لعقود من الزمان قدمت نظريات العلاقات الدولية أسباباً للتفاؤل بأن العالم ثنائي القطب في الحرب الباردة وعالم ما بعد الحرب الباردة أحادي القطب، الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة، لم يكونا عرضة لحروب سوء التقدير، وأن الأسلحة النووية رفعت كلفة الصراع وجعلت الحرب بين القوى الكبرى أمراً لا يمكن تصوره، لكن نظريات العلاقات الدولية القائمة على سياسة القوة في عالم متعدد الأقطاب تؤكد أن العالم سيكون غير مستقر وعرضة لحروب كبرى من سوء التقدير، مثلما حدث في الحرب العالمية الأولى، فما المعايير والدلائل التي استندت إليها هذه النظريات؟
الحرب تقترب
في كتابهما الجديد "منطقة الخطر" يحذر المؤلفان مايكل بيكلي أستاذ العلوم السياسية في جامعة "تافتس"، وهال براندز الأستاذ في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة "جونز هوبكنز"، من أن الجيش الصيني يمكن أن ينتهز توقيت ظهور نتيجة انتخابات رئاسية متنازع عليها في الولايات المتحدة عام 2025 لمهاجمة تايوان، وفي هذه العملية تضرب بكين حاملة طائرات أميركية بصاروخ باليستي، مما يفتح الباب أمام حرب بين الصين والولايات المتحدة قد تتطور لتصبح حرباً عالمية ثالثة.
ولا يعد هذا هو التصور الوحيد لسيناريو الحرب، إذ إن هناك تصورات أخرى لإمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة، تنشأ من انفلات الوضع بين روسيا وأوكرانيا إلى حدود حلف شمال الأطلسي "الناتو"، لتشكل الشرارة الأولى لحرب عالمية جديدة، مثلما يحذر ستيفن فلين أستاذ العلوم السياسية ومدير معهد "جورج كوستاس" لأبحاث الأمن الداخلي الذي يرى أن الصراع في أوكرانيا يخلق بيئة لم يزل عنها خطر سوء التقدير، بخاصة إذا قررت روسيا أن تلعب بورقة الطاقة بينما لا يوجد ما يكفي من الغاز في أوروبا للتدفئة، ولهذا أصبح العالم في مكان استراتيجي مختلف كثيراً من وجهة النظر الأمنية عما كان عليه قبل عامين، ولأنه وضع فوضوي، وما زلنا في العصر النووي، فقد أصبح الخطر أعلى مما كان عليه.
في مسار تصادمي
وبينما لا تبدو الحرب وشيكة جداً، إلا أن المخاوف التي يتحدث عنها المراقبون والمحللون تستند في جزء كبير منها إلى كتب العلاقات الدولية والنظريات السياسية التي تشير إلى أن الولايات المتحدة وحلفاءها وروسيا والصين في مسار تصادمي، وتعود هذه التحليلات في جزء منها إلى "نظرية العلاقات الدولية" التي طرحها كينيث والتز في كتاب له بالاسم صدر عام 1979، والتي تعد بمثابة نظرية للواقعية الجديدة في شرح العلاقات الدولية، ويفترض فيها أن النظام الدولي فوضوي بطبعه، بسبب عدم وجود سلطة مركزية أعلى يمكنها فرض القواعد على الدول الفردية التي تعمل وتتحالف بهدف البقاء ولمواجهة قوة أقوى أو قوة مهيمنة.
ويعتمد هيكل هذا النظام الدولي بشكل أساسي على توزيع القوة الذي يعد هو المحدد الرئيس وأحياناً الوحيد للنتائج الدولية، ولأن معظم الدول لا تملك القوة لتغيير الهيكل، فإنها تحاول الموازنة مع بعضها بعضاً لزيادة فرصها في البقاء على قيد الحياة، ولا تكون المؤسسات الدولية هي الجهات الفاعلة الرئيسة في النظام الدولي، ولكن تظل الدول هي صانع القرار، بالتالي لا يكون للمؤسسات الدولية أي تأثير كبير في النتائج الدولية.
ويتم تعريف الأنظمة الدولية بحسب عدد القوى العظمى التي تستوعبها في نقطة زمنية معينة (أي القطبية الثنائية، وتعدد الأقطاب، أو النظام المهيمن)، ويجادل والتز أن القطبية الثنائية (وجود قوتين عظميين) تكون أكثر استقراراً من التعددية القطبية (وجود ثلاث قوى عظمى أو أكثر).
انهيار عوامل التهدئة
وقياساً إلى هذه النظرية فإن السبب في التوجه نحو مسار تصادمي يعود إلى انهيار عوامل التهدئة التي سادت نسبياً سواء في نظام القطبية الثنائية الذي قادته الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أو في النظام أحادي القطب الذي هيمنت فيه الولايات المتحدة، فخلال الأعوام الـ70 التي تلت الحرب العالمية الثانية ظلت هناك ثلاثية من المتغيرات السببية التي سهلت التعاون وخففت من حدة الصراع، تمثلت في المؤسسات الدولية والاعتماد المتبادل والديمقراطية، فقد وفر وجود مجموعة كثيفة من المؤسسات والاتفاقات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية ومعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية وغيرها منتديات للقوى الكبرى سمحت بحل خلافاتها سلمياً.
كما أدت العولمة الاقتصادية وبخاصة خلال الأعوام الـ30 الماضية إلى جعل الصراع المسلح باهظ الكلفة، إذ لا يكون الصراع مفيداً عندما يتنامى العمل المشترك ويزداد الجميع ثراء، كما أنه وفقاً لنظرية العلاقات الدولية من غير المرجح أن تتقاتل الديمقراطيات حيث تكون أكثر عرضة للتعاون، ولكن لسوء الحظ يبدو أن كل قوى التهدئة هذه تقريباً تنهار حالياً أمام الجميع، في الوقت الذي تشير القوى الدافعة الرئيسة للسياسة الدولية، وفقاً لنظرية العلاقات الدولية، إلى أن الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا من غير المرجح أن تكون سلمية، بحسب ما يقول ماثيو كرونيغ نائب مدير مركز "سكوكروفت" للاستراتيجيات والأمن التابع للمجلس الأطلسي في مقال نشره موقع "فورين بوليسي".
سياسة القوة
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال القوة الرائدة في العالم، وفقاً لجميع المقاييس الموضوعية تقريباً، فإن الصين صعدت لتحتل المرتبة الثانية في القوة العسكرية والاقتصادية، بينما أوروبا تعد قوة عظمى اقتصادية وتنظيمية، في حين تحتفظ روسيا بأكبر مخزون من الأسلحة النووية على وجه الأرض، وتختار القوى الكبرى في العالم النامي، مثل الهند وإندونيسيا وجنوب أفريقيا والبرازيل، مسار عدم الانحياز، ولهذا فقد دخل العالم النظام المتعدد الأقطاب، الذي يجادل أصحاب نظرية الواقعية الجديدة أنه نظام غير مستقر، تكون فيه الفرصة مواتية لحروب كبرى من سوء التقدير مثلما حدث في الحرب العالمية الأولى.
ويعود السبب في أن الأنظمة متعددة الأقطاب غير مستقرة جزئياً إلى أن كل بلد يشعر بقلق في شأن عديد من الأعداء المحتملين، وعلى سبيل المثال تشعر وزارة الدفاع الأميركية بالقلق في شأن النزاعات المتزامنة المحتملة مع روسيا في أوروبا، والصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وصرح الرئيس جو بايدن أن استخدام القوة العسكرية لا يزال مطروحاً على الطاولة كملاذ أخير للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني، على الرغم من أن انخراط واشنطن في حرب على ثلاث جبهات ليس وارداً.
غير أن حروب سوء التقدير غالباً ما تحدث عندما تستخف الدول بخصمها، فحينما تشك الدول في قوة خصمها أو عزمه على القتال، فإنها تختبره، فإذا كان العدو مخادعاً يؤتي التحدي ثماره، لكن إذا كان العدو مصمماً على الدفاع عن مصالحه يمكن أن تقع حرب كبرى.
اختبار الخصم
ومن المحتمل أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حاول اختبار أوكرانيا لكنه أخطأ التقدير في شن الهجوم، إذ افترض بشكل خاطئ أن الحرب ستكون سهلة، لكن بعد ستة أشهر من بدء الهجوم لا يزال هناك احتمال أن تنتشر الحرب في أوكرانيا عبر حدود "الناتو"، مما يحول هذا الصراع إلى حرب مباشرة بين الولايات المتحدة وروسيا.
وبالمثل هناك خطر أن يخطئ الرئيس الصيني شي جينبينغ في الحسابات في شأن تايوان، بخاصة أن سياسة "الغموض الاستراتيجي" المربكة لواشنطن حول ما إذا كانت ستدافع عن الجزيرة، تضيف الكثير إلى حال عدم الاستقرار، ففي حين قال بايدن إنه سيدافع عن تايوان إلا أن مسؤولي البيت الأبيض يناقضونه، وفي ظل هذا الوضع قد يعتقد الرئيس الصيني خطأ أنه يمكن أن يختبر شن هجوم على تايوان، مما قد يدفع الولايات المتحدة إلى التدخل بعنف لوقف هذا الهجوم.
نظرية انتقال القوة
ويركز أصحاب نظرية الواقعية على التحولات في ميزان القوى، ويقلقون في شأن صعود الصين والانحدار النسبي للولايات المتحدة، إذ تقول نظرية "انتقال القوة" إن سقوط قوة عظمى مهيمنة وصعود منافس صاعد يؤدي غالباً إلى نشوب حرب، ومن هنا يشعر بعض الخبراء بالقلق من احتمال وقوع واشنطن وبكين في ما يسمى "فخ ثيوسيديدس" المؤرخ اليوناني الذي كان أول من أشار إلى المخاطر المصاحبة عندما تنافس قوة صاعدة قوة أخرى مهيمنة، مثلما تحدت أثينا أسبرطة في اليونان القديمة، أو كما تحدت ألمانيا بريطانيا في الحرب العالمية الأولى قبل قرن من الزمان.
وما يثير المخاوف أن غالبية التنافسات انتهت بشكل سيئ لكلا البلدين، بحسب ما يشير فريق في مركز "هارفرد بلفر" للعلوم والشؤون الدولية بعد تحليل تاريخي خلص إلى أنه في 12 حالة من أصل 16 حالة على مدى السنوات الـ500 الماضية كانت النتيجة حرباً بين القوة الصاعدة والقوة المهيمنة، وحتى عندما تجنبت الأطراف الحرب تطلب الأمر تعديلات ضخمة ومؤلمة في المواقف والأفعال من جانب الطرفين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي حين يبدو من غير المحتمل أن تغتصب بكين أو موسكو القيادة العالمية من الولايات المتحدة في أي وقت قريب، إلا أن إلقاء نظرة فاحصة على التاريخ يظهر أن المنافسين يبدأون أحياناً حروباً عندما يتم إحباط طموحاتهم التوسعية، مثل ألمانيا في الحرب العالمية الأولى واليابان في الحرب العالمية الثانية، ولهذا ربما تهاجم روسيا لعكس مسار تدهورها، وقد تكون الصين أيضاً ضعيفة وخطيرة، كما يحذر ماثيو كرونيغ.
عامل التكنولوجيا العسكرية
وفي حين قد يجادل البعض بأن الردع النووي سيظل فعالاً وقد يحول دون وقوع حرب، لكن التكنولوجيا العسكرية آخذة في التغير، إذ يشهد العالم "ثورة صناعية رابعة"، وتعد التقنيات الجديدة مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية والاتصالات والتصنيع الإضافي والروبوتات والصواريخ التي تفوق سرعتها سرعة الصوت والطاقة الموجهة وغيرها، عاملاً ينذر بتحويل الاقتصاد العالمي والمجتمعات وساحة المعركة، ويعتقد عديد من خبراء الدفاع أننا عشية ثورة جديدة في الشؤون العسكرية، إذ من المحتمل أن تعطي التقنيات الجديدة ميزة للجيوش كي تقوم بالهجوم ما يجعل الحرب أكثر احتمالاً، مثلما فعلت الدبابات والطائرات عشية الحرب العالمية الثانية، ويمكن أن تربك أنظمة الأسلحة الجديدة هذه تقييمات توازن القوى، مما يسهم في أخطار سوء التقدير ويشجع على اختبار الخصوم، فالصين، على سبيل المثال، رائدة في عديد من هذه التقنيات، بما في ذلك الصواريخ التي تفوق سرعة الصوت، وتطبيقات معينة للذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، مما قد يغري الصين بغزو تايوان.
النظرية الليبرالية
حتى الليبرالية، وهي نظرية أكثر تفاؤلاً بشكل عام توفر سبباً للتشاؤم، فبينما كان الليبراليون على حق في أن المؤسسات الدولية والاعتماد الاقتصادي المتبادل والديمقراطية، سهلت التعاون داخل النظام العالمي الليبرالي، وأصبحت الولايات المتحدة وحلفاؤها الليبراليون في أميركا الشمالية وأوروبا وشرق آسيا أكثر اتحاداً من أي وقت مضى، إلا أن هذه العوامل نفسها تثير بشكل متزايد الصراع على خطوط الصدع بين النظامين العالميين الليبرالي وغير الليبرالي، إذ أصبحت المؤسسات الدولية ببساطة ساحات جديدة للمنافسة في الحرب الباردة الجديدة، إذ تتسلل روسيا والصين إلى هذه المؤسسات وتحولهما ضد أهدافهما المقصودة، وبدلاً من تسهيل التعاون أضحت المؤسسات الدولية تعمل بشكل متزايد على تفاقم الصراع.
وبينما كان الليبراليون يجادلون بأن الاعتماد الاقتصادي المتبادل يخفف من حدة الصراع، فإن هذه النظرية كانت دائماً تعاني مشكلة الدجاجة والبيضة، بمعنى هل التجارة تقود العلاقات الجيدة أم أن العلاقات الجيدة تقود التجارة؟ والإجابة أصبح يدركها العالم الآن وهي أن الغرب يعتمد بشكل كبير من الناحية الاقتصادية على خصومه في موسكو وبكين، وأنه ينفصل حالياً عنهما بأسرع ما يمكن، إذ انسحبت الشركات الغربية من روسيا بين عشية وضحاها، وتقيد التشريعات واللوائح الجديدة في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان التجارة والاستثمار في الصين، على اعتبار أنه من غير المنطقي أن تستثمر "وول ستريت" في شركات التكنولوجيا الصينية التي تعمل مع جيش التحرير الشعبي الصيني لتطوير أسلحة تهدف إلى قتل الأميركيين.
في المقابل تنفصل الصين أيضاً عن العالم الغربي، حيث انسحبت شركات التكنولوجيا الصينية من الإدراج في "وول ستريت"، لأن بكين لا تريد مشاركة معلومات الملكية مع القوى الغربية، ولهذا يبدو أن الترابط الاقتصادي بين العالمين الليبرالي وغير الليبرالي الذي كان بمثابة ثقل ضد الصراع أخذ في التآكل الآن.
نظرية السلام الديمقراطي
وتقول نظرية السلام الديمقراطي إن الديمقراطيات تتعاون ولا تتصارع مع الديمقراطيات الأخرى، ولهذا حدد الرئيس بايدن أن خط الصدع المركزي في النظام الدولي اليوم هو المعركة بين الديمقراطية والاستبداد، وفي حين تحتفظ الولايات المتحدة بعلاقات ودية مع بعض الدول غير الديمقراطية، إلا أن النظام العالمي منقسم بين الولايات المتحدة وحلفائها الديمقراطيين الموجودين في "الناتو" واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا من جانب، والأنظمة التي تسعى لتعديل العالم مثل الصين وروسيا وإيران من ناحية أخرى.
علاوة على ذلك يلاحظ البعض أن الانقسام بين الديمقراطية والأوتوقراطية في السياسة الدولية ليس مجرد مسألة حكم، بل تتعلق بأساليب الحياة، إذ غالباً ما تحمل خطب وكتابات الرئيسين شي وبوتين صخباً أيديولوجياً حول تفوق نظاميهما في الحكم وإخفاقات الديمقراطية، مما يعيد الأجواء إلى منافسة القرن الـ20 حول ما إذا كانت الحكومات الديمقراطية أو الأوتوقراطية يمكن أن تقدم حياة أفضل لشعوبها، ما يضيف عنصراً أيديولوجياً أكثر خطورة إلى هذه المنافسة.
وفي كل الأحوال يطمح الجميع في البحث عن سبل لتجنب أي حرب قادمة من المحتمل إلى حد بعيد أن تكون كارثية على مستقبل العالم، حتى لو تستخدم فيها القنابل والصواريخ النووية الأكثر تدميراً.