ليس من قبيل النكد النسوي أن تمضي الحركة النسوية العالمية والمحلية في سبر أغوار العنف الذي يمارس ضد النساء. فالأمر أبعد من ذلك وأعمق، نظراً إلى تشابك الانتهاكات وتفاوت حدتها الظاهرة والمضمرة، وأيضاً لأنها تطاول بعنفها الذكوري، أياً يكن شكله، حيوات النساء في فئات عمرية مختلفة، وإن طغت الفئة العمرية الراشدة على تناول هذه الانتهاكات نظراً إلى تشابكها وعلنيتها ووضوحها يوماً بعد يوم. لكن هنالك فئات عمرية أخرى تختبر العنف بأبشع أشكاله لكونها الفئات الأكثر هشاشة، كفئة الطفلات اليافعات وفئة المسنات على سبيل المثال لا الحصر. لذا نفهم تماماً لماذا ينشغل تجمع "الباحثات" اللبنانيات على إخراج المؤنث من دائرة التعتيم الفكري والمجتمعي إلى دائرة الضوء، ويتطرق إلى موضوعات جديدة في سلسلة كتبه التي تخص المرأة، وهي موضوعات لم تقاربها عين البحث، وبقيت في حيز المسكوت عنه.
الكتاب الثامن عشر الصادر حديثاً 2021-2022 لم يشذ عن هذا المسار. واستناداً إلى مقاربات وحقول معرفية متنوعة على أسس منهجية متعددة حمل الكتاب عنوان "طفلات عربيات في أتون الحروب والنزاعات". وقد تم التطرق فيه إلى أشكال العنف الذي تتعرض له الطفلات العربيات في الحروب والنزاعات الأهلية وما حملته من تداعيات على حياتهن كمحور أساسي من محاور الكتاب، لكن ما يصعب الحلول والمعالجات لما يقع على الفتيات ممن هن ما زلن في طور الطفولة أنهن لم يتم تخصيصهن بالتشريعات الدولية والمحلية كفئة عمرية خاصة، باعتبار أنهن ينتمين إلى فئة النساء بحسب الاتفاقات الدولية لمناهضة التمييز ضد النساء، وفي الوقت عينه تشملهن أيضاً الاتفاقات الدولية المتعلقة بحقوق الأطفال.
وهذا ما يعتبره الكتاب نقصاً فادحاً يجب تداركه، بخاصة لما يواجه هذه الفئة العمرية من أشكال عنف متعددة ومقاربات منقوصة تفضي إلى تهميشها، فقد تم استلاب الطفلات في المجتمع والثقافة والفنون والإعلام ودفعن إلى أقصى زاوية في دائرة الهامش إلا في ما ندر. فهي فئة قلما تناولتها بالبحث والتنقيب والتدقيق الدراسات النسوية، ولم يتم تخصيصها في الأبحاث التي تناولت الطفولة أيضاً على المستويين المحلي والدولي، لكن الطفلات العربيات على وجه الخصوص هن الأكثر هشاشة والأكثر إقصاء عن موضوعات الاهتمام تبعاً لقضايا النساء كما الطفولة.
ضحايا الصمت
هذا التقصير وتلك التداعيات المؤلمة للعنف في الحروب والنزاعات، تركت بصمات عميقة متواصلة في حياة الفتيات المراهقات، ممن هن دون سن الثامنة عشرة. فهن طفلات عانين من الحروب وحملن معاناتهن كضحايا خلف جدران "الصمت" حماية لشرف العائلة من عار تعرضهن في الحروب (وفي السلم) للاغتصاب والتحرش الجنسي، أو جعلهن سلاحاً يستخدمه الأعداء الخارجيون والمحليون، لا سيما عبر العنف الجسدي الذي يتهددهن على الدوام. يحصل هذا أيضاً في الأزمات الاقتصادية وليس فقط في التداعيات التي تترافق مع الحروب وتؤدي إلى اللجوء والتشرد، وتدفع الأهل إلى تزويج بناتهن القاصرات ستراً للعرض وللتخلص من عبئهن المادي والأخلاقي، من غير مراعاة لصغر سنهن وعجزهن عن تربية أطفالهن وهن طفلات بالأساس مثل القاصرات السوريات في مخيمات اللجوء.
تضمن الكتاب أربعة محاور، تطرق المحور الأول إلى "الطفلات في الحروب: مقاربات متعددة". تناول البحث "وريثات الشر" بنات الحرب في الجزائر وهو للكاتبة الجزائرية آمال قرامي، آثار العنف الجسدي والنفسي الذي عانته نساء الجزائر في خضم مشاركتهن في حرب التحرير الوطنية، ومن خلال وحشية المستعمر الفرنسي. طبعاً على خلفية أمثلة من الواقع الذي عشنه في خضم تلك الحروب والنزاعات. تم "تصميت" الفتيات أو اخترن الصمت وعشن حياتهن أمواتاً أحياء، بما يشبه اغتصاباً مزدوجاً يمارسه المعتدي، ولا يلبث أن يكرره الأهل والمجتمع بالإسكات صوناً للشرف أو العرض، وهو ما يجعل المغتصب أو المعنف يفلت من العقاب.
التاريخ الذكوري
وإذا كان التاريخ تاريخاً ذكورياً يعكس قيم الرجال وتصوراتهم ويخبر عن أفعالهم وخطاباتهم ورؤيتهم "هم" للحياة والكون، بحسب آمال قرامي، فليس متوقعاً والحال هذه أن يكون حضور النساء في المؤلفات التاريخية حضوراً متميزاً، إذ يتم طمس هذا الحضور مثل طمس الانتهاكات التي تعرضن لها تبعاً للخلفية الذكورية نفسها، حتى لو كان ذلك على حساب الحقائق. فالتاريخ المكتوب يمنعنا أن نعثر على كل تفاصيل حياتهن اليومية وأنماط علاقاتهن وقيمهن وتمثلاتهن للسلطة والزواج والحياة والموت والدين والقانون وغيرها من أمور. وفي عودة لمشاركة الصغيرات والنساء عموماً في حرب التحرير الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي على سبيل المثال، كما في العنف الذي تعرضن له في "العشرية السوداء" التي عاشتها الجزائر تحت سطوة الإسلاميين المتطرفين في التسعينيات، وطاولت تداعياتها العنفية النساء ومنهن الطفلات، ليس من المتوقع والحال هذه أن نعثر على تجارب المرأة الجزائرية ومعاناتها كجزء من تاريخ الجزائر.
فالحروب والنزاعات تنتهي بالتسويات والمصالحات على أنقاض هؤلاء الضحايا، خصوصاً إذا تبين أن الحروب بالأساس هي مجال ذكوري بامتياز. ويحتكرها شيوخ القبائل والحكام والخلفاء وغيرهم، ويقررون زمن اندلاعها وطرائق خوضها، ثم هم من يبرمون التحالفات والاتفاقات مع العدو لإنهائها وما ينطوي ذلك على عمليات تبادل الأسرى وصفقات السلاح ويتقاسمون الغنائم. هكذا ندرك تماماً لماذا لم يضع غالبية المؤرخين وكتاب السير وغيرهم النساء في دائرة اهتماماتهم. وإن عرجوا قليلاً -لرفع العتب- عن مساهمة النساء في حرب التحرير الوطنية، كمثال عن دورهن في التحرير، فذلك أشبه بفعل التزيين، لكونه دوراً مسانداً للرجال. فلا يتوقف المؤرخون طويلاً عند أخبارهن وأشكال فاعليتهن، وتأثيرهن الحاسم في تحقيق الانتصار على العدو، هذا لا يحدث فقط في الجزائر بل في غزة أيضاً وسوريا والعراق وليبيا والسودان، وفي التاريخ الحالي الذي يروى عنه على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، هذا على غرار ما حدث سابقاً في كل كتب التاريخ في العالم وهنا في المنطقة العربية، وسيظل يحدث إن لم يتم تدارك هذه المسألة، مع تخصيص ما يحدث للطفلات الصغيرات في أتون هذه الحروب والنزاعات الأهلية والأزمات الاقتصادية، فتاريخهن جزء أصيل من التاريخ.
سوق السبي والبيع
إن الأكثر إثارة للاستغراب في كتابة التاريخ من وجهة نظر ذكورية هو التكتم على ضحايا هذه الحروب من النساء، بخاصة الصغيرات منهن، بحيث تتحول أجسادهن إلى ساحة قتال يتم فيها اغتصابهن وسبيهن وبيعهن في سوق النخاسة (داعش)، كما اعتقالهن وتعذيبهن وإعدامهن (النظام السوري)، وسحلهن في الشوارع (اليمن). ليس ذلك فحسب بل يتم إسكاتهن ويدفعن إلى الصمت خشية أن يتسبب البوح والإفصاح عن هذا العنف وغيره من أشكال إلى عار يلاحق العائلة على حساب العدالة والقيم الإنسانية. على رغم انتباه الدارسات العربيات إلى الإشكاليات التي تطرحها كتابة التاريخ من وجهة نظر ذكورية، وما يتم طمسه من تاريخ النساء، فقد تم تحقيق بعض الإنجازات. عمل بعضهن على تجميع المادة المبثوثة في كتب التراث، من تاريخ وفقه وحديث وفتاوى وأدب وحسبة، في محاولة لتأسيس تاريخ النساء وإبراز أشكال مشاركتهن في بناء الحضارة.
وهو ما تحدثت عنه منذ قرن تقريباً فرجينيا وولف في كتابها "غرفة تخص المرء وحده". لم يقتصر عمل الباحثات العربيات على إبراز فاعلية النساء في زمن السلم، بل تم تحديد مختلف الأدوار التي نهضت بها النساء في الحروب والصراعات، كالوساطة والدعم والتدبير ومعالجة الجرحى والعمل المسلح وغيرها من الأدوار. ولم يفت عالمات الاجتماع والمحللات النفسيات والمؤرخات إبراز مشاركة النساء في حروب التحرر من الاستعمار وتحليل علاقاتهن الاجتماعية والجندرية والحزبية، وهنا تبرز فاطمة قاسم في كتابها "النساء الفلسطينيات: سرديات تاريخية مجندرة"، عام 2011، وأيضاً رجاء الحضري في "قبسات من تاريخ المرأة المغربية المجاهدة" على موقع "مؤمنات نت". وكذلك الأعمال المنضوية تحت اسم مؤسسة "المرأة والذاكرة" في مصر، واسم مجموعة من المؤسسات التونسية مثل "نساء وذاكرة"، فضلاً عن بعض المقالات الواردة في المؤلفات الصادرة عن تجمع "الباحثات اللبنانيات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما يميز كتاب "الطفلات العربيات في أتون الحروب والنزاعات" هو تنوع الدراسات التي تناولها بالبحث، وإن كانت مغرقة في الخطاب الأكاديمي الصرