"ليه يكون جدك من شبرامنت (قرية في مركز أبو النمرس بالجيزة) وتجعلين الملكة إليزابيث صورة بروفايلك؟".. تعليق ظاهره ساخر وباطنه أيضاً، لكنه يعكس واقعاً مصرياً شعبياً في ضوء رحيل الملكة إليزابيث الثانية.
الشارع يقول الكثير والشارع الافتراضي الموازي يقول أكثر، وأكثر ما يثير الانتباه في ضوء رحيل الملكة إليزابيث عن 96 عاماً هو كم ما يدور في المجتمع المصري من أفكار وروايات واهتمامات وذكريات ونقاشات يخطئ من يظن أنها لا تخرج عن حدود القيل في الاقتصاد والتضخم والأسعار والدولار، والقال في السياسة والمعارضة ومجلس النواب والحوار الوطني.
الاحتلال والحروب
الوطنية نضحت من عصبية "عم أحمد"، حارس عقار في مصر الجديدة، والذي تجاوز عمره الـ 70 عاماً، وهو يستنكر حال الحزن التي طغت على حديث أقرانه من أفراد أمن العمارات المجاورة وهم يطالعون أخبار وفاة الملكة وجنازتها وذكرياتها.
العم أحمد قارئ نهم يترحم على الملكة الراحلة، لكنه يحملها مسؤولية الاحتلال البريطاني لمصر، ويقر ويعترف أن وقت بدء الاحتلال عام 1882 لم تكن الملكة الراحلة قد ولدت بعد، "لكنها رمز بريطانيا وكان عليها أن تعتذر".
العم أحمد بجانب كونه قارئاً نهماً كان جندياً في القوات المسلحة المصرية وخاض حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 ودائم الربط بين بريطانيا وإسرائيل وبالطبع الولايات المتحدة الأميركية، كما يصف نفسه بأنه مواليد "الثورة"، أي ثورة يوليو (تموز) عام 1952، وعاشق للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لذلك فإن ذكرياته وأيديولوجياته فرضت نفسها بقوة على النقاش، فتارة يستحضر الأزمة التي حدثت بسبب وصف غير لائق أطلقته وسيلة إعلام بريطانية على عبدالناصر خلال الستينيات بسبب دور مصر في اليمن، وهو ما دعا الرئيس الراحل إلى الرد عليهم مستحضراً تصرفات الاحتلال والعدوان الثلاثي عام 1956، في مقابل ما أصبحت عليه مصر "من قدرة على رد الشتيمة"، وللمرة الـ 100 يجبر العم أحمد الحضور على سماع ومشاهدة ما قاله "الريس" قبل ما يزيد على أربعة عقود، مكرراً ما قاله عبدالناصر من أن صحيفة "تايمز" كانت قادرة على إسقاط رئيس وزراء المملكة المصرية، واليوم حين يشتموننا فنحن قادرون على رد الشتيمة، "ألا تستطيع جرائدنا شتم ملكة بريطانية أو رئيس وزرائها؟" لكن الحضور يطالب "عم أحمد" بمراعاة حرمة الموت، "الست رحلت عن دنيانا".
رحيل "الست الملكة"
رحيل "الست الملكة" كما يلقبها الشارع استحوذ على اهتمام القاعدة العريضة من المصريين بطرق شتى ولأسباب مختلفة، والسبب الرئيس هو أن الحدث جلل والراحلة شخصية ليست عامة فقط بل ملكية وعاشت وعاصرت ما لا تعرفه مليارات البشر إلا عبر كتب التاريخ.
كتب التاريخ في المدارس والنهج الثقافي والدرامي والإعلامي في مصر على مدى عقود طويلة، وجميعها ظل يتناول عصر الملكية في مصر باعتباره الأسوأ والأكثر فساداً والأعتى ظلماً، شهدت تغيرات خلال السنوات القليلة الماضية، وجانب من هذه التغيرات يلقي بظلاله هذه الأيام في ضوء وفاة "الست الملكة".
كم كبير من الصور الفوتوغرافية يجري تداوله بنبرة فخر لا يخطئها قلب في التعليقات، منها على سبيل المثال صورة للملك فاروق وإلى يمينه دوق إدنبرة زوج الملكة الراحل الأمير فيليبب وإلى يساره السياسي العمالي ورئيس اتحاد العمال البريطاني الراحل إرنست بيفن وذلك في قصر القبة على مائدة الغذاء عام 1950.
