فوجئ رياض بن غربال، صاحب شركة تأمين، من رد عامل محطة الوقود عندما أخبره بخلوها من البنزين وأن عليه البحث في محطات أخرى عله يعثر على بضعة لترات.
رياض ليس سوى واحد من آلاف التونسيين الذين يعانون يومياً على امتداد قرابة الشهر من فقدان عدد المواد الأولية والأساسية التي أضيفت إليها المحروقات، الأمر الذي يبدو أنه يتفاقم ببطء مع صعود القلق والحيرة لدى المواطنين المنشغلين فعلاً بما ستؤول إليه الأوضاع الاقتصادية في بلدهم.
يقول رياض "كانت تلك المحطة الرابعة التي أتوجه إليها، وتبعد نحو عشرة كيلومترات عن مقر سكني لملء خزان السيارة بالبنزين مع العلم أن لا إضراب معلناً في ذلك اليوم، وهي ليست المرة الأولى التي أواجه فيها مثل هذه الصعوبات في التزود بالبنزين".
وضعية صعبة
يرى المتخصصون أن "التأخير في سداد قيمة شحنات الوقود يؤدي إلى رفض الشركات التي تستورد منها تونس ملء البواخر بالمحروقات إلا بعد دفع ثمن الشحنات القديمة مما يتسبب في حدوث هذا النقص".
سلوان السميري، الكاتب العام لـ"الجامعة الوطنية للنفط" في "الاتحاد العام التونسي للشغل" يقول إن نقص المحروقات المسجل في الأيام الأخيرة سببه مالي بحت، إذ تعاني الدولة صعوبات في خلاص الشحنات بسبب مشكلاتها المالية، وأوضح أن هذا النقص سجل بخاصة في مادة "الغازويل" من دون كبريت، مشيراً إلى أن هناك باخرة في ميناء "بنزرت" (شمال) تنتظر منذ يومين تفريغ حمولتها الذي سيكون اليوم أو غداً.
وأرجع المسؤول النقابي النقص الحاصل في التزود بالمحروقات إلى ثلاثة عوامل هي ارتفاع سعر برميل النفط وصعود وتيرة الاستهلاك خلال الموسم الحالي ونقص الموارد المالية للدولة، وشدد السميري على ضرورة أن تبحث الحكومة عن حل مع "البنك المركزي" لتمويل المواد الحيوية، مقترحاً على البنوك تمويل حاجات البلاد من المحروقات بالضمانات التي تريدها أو إيجاد حل مع المزودين الأجانب، وقال "نحن مطالبون بـ400 مليون دينار (133 مليون دولار) لتوفير المواد البترولية"، متسائلاً عن مصدر هذه الموارد في ظل تواضع موارد الدولة.
نقص لافت
تشكو محطات الوقود من نقص الكميات مقابل ارتفاع كبير في الطلب المدفوع بكثافة الحركة خلال فصل الصيف. في المقابل، تنكر السلطات الرسمية وجود نقص في الكميات، مبررة اضطراب التزويد بزيادة الاستهلاك والطلب على المحروقات، إذ قالت وزارة الصناعة والمناجم والطاقة في بيان إبان بروز الأزمة إن "مختلف المواد البترولية متوافرة في جميع محطات الوقود بالجمهورية وعملية التزود متواصلة بنسقها العادي".
على العكس، تؤكد شهادات لأصحاب السيارات أنهم وجدوا صعوبة كبيرة جداً في التزود بالبنزين في أكثر من مناسبة نتيجة عدم توافره في المحطات، مما يضطرهم إلى قطع مسافات إضافية للبحث عنه، ويشترط العاملون في المحطات إتاحة كميات محدودة من الموارد البترولية لأصحاب السيارات، نظراً إلى أن الكميات الموجودة بها محدودة من جهة، ولإعطاء المجال لأكثر من سيارة للحصول على البنزين من جهة أخرى.
رفض تمويل الشحنات
في مقرر حكومي حول الوضعية المالية للشركات الحكومية في تونس بحضور كل أعضاء الحكومة، تحصلت عليه "اندبندنت عربية" بصفة حصرية، كشفت المديرة العامة لـ"الشركة التونسية لصناعة التكرير" فاختة المحواشي عن أنه "بسبب تراجع التصنيف السيادي للدولة من جانب وكالات التصنيف الائتماني، رفض عدد من البنوك الأجنبية تمويل شحنات مواد بترولية لفائدة السوق التونسية".
وخفضت وكالة "فيتش" الدولية للتصنيف الائتماني تصنيف تونس السيادي من مرتبة "B-" إلى "CCC" في 18 مارس (آذار) 2022، وقبلها كانت وكالة "موديز" خفضت التصنيف الائتماني في 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 من "B3" إلى "Caa1" مع المحافظة على توقعات سلبية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما رفض المزودون، وفق المحواشي، إمهال الشركات مزيداً من التسهيلات في الخلاص، علاوة على تعديل برامج التسليم لضمان خلاص الشحنات السابقة قبل تنفيذ الشحنات الموالية، إضافة إلى صعوبة الحصول على اعتماد مستندي من البنوك المحلية مع ارتفاع الكلفة، وأكدت في عرض قدمته خلال جلسة عمل وزارية أمام عدد كبير من أعضاء الحكومة للتباحث في وضعية الشركات العمومية التونسية أن تداعيات الأزمة الأوكرانية الروسية أسهمت في ارتفاع أسعار النفط الخام والمواد البترولية بالأسواق العالمية، علاوة على بطء عمليات التثبت من الوثائق لدى البنوك المحلية، مما تسبب في مزيد من تأخير خلاص المزودين، وكذلك استنفاد كامل خط التمويل السعودي (EximBanK) بقيمة 200 مليون دولار خلال شهر أبريل (نيسان) 2022.
إلغاء شحنات التوريد
نتيجة للعجز المالي لعام 2021 وامتداد آثاره إلى عام 2022، كشفت المحواشي أيضاً عن اضطراب برنامج تزويد مادتي البنزين الخالي من الرصاص والبوتان، نظراً إلى عدم السماح بالرسو (Financial Hold) منذ يناير (كانون الثاني) 2022 وإلغاء شحنات مادة "الغازوال" لأشهر يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) ومارس، مما تسبب في تراجع المخزون الاحتياطي الوطني، إضافة إلى تهديد جدي من عدد المزودين بفسخ العقود نظراً إلى التأخير في الخلاص ورفضهم جدولة الديون المتبقية بذمة الشركة، وأقرت المسؤولة بخطر فسخ العقود نتيجة عدم الخلاص مع كل ما يتسبب فيه ذلك من تبعات ارتفاع الأعباء المالية.
ولتأمين تزويد السوق المحلية، تضطر الشركات إلى التداين البنكي قصير الأجل، مما يتسبب في ارتفاع الأعباء المالية التي تتجاوز سنوياً 50 مليون دينار (15.6 مليون دولار)، فضلاً عن زيادة المخاطر وبلوغ سقف المديونية المسموح به مع صعوبة المحافظة على المخزون الاحتياطي في مستوى مقبول.
من جهة أخرى، ارتفع استهلاك المواد البترولية في يونيو (حزيران) من هذا العام بنسبة خمسة في المئة بالمقارنة مع الفترة ذاتها من السنة الماضية، وسجل استهلاك البنزين زيادة بنسبة 10 في المئة في حين شهد استهلاك "الغازوال" انخفاضاً طفيفاً بنسبة واحد في المئة مع بداية العودة الاقتصادية الطبيعية على أثر تداعيات مجابهة الموجة الثانية من أزمة "كوفيد".
ظرف طاقي صعب
قالت نائلة القنجي، وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم، إن الظرف الطاقي الراهن في تونس يقتضي إجراء تعديل وصفته بـ"الطفيف" على أسعار المحروقات، وأكدت في تصريح مطلع الشهر الحالي أن الحل على المدى القصير جداً يستوجب زيادة في أسعار المحروقات.
ومنذ بداية العام الحالي، رفعت أسعار المواد البترولية في ثلاث مناسبات آخرها منتصف أبريل، لكن التعديل الآلي توقف بعد ذلك.
وقالت القنجي إن الوضع الطاقي في تونس أضحى مختلاً بسبب ما وصفته بـ"الارتفاع الصاروخي لأسعار النفط، وبشكل لافت في الأسواق العالمية"، وتابعت أنه تم رصد حاجات التمويل هذا العام بقيمة 5200 مليون دينار (1677.4 مليون دولار) من المواد النفطية (محروقات وغاز طبيعي وكهرباء)، لكن بسبب الصعود المتزايد لسعر برميل النفط تضاعفت الحاجات إلى مستوى 10200 مليون دينار (3290.3 مليون دولار).
وأفادت بأن حجم دعم المحروقات المقرر في موازنة 2022 كان في حدود 2900 مليون دينار (935.4 مليون دولار)، لكنه ارتفع إلى مستوى 8 مليارات دينار (2580.6 مليون دولار) متضاعفاً بأكثر من ثلاث مرات، وخلصت إلى أن المعطى الطاقي الراهن أصبح مقلقاً، لا سيما على مستوى التوازنات المالية للبلاد.
في أحدث تصريح إعلامي لها، مساء الأحد الـ28 من أغسطس (آب)، اعترفت وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة بأن الاضطرابات المسجلة في التزود بالمحروقات في تونس تعود إلى عوامل عدة من أبرزها أن المزودين اشترطوا منذ أشهر الحصول على مستحقاتهم بشكل مسبق، وأضافت القنجي أنه حتى إن كانت المبالغ متوافرة، فإن الإجراءات مع "البنك المركزي" لخلاص المزودين تتطلب بعض الوقت.