مع الرد العنيف الذي صدر عن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب على الاتهامات التي شنها ضده الرئيس الحالي جو بايدن، تكون المعركة الرئاسية المقررة عام 2024 قد بدأت مبكرة عن موعدها بعامين كاملين، لكن كيف يمكن أن تنعكس هذه المعركة طويلة الأمد على السياسة في أميركا، فانتخابات التجديد النصفي للكونغرس باتت على بعد شهرين فقط، ومناخ الاستقطاب يزداد سخونة ويقسم المجتمع بشدة ويهدد استقراره في ظل مخاوف وتحذيرات متزايدة من انفلات الأمور من عقالها.
هجوم حاد
في أول تجمع انتخابي حاشد منذ أن داهم مكتب التحقيقات الفيدرالي منزله في "مار إيه لاغو" بولاية فلوريدا، لم يكن مستغرباً أن يرد ترمب الاتهامات التي شنها ضده الرئيس الحالي قبل أيام، معتبراً أن ترمب وأنصاره "خطراً على الديمقراطية"، فوصف في خطاب ألقاه في ويلكس بار بولاية بنسلفانيا، بايدن بأنه "عدو الدولة" الأميركية وبأنه استخدم وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي) ضد خصومه السياسيين في محاولة لن ترهبه وأنصاره، كما حذر من أن "جماعات اليسار الديمقراطي ستدمر أميركا وتهدد الديمقراطية".
وعلى الرغم من أن وجود ترمب في بنسلفانيا، استهدف أساساً دعم مرشحين جمهوريين يساندهما بقوة، وهما الدكتور محمد أوز المرشح لمجلس الشيوخ، ودوغ ماستريانو المرشح لمنصب حاكم الولاية، فإن الفرصة الذهبية التي أتاحها هجوم بايدن المفاجئ ضده، جعلت لردوده أصداء واسعة وقيمة أكبر من المعتاد في أجواء الانتخابات التقليدية، خصوصاً بعد أن وصف الـ"أف بي آي" ووزارة العدل الأميركية بأنهم "وحوش شريرة، يسيطر عليها الأوغاد اليساريون المتطرفون والمحامون ووسائل الإعلام، الذين يخبرونهم بما يجب عليهم فعله يحاولون إسكاتي وهو ما لن يحدث"، كما سخر ترمب من إضاءة الدم الحمراء خلف بايدن خلال خطابه. وقال لجمهوره، "كيف يمكن أن يحب أحد ذلك الضوء الأحمر خلفه مثل الشيطان؟".
عودة إلى 2020
لكن في خضم المعركة السياسية الساخنة التي دفعت هيئة تحرير صحيفة "واشنطن بوست" إلى وصف خطاب بايدن بأنه خطاب حزبي قاس على الأميركيين ذوي النيات الحسنة ومحاولة لتحقير الجمهوريين كي يبتعدوا عن حركة ترمب المعروفة باسم ماغا وهي اختصار لشعاره "اجعل أميركا عظيمة مجدداً" (make America great again)، بدا الأمر وكأنه تكرار لحملة انتخابات عام 2020، فعلى الرغم من أن بايدن وترمب غيرا مكانهما داخل وخارج البيت الأبيض، فإن الدولة التي تمزقها الأيديولوجية، والثقافة، والاقتصاد، والعرق، والدين، والتحزب، والشعور بالظلم الاجتماعي، لا تزال مستقطبة كما كانت من قبل.
وفي حين حقق بايدن بعض النجاحات التشريعية التي وافق عليها الحزبان، فقد فشل بشكل منفرد في رأب الصدع المجتمعي الأوسع الذي ورثه من ترمب، وتخلى عن رسالة الوحدة التي دعا إليها حينما وصل إلى سدة الحكم في عام 2020 متعهداً بكسب "المعركة من أجل روح هذه الأمة الأميركية"، والتي كانت حجر الزاوية في انتخابه.
لكن بعد أن اعتقد بايدن أن الأمور ستكون مختلفة وأن الديمقراطية ستسود، وأن سلفه سيتلاشى من المشهد السياسي، إلا أنه بعد 19 شهراً خرج محذراً من أن الديمقراطية لا تزال تحت الهجوم من الرئيس السابق وأنصاره، ما يؤكد ما قاله بعض الجمهوريين بأن جهوده لبناء الإجماع كانت "خرقاء"، وما يردده بعض الديمقراطيين من أنها كانت مفرطة في التفاؤل.
تغيير الاستراتيجية
وفي كلتا الحالتين، كانت النتيجة واحدة، فمع انطلاق حملة انتخابات التجديد النصفي لمجلسي الشيوخ والنواب، استغنى بايدن عن رسالة الوحدة، وشرع في تغيير استراتيجيته، وبدلاً من أن تكون انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل أشبه باستفتاء على رئاسته، التي تضررت من ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض الروح المعنوية العامة، أراد بايدن أن يجعل الانتخابات خياراً بين مناخ طبيعي، ومناخ "متطرف يهدد أساس الجمهورية الأميركية" كما حددها في خطابه في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا. ومن ثم يكون التصويت اختياراً بين بايدن وترمب، من دون أن يكون أي من الرجلين مدرجاً بالفعل في بطاقة الاقتراع.
وتستند هذه الاستراتيجية على ما يبدو إلى نظرية سائدة في البيت الأبيض. تقول إنه إذا سئل الأميركيون عما إذا كانوا يدعمون بايدن، فقد يقولون لا، لكن إذا سئلوا عما إذا كانوا يدعمونه ضد ترمب، فقد يقولون نعم، بناء على استطلاعات الرأي الأخيرة التي تشير إلى ارتفاع معدلات الموافقة الضعيفة على أداء بايدن، في أعقاب سلسلة من الانتصارات التشريعية والسياسية، على الرغم من استمرارها في الأربعينيات، ولكن عندما واجه ترمب في استطلاع جديد لصحيفة "وول ستريت جورنال"، تقدم بايدن على ترمب في "مباراة العودة" المحتملة لانتخابات الرئاسية المنتظرة عام 2024، بنسبة 50 في المئة مقابل 44 لترمب.
محفوفة بالمخاطر
قد يكون ترمب قد ساعد بايدن من دون قصد، في تمهيد الطريق لمثل هذه المواجهة السياسية بجهوده الواضحة للغاية من أجل الحفاظ على قبضته على الحزب الجمهوري، وهذا يعني أنه من المرجح أن يتخذ بايدن مواقف أكثر تصادمية على مدى الشهرين المقبلين، ما قد يقوض نجاحه في هذه الاستراتيجية المحفوفة بالمخاطر، فقد اتهمه حلفاء ترمب بأنه الأكثر إثارة للانقسام في العصر الحديث، لأنه في خطابه الأخير مزق البلاد وهدد الديمقراطية، وليس العكس، حينما أهان 74 مليون أميركي صوتوا لصالح ترمب.
وما يزيد من المخاوف أن كلا الحزبين يشعران بأن الديمقراطية مهددة، حيث كشف استطلاع أجرته جامعة كوينيبياك أن 69 في المئة من الديمقراطيين، يرون أن الديمقراطية تواجه خطر الانهيار، كما قال 69 في المئة من الجمهوريين الشيء ذاته.
لكن بايدن لم يكن في الحقيقة يستهدف الجمهوريين ومن يميلون للتصويت معهم الذين يشكلون 40 في المئة من الأميركيين، وغير مستعدين للاستماع إليه، وإنما كان يستهدف 81 مليون أميركي، يشكلون ائتلافاً من الديمقراطيين والمستقلين والجمهوريين الساخطين الذين تمكن من الحصول على تأييدهم قبل سنتين، على أمل أن يخرجوا للتصويت لصالح المرشحين المفضلين له في الكونغرس.
ومع ذلك، يدرك بايدن والديمقراطيون أن التجارب التاريخية تشير إلى أن حزب الرئيس الموجود في البيت الأبيض، يخسر دائماً أول انتخابات نصفية، في وقت يحتاج فيه الجمهوريون، إلى الفوز بمقعد واحد إضافي في مجلس الشيوخ، وحفنة قليلة من مقاعد مجلس النواب للسيطرة على أحد المجلسين في الكونغرس أو كليهما، الأمر الذي من شأنه أن ينهي بشكل فعال فرص بايدن في تمرير أي تشريعات رئيسة طوال ما تبقى من ولايته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تفاؤل حذر
لكن مسؤولي البيت الأبيض وغيرهم من الديمقراطيين يشعرون بقدر محدود من الارتياح بسبب التحول في الزخم السياسي خلال الأسابيع الأخيرة، خصوصاً بعد أن أسقطت المحكمة العليا الأميركية الحق الدستوري السابق في الإجهاض، الذي أغضب قطاعاً من المعتدلين والمستقلين خصوصاً بين النساء في المدن والمناطق الحضرية ما قد يدفعهم إلى معاقبة الجمهوريين المتشددين في صناديق الاقتراع.
كما ظهرت أسباب أخرى للتفاؤل في المعسكر الديمقراطي، منها فوز مرشحتهم ماري بيلتولا في انتخابات خاصة لمجلس النواب ضد المرشحة السابقة لمنصبة نائب رئيس الولايات المتحدة، سارة بالين، في جمهورية ألاسكا ذات الميول الجمهورية، وفشل محاولات إجراء تعديل دستوري مناهض للإجهاض في ولاية كانساس الجمهورية تقليدياً، فضلاً عن ترجيح تقرير كوك السياسي، الذي يراقب كل حملة في مجلس النواب، فوز الديمقراطيين بخمس منافسات انتخابية أخرى، ما وضع حزب بايدن على مسافة قريبة من النصر.
السؤال الصعب
ومع ذلك، يظل السؤال هو ما إذا كان التركيز على المعركة من أجل الديمقراطية، كما صاغها بايدن، سيؤدي إلى تحريك الناخبين بعيداً من التضخم والجريمة والهجرة وغيرها من القضايا التي ستضر الديمقراطيين، خصوصاً بعد أن خلص البيت الأبيض منذ فترة طويلة إلى أنه لا يمكن الفوز ببساطة من خلال الترويج لسجل بايدن التشريعي، حتى عندما يجادل مساعدوه بأنه قد أنجز الكثير عبر تمرير مشاريع البنية التحتية وتغير المناخ والرعاية الصحية وغيرها.
ولكن مع حسم فريق الرئيس أن الديمقراطيين لن يفوزوا إلا من خلال جعل الأميركيين ينظرون إلى الطرف الآخر على أنه خطير للغاية بحيث لا يسمح لهم بالعودة إلى السلطة، تظل المعركة السياسية محتدمة وغير مضمونة للطرفين المتناحرين.
رهان ترمب
على الجانب الآخر، يخطط ترمب ومساعدوه لاستراتيجية ينظر إليها الحزب الجمهوري على أنها سيف ذو حدين، حيث تأمل الحملات الجمهورية أن تؤدي المسيرات والتجمعات الانتخابية، وظهور الرئيس السابق على شاشات التلفزيون ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي، إلى تحفيز قاعدة الحزب من دون إبعاد المعتدلين والمستقلين، مع التركيز على أن ترمب يحظى في المناطق الريفية بدعم قوي وبخاصة في ولايات الجنوب والغرب الأوسط.
لكن الخطر حاد في أن وجوده يمكن أن يصرف الانتباه عن الرسالة المركزية التي يسعى الحزب الجمهوري إلى إيصالها على المدى المتوسط، وهي أن الناخبين يجب أن يطردوا الديمقراطيين الذين أشرفوا على القرارات التي أدت إلى ارتفاع تكاليف المعيشة والجرائم العنيفة، فيما يواجه الرئيس السابق تحقيقات فيدرالية عقب تفتيش منزله وهو ما يثيره ترمب نفسه، واصفاً هذه المحاولات بأنها "هجوم سياسي وخطاب تحريضي" سعى إليه الديمقراطيون ليظل في دائرة الضوء.
وظهرت هذه الدينامية المعقدة عندما بدأ الرئيس الـ45 للولايات المتحدة حملته الانتخابية العامة بحشد في بنسلفانيا، اعتبر فيه أن هذه الانتخابات هي استفتاء على فساد وتطرف جو بايدن والحزب الديمقراطي الراديكالي.
وفيما يتوق كثير من الجمهوريين إلى توسيع نطاق حملة ترمب لتغذية انتصارات مرشحيهم الكبيرة في عام 2022 وما بعده من خلال الاستفادة من جاذبيته الدائمة لدى الجمهوريين، إلا أن الخطر يكمن في كيفية تجنب تنفير الناخبين المتأرجحين، وهي معضلة كشف عنها الاستطلاع الأخير لجامعة كوينيبياك، الذي وجد أن 72 في المئة من الجمهوريين يريدون ترشيح ترمب للرئاسة مرة أخرى في عام 2024، لكن 66 في المئة من المستقلين لا يؤيدون ذلك.
غير أن ما يزيد المخاوف، هو خطاب الاتهامات المتبادلة بين ترمب وبايدن، الذي من المؤكد أنه سيزداد اشتعالاً خلال الأسابيع المقبلة، الأمر الذي سينعكس سلباً على مناخ محتقن ومستقطب بالفعل، خصوصاً إذا شهدت قضية ترمب والتحقيقات حول الوثائق السرية التي صادرها الـ"أف بي آي"، تطورات جديدة تصب مزيداً من الزيت على نار أزمة مشتعلة.