هل فكرت يوماً أن على هذه المعمورة تعيش ربما نسخة مماثلة عنك أو شبيهة لك، تتشارك معك في ملامحها وحتى سلوكها، بل جيناتها؟ العام الماضي مثلاً، تعرف النجم الأميركي دواين جونسون الشهير بـ"روك" (الصخرة) إلى قرينه أو شبيهه (Doppelgänger بالألمانية) عندما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صورة لضابط في الشرطة من ولاية ألاباما الأميركية، يدعى إريك فيلدز، يتسم بتشابه صارخ مع الممثل الشهير.
ولكن قبل ذلك بأعوام تحديداً في 1997، التقى شابان هما تشارلي تشيسن ومايكل مالون ببعضهما بعضاً في أتلانتا، عاصمة ولاية جورجيا الأميركية، عندما شارك مالون كمغن ضيف في فرقة تشيسن. سرعان ما أصبحا صديقين، لكنهما لم يلحظا ما كان يتهامسه الآخرون من حولهما: يبدو الرجلان توأمين.
في الحقيقة مالون وتشيسن "قرينان"، إذ يبعث على الدهشة الشبه بينهما، ولكن على الرغم من ذلك لا قرابة تجمع بينهما، حتى أن أسلافهما المباشرين يتحدرون من جزأين مختلفين من العالم. تعود أصول أجداد تشيسن إلى ليتوانيا واسكتلندا، في حين أن والدي مالون من جمهورية الدومينيكان وجزر الباهاماس.
الصديقان الشبيهان حد "التوأمين"، فضلاً عن مئات الأشخاص المتشابهين غير الأقارب، شاركا في مشروع تصوير فوتوغرافي من بنات أفكار فنان كندي يُدعى فرانسوا برونيل التقط بعدسته سلسلة صور عنونها "أنا لست شبيهاً!" I’m not a look-alike!، وقد ارتأى أن يخوض هذه التجربة الفنية بعدما اكتشف قرينه الخاص، ألا وهو الممثل الإنجليزي روان أتكينسون الشهير بـ"مستر بين".
في تقرير أصدرته أخيراً، تتحدث "نيويورك تايمز" كيف أن المشروع حقق نجاحاً منقطع النظير على وسائل التواصل الاجتماعي ومواقع أخرى على الإنترنت، حتى أنه استرعى أيضاً على أهميته فضول العلماء الذين يدرسون العلاقات بين الجينات. أحد هؤلاء الدكتور مانيل إستيلر، أحد الباحثين في "معهد جوزيب كاريراس لبحوث اللوكيميا" في برشلونة بإسبانيا. الباحث الذي كان قد اهتم سابقاً بدراسة الاختلافات الجسدية عند التوائم المتماثلين، خاض هذه المرة التجربة بشكل معكوس، إذ قام بحثه حول الأشخاص المتشابهين في ملامحهم إنما من دون أن تجمعهم صلة قرابة. هكذا، شرع يبحث عن إجابة لسؤال تبادر إلى ذهنه، "ما الأسباب وراء التشابه بين هؤلاء؟".
في دراسة نُشرت الثلاثاء في مجلة "سيل ريبورتس" Cell Reports، استعان الدكتور استيلر وفريقه بـ32 زوجاً من الأشخاص المتشابهين الذين التقط لهم المصور برونيل صوراً، وذلك من أجل إخضاعهم لاختبارات "الحمض النووي الصبغي" (دي أن أي) واستكمال الاستبيانات حول أنماط عيشهم. استفاد الباحثون من أحد برامج الذكاء الاصطناعي للتعرف إلى الوجه بغية تحديد أوجه التشابه بين وجوه المشاركين في الدراسة. حقق 16 زوجاً من ضمن 32 زوجاً درجات مماثلة لتوائم متطابقة خضعت للتحليل بواسطة البرنامج ذاته. وفي مرحلة لاحقة، عقد الباحثون مقارنة بين الـ"دي أن أي" لدى الأزواج الـ16 كي يعرفوا ما إذا كان حمضهم النووي هذا متشابهاً أيضاً شأن ملامح وجوههم.
في النتيجة، وجد الدكتور استيلر أن الأزواج الـ16 المتشابهين إلى حد التطابق قد تشاركوا في الجينات بدرجة تخطت بأشواط الـ16 زوجاً الآخرين الذين اعتبرهم البرنامج أقل تشابهاً في ملامحهم. وتنقل عنه "نيويورك تايمز" قوله إن هؤلاء الأشخاص يشبهون بعضهم بعضاً فعلاً لأنهم يتشاركون أجزاء مهمة من الشريط الوراثي أي الجينوم، أو تسلسل الـ"دي أن أي"، وأن من يبدون أكثر تشابهاً يحملون جينات مشتركة أكثر مقارنة مع غيرهم"، وصحيح أن هذه الحقيقة "تبدو معقولة ومنطقية ولكن لم يحدث أن توضح ذلك سابقاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن في الواقع، الحمض النووي الصبغي وحده لا يعكس الحقيقة كاملة بشأن شكلنا. بل إن تجاربنا الحياتية، وتجارب أسلافنا، تؤدي دوراً في تشغيل هذه الجينات أو تعطيل تلك، وهي عملية تسمى (الايبيجينوم) epigenomes أو "ما فوق الجينوم". الميكروبيوم لدينا [مجموعة ميكروبات تعيش مع الإنسان]، أو مساعدنا الميكروسكوبي، وفق توصيف الصحيفة، المكون من بكتيريا وفطريات وفيروسات، يتأثر ببيئتنا إلى حد كبير. وجد الدكتور استيلر، أنه على الرغم من وجود تشابه على مستوى الشريط الوراثي (الجينوم)، كانت "الإيبيجينومات" و"الميكروبيوم" مختلفة في ما بين القرناء، هكذا "تجمعهم الصفات الوراثية، فيما تفرقهم الوراثة اللاجينية".
بناء عليه، يكشف هذا التناقض أن أشكال الأزواج المتشابهة ترتبط بحمضهم النووي "دي أن أي" أكثر منها بالبيئات التي نشأوا فيها، وقد شكلت هذه النتيجة مفاجأة بالنسبة إلى الدكتور استيلر، الذي كان يتوقع أن يرى تأثيراً أكبر للبيئة.
لما كانت أشكال القرناء تعزى إلى الجينات المشتركة أكثر منها إلى تجارب الحياة المشتركة، يشير ذلك إلى حد ما إلى أن أوجه التشابه بينهم ليست سوى مصادفة بسبب النمو السكاني. وفي نهاية المطاف، تتدخل في تشكيل الوجه عوامل عدة كثيرة.
وفق "نيويورك تايمز"، قال الدكتور استيلر إن "عدد سكان العالم قد تزايد إلى حد أن هذا النظام يعيد نفسه"، لذا يبدو معقولاً أنك أنت أيضاً لديك شبيه مماثل يعيش في مكان ما في العالم".
ويحدو الدكتور استيلر أمل في أن تساعد نتائج الدراسة الأطباء على تشخيص الأمراض في المستقبل- إذا كان الأشخاص يحملون جينات متشابهة بدرجة كافية، فقد يتشاركون تالياً في استعدادهم للإصابة بالأمراض ذاتها أيضاً.
تحدث في هذا الشأن أيضاً أوليفييه إليمنتو، مدير "معهد إنغلاندر للطب الدقيق" التابع لـ"كلية طب وايل كورنيل" في نيويورك، علماً أنه لم يشارك في الدراسة، فقال إنه نتيجة "سبب قوي جداً يتصل بالجينات نجد أن فردين متشابهين يحملان أيضاً ملفات تعريف متشابهة على مستوى الجينوم"، وأضاف أن التناقضات بين التوقعات الخاصة بالـ"دي أن أي" والأشكال الخارجية الفعلية للأشخاص قد تنبه الأطباء إلى المشكلات.
وأشار الدكتور استيلر أيضاً إلى روابط محتملة بين سمات الوجه والأنماط السلوكية، موضحاً أن نتائج الدراسة ربما تساعد يوماً ما في الأدلة الجنائية عبر توفير لمحة عن وجوه المشتبه في ارتكابهم هذه الجريمة أو تلك من طريق عينات الـ"دي أن أي" فحسب. بيد أن دافني مارتشينكو، وهو باحث في مرحلة ما بعد الدكتوراه في "مركز ستانفورد لأخلاقيات الطب الحيوي" لم يشارك في الدراسة، حث على توخي الحذر في تطبيق نتائج الدراسة على الطب الجنائي.
وتنقل "نيويورك تايمز" عن الدكتور مارتشينكو قوله "لقد شهدنا أمثلة كثيرة على استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي الخاصة بالتعرف إلى الوجوه المعمول بها حالياً في تعزيز التحيز العنصري القائم على الإسكان، والتوظيف، والتوصيف الجنائي" وغيرها، مضيفاً أن الدراسة "تثير اعتبارات أخلاقية مهمة كثيرة".
على الرغم من الأخطاء المحتملة عند ربط مظهر الأشخاص بحمضهم النووي الصبغي "دي أن أي" أو سلوكهم، وبالعودة إلى مالون وتشيسن، قالا إن مشروع الأشخاص المتشابهين، واكتشاف أننا جميعاً ربما لدينا توأم خفي في مكان ما، كان وسيلة لجمع الناس معاً. حافظ الشابان على صداقتهما طوال 25 عاماً، وعندما تزوج تشيسن الأسبوع الماضي سارع إلى الاتصال بمالون قبل أي أحد آخر. صحيح أن من يتشاركان في خصائص الـ"دي أن أي" لا تجمعهما بالضرورة هذه الرابطة التي جمعت بين هذين القرينين، ولكن مالون قال إنه رأى في مشروع برونيل للتصوير الفوتوغرافي "طريقة أخرى لربطنا جميعاً في جنس بشري واحد".