحزبية وانتعشت بشكل لافت، وكانت لها أدوار مشهودة في التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد، قبل أن تتقلص أدوارها خلال السنوات الأخيرة بالنظر إلى عوامل متداخلة عدة.
تاريخ الصحافة المغربية
يكاد يجمع المؤرخون للصحافة المغربية أنها رأت النور في الربع الأول من القرن التاسع عشر بظهور محاولات صحافية أجنبية خصوصاً في المناطق التي كانت تحتلها إسبانيا شمال البلاد.
ووفق باحثين، فإن الصحف الأجنبية ظهرت في مدن سبتة ومليلية وتطوان شمال المملكة، ثم وصلت إلى مدينة طنجة التي عرفت بزوغ أول صحيفة مكتوبة باللغة العربية تسمى "المغرب" سنة 1889.
وكانت الصحافة في حقبة الاستعمارين الفرنسي والإسباني تخضع لقانون أحدثه الحاكم الفرنسي حينها الجنرال ليوطي سنة 1914، أي بعد بداية ما يسمى بالحماية الفرنسية على المغرب، وكان قانوناً يتربص بالصحافة المكتوبة بالعربية.
ولعبت الصحافة المغربية على الرغم من تضييق الخناق عليها من طرف الإدارة الفرنسية دوراً لا يستهان به في بث وتشكيل الوعي الوطني لدى جمهور القراء، فقد كانت صحف أسسها قياديون في الحركة الوطنية تنشر أخباراً ومقالات تذكي روح الحماس في الشباب من أجل نيل الاستقلال.
صحافة حزبية
وبعد الاستقلال شهدت الصحافة المغربية طفرة في المسار المهني، فقد ظهرت صحف حزبية تتبع لأحزاب سياسية ونقابات عمالية أسهمت بشكل قوي في تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي والإعلامي في البلاد.
ولعبت الصحافة الحزبية خصوصاً في الستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات من القرن الماضي دوراً مهماً وحاسماً في سياسة البلاد وسط صراع ملتهب بين النظام والمعارضة اليسارية بالخصوص.
وكانت صحف حزبية قوية تلعب دور المعارضة للنظام السياسي الحاكم، وتنتقد أحياناً كثيرة قرارات وتوجهات السلطات المغربية، وهو ما أفضى إلى مشهد سياسي وإعلامي متوتر وملتهب بين القصر والأحزاب المعارضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واشتهرت في تلك الفترة صحف حزبية مثل جريدة "العلم" الناطقة باسم حزب الاستقلال، وجريدة "الاتحاد الاشتراكي" التابعة لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وصحيفة "البيان" التابعة للحزب الشيوعي الذي تحول إلى حزب التقدم والاشتراكية، فضلاً عن صحف حزبية أخرى.
وكانت مواقف هذه الصحف الحزبية في فترة شد الحبل بين الدولة والمعارضة، تحسب لها السلطات ألف حساب، وكان يكتب فيها قياديون حزبيون بارزون آراءهم في السياسة والقضايا التي تتعلق بالسلطة والانتخابات والصحراء أيضاً.
وكثيراً ما كانت الدولة تنظر بعين الريبة إلى الصحف الحزبية المعارضة لكونها كانت تعبر عن وجهة نظر متناقضة تماماً لما يصدر عنها، كما كانت تحض أحياناً على القيام باحتجاجات وإضرابات، وتنتقد قرارات النظام، وهو الوضع الذي دفعت الصحافة الحزبية ثمنه غالياً.
انحسار الإشعاع
وعرفت الصحافة الحزبية المغربية منعطفاً حاسماً تمثل في تراجع قوتها وانحسار إشعاعها، حتى أنها فقدت كثيراً من قرائها، خصوصاً في سنوات التسعينيات إلى يومنا هذا، فعلى الرغم من صمودها بشكل أو بآخر، غير أنها دخلت في حالة يمكن وصفها بالاحتضار حتى أن صحفاً توقفت عن الصدور.
ويرجع مراقبون انحسار قوة وإشعاع الصحافة الحزبية إلى أسباب حاسمة عدة، منها ما يمكن تسميته "المصالحة" بين الدولة والمعارضة بفضل جو الانفتاح السياسي وأيضاً تداول السلطة، وظهور صحف مستقلة وأخرى إلكترونية ومقاولات صحافية دقت المسمار الأخير في نعش الصحافة الحزبية.
ظهور وانتعاش الصحافة الإلكترونية أدى أيضاً بشكل أوتوماتيكي إلى اندحار الصحافة الورقية جراء تراجع معدل القراءة، وتراجع عائدات الإعلانات التي باتت الصحف الإلكترونية تنفرد بها بشكل أكبر.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن 58 في المئة من الصحف الورقية في المغرب توقفت عن الصدور أواخر 2020، بسبب تراجع حجم المبيعات ومداخيل الإعلانات.
ووفق الأرقام الرسمية ذاتها تقلص عدد الصحف الورقية من 252 صحيفة في عام 2018 إلى 105 صحف في 2020، ما يعني أنه خلال سنتين فقط اختفت 147 منها، وهو رقم يراه كثير من المهتمين مهولاً، ويعكس فداحة تراجع الصحف الورقية في المملكة باستثناءات قليلة تعد على رؤوس الأصابع.
مريض على جهاز التنفس الصناعي
يقول الخبير في الإعلام يحيى اليحياوي لـ"اندبندنت عربية"، إن "الصحافة الورقية في المغرب تعيش أزمة حقيقية منذ مدة بعيدة زادتها جائحة كورونا عمقاً واشتداداً"، مشبهاً الصحافة المكتوبة في المغرب بـ"المريض المترهل الذي تمدد أيام عمره أدوات تنفس اصطناعية".
يضيف اليحياوي أن "النموذج الاقتصادي الممول لهذه الصحافة استنفد قوته ولم يعد قادراً على مواكبة التطورات، وزاد إشهار كثير منها، ولم يعد القطاع يقتات إلا على دعم الدولة الذي لولاه لانتهى زمن الصحافة الورقية في المغرب".
وأوضح أن "الصحافة المكتوبة في أزمة أيضاً بسبب تراجع نسب مقروئيتها وضعف الإقبال عليها، ويعود ذلك إلى إما قارئ بات يستطلع أخباره من الشبكات، أو تراجع صحافة التحقيق والاستقصاء التي كان لها وزن في الماضي، أو بسبب غياب أكشاك بيع الصحف".
واستطرد اليحياوي أن "هذه ليست حال الصحافة الورقية لوحدها، فهو واقع الصناعات الثقافية برمتها، من كتاب ومجلة ومسرح ودور سينما وغيرها"، مردفاً أن "كل هذه السلسلة تقتات على دعم عمومي منتظم يقتطع من ضرائب المواطن وإلا سيتوقف كل شيء تماماً".
وبخصوص مستقبل الصحافة الورقية، يلفت اليحياوي إلى أن هناك من يرى أن مصيرها يمر عبر الشبكات الرقمية، بدليل أن عديداً من المنابر المكتوبة انتقلت كلياً أو جزئياً إلى الإنترنت، فخلقت لها مواقع تنشر فيها مباشرة أو تعيد نشر ما تكتب ورقياً.
وأشار إلى أن "هذا طرح جزء منه صحيح، لأن الشبكة وسيلة ليس إلا، لا يمكنها أن تعوض رسالة وأخلاقيات المهنة"، مستبعداً القدرة على نقل هذه المعايير إلى الشبكة بدليل مئات المواقع الصحافية النشيطة في بالشبكة، والتي لا يمت أداؤها للصحافة في شيء".