وبفخر بالغ أيضاً تداول كثيرون صوراً لقلادة تاريخية من الذهب مرصعة بعملات معدنية مصرية قديمة يقال إن الملك فاروق أهداها إلى الملكة لمناسبة زواجها عام 1947، وعلى الرغم من أن جدلاً يثار حول "حق" رأس الدولة في إهداء آثار بلده لآخرين، فإن القلادة الذهبية التي يقال إن تاريخها يعود إلى القرن الثالث الميلادي يجري تداولها بشكل هستيري على منصات الـ "سوشيال ميديا".
المصريون على هذه المنصات اتخذوا من رحيل الملكة إليزابيث الثانية نقطة حوار ونقاش وبالطبع عراكاً، لكن قبل العراك يشار إلى أن بعضهم بالفعل جعل من صورة الملكة الراحلة "بروفايل" له، ومنهم من هرع ليجعل "الحداد" حالاً له مما أثار العراك.
لماذا تعلن الحداد؟ سواء من منطلق تهكمي حيث كثيرون لم تطأ أقدامهم أرض بريطانيا من الأصل، أو من باب الاعتراض السياسي حيث يعتقد بعضهم أن دور بريطانيا في التاريخ المصري الحديث يقف حائلاً دون الحداد، أو بدافع الوساوس المزمنة بأنه لا يجوز الترحم على غير المسلمين.
النبش في التاريخ الحديث
في هذا الصدد هرع العشرات إلى النبش والبحث والتنقيب لاستخراج ما قاله مفتي مصر السابق علي جمعة من أن العائلة الملكية البريطانية تندرج من أصول عربية، فعمليات التنقيب أسفرت عن إعادة بث لحلقة تلفزيونية نجم عنها آلاف المواضيع الصحافية حول ما قاله جمعة عام 2015 من أن العائلة المالكة البريطانية فيها دماء عربية، وأن "جد الملكة إليزابيث الثانية هاشمي من آل بيت النبي".
ويقول جمعة في الحلقة المتداولة والمنتشرة انتشاراً فيروسياً حالياً إن دراسات عدة تؤكد النسب، وأن الملكة إليزابيث من أحفاد الرسول، وأن شخصاً اسمه "هاشمي جد الملكة، لكنها لم تسلم لأن الإنجليز أرغموا جدها عنوة على التنصر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نسب الملكة الراحلة إلى النبي محمد أثار حالاً من الفوضى غير الخلاقة في الشارع المصري الافتراضي، فقد أدت إعادة هذا الطرح الذي تبناه كذلك عدد من المواقع والصحف إلى الجدلية المزمنة منذ سبعينيات القرن الماضي حول جواز الترحم على غير المسلم، فبدلاً من تمني السلام لروحها والسكينة لمحبيها القابعين على بعد نحو 4200 كيلومتر، وهي طول المسافة من مصر إلى بريطانيا، إذ بجدل الترحم على المسلم وغير المسلم يضاف إليه جدل نسب الملكة الراحلة إلى النبي محمد يطفو على السطح.
الغالبية الطافية على السطح تقابلها أقلية نقبت هي الأخرى ولكن عن أصل ما قاله جمعة قبل أعوام عن نسب الملكة، عالم الأنساب الأميركي الراحل المتوفي في مارس (آذار) عام 2005 هارولد بروكس بيكر الذي كان أثار المسألة عام 1986 حين كتب رسالة إلى رئيسة وزراء بريطانيا حينئذ مارغريت تاتشر جاء فيها، "قليل فقط من الشعب البريطاني يعلم أن دماء محمد تسري في عروق الملكة".
وظل بروكس بيكر يؤكد أن الملكة إليزابيث متصلة عبر النسب بالنبي محمد من خلال الأميرة زائدة أو زايدة التي تزوجت الفتح بن المعتمد بن عباد الملقب بـ "المأمون" والذي كان ملك أشبيلية، ويعتقد أن زايدة تحولت إلى المسيحية وأصبحت زوجة أو محظية للملك ألفونسو السادس، وعلى الرغم من أن نسب زايدة نفسها إلى النبي محمد ليس مؤكداً، إلا أن الإثارة المتداولة حول فكرة نسب ملكة بريطانيا إلى نبي الإسلام لا تدع مجالاً للبحث أو مساحة للتنقيب بعيداً من الهوس الديني أو الشعبوي أو كليهما.
ملكتان وشعب
كل المصريين أو معظمهم يعرفون "الست الملكة" وكذلك "الأميرة ديانا"، والغالبية تنظر إلى الملكة الراحلة باعتبارها شخصية ذات رونق يحيط عادة بكل ما هو ملكي، لكن نظرتهم تجاه الأميرة الراحلة ديانا مختلفة، وبينهم من يربط بين الشخصيتين ربطاً لا يصب في مصلحة الملكة، وذلك استناداً إلى زيجة ديانا التعسة بالملك تشارلز حالياً والأمير سابقاً، ورحلة شهر العسل التي أمضيا جانباً منها في مصر وتحديداً في مدينة الغردقة، وكذلك إلى علاقة ديانا بدودي الفايد وأصوله المصرية وموتهما معاً في حادثة مأسوية قيل كثيراً عن ملابساتها من دون تأكيد أو نفي لأسباب المصير المريع لأميرة القلوب، فديانا كانت أميرة القلوب بصك عاطفي قوامه المشاعر وإطاره قائم على مبدأ "القلب وما يهوى"، أما الملكة إليزابيث فكانت ملكة بصك قواعد الملكية البريطانية قوامه تاريخ طويل من الملكية الدستورية، وإطاره صلاحيات منصوص عليها منذ قرون، لذلك يتداول مصريون من محبي الأميرة ديانا كلماتها الشهيرة خلال مقابلة مع الصحافي مارتن بشير عام 1995، "أود أن أكون ملكة قلوب الناس لكنني لا أرى نفسي ملكة هذا البلد".
رحيل ملكة هذا البلد دفع مصريين كذلك، لا سيما سكان شارع الوحدة في إمبابة، إلى تذكر زيارة ابنها الأمير تشارلز عام 1995، وعلى الرغم من تكرار زيارات تشارلز لمصر فإن زيارة عام 1995 تركت أثراً مختلفاً لدى المصريين، ففي هذا العام زار "ولي العهد" مصر زيارة مختلفة، والتقى شيخ الأزهر الأسبق الراحل جاد الحق علي جاد الحق، كما التقى مفتي الديار المصرية آنذاك محمد سيد طنطاوي، وزار منطقة إمبابة بعد تطويرها، وكانت إمبابة في ذلك الوقت خارجة لتوها من سنوات اكتسبت خلالها لقب "مصنع الإرهاب"، وذلك بسبب الفقر والازدحام والعشوائية ونقص الخدمات وانتشار الفكر المتطرف من دون ضابط.
ضبط إيقاع ردود الفعل المتفاوتة على وفيات الشخصيات العامة أمر صعب، فهي حيناً يطغى عليها الجمود لأسباب سياسية أو ثقافية، وحيناً يهمين عليها الحزن بسبب محبة الراحل أو لأفعال طيبة ارتبطت باسمه، وأحياناً يغلب الحزن الإنساني الفطري في حضرة الموت.
مع الموت يأتي التأبين
ومع الموت يأتي تأبين الراحل وسرد أبرز محطاته المتصلة بمجتمع أو شعب ما، خمسة مصريين على الأقل حظوا بتكريم من الملكة الراحلة، وهم طبيب القلب المشهور مجدي يعقوب الذي حصل على لقب "سير" عام 1991 وكذلك جائزة "فخر بريطانيا" عام 2007، وحصلت الدكتورة نعمت شفيق على رتبة "السيدة القائد" وكذلك العضوية الدائمة في مجلس اللوردات البريطاني، وعليه حصلت على لقب "بارونة"، ورئيسة الجالية المصرية في إيرلندا الشمالية الدكتورة عفاف عبدربه التي حصلت على وسام الإمبراطورية البريطانية، وأسقف إيبارشية لندن للكنيسة القبطية الأرثوذكسية الأنبا أنغيلوس، والناشطة بالجالية المصرية في بريطانيا إيناس إبراهيم هلال.
ويشار إلى أن فئة ليست قليلة من المصريين اقتربت من الملكة الراحلة واكتسبت معرفة أعمق قليلاً وأبعد كثيراً من الصورة الذهنية المقتصرة على صورتها المطبوعة على الـ "بنكنوت الاسترليني" والمحفورة على العملات المعدنية بفضل مسلسل "التاج" الذي ظل ضمن الأكثر مشاهدة على قائمة "نتفليكس" في مصر لأسابيع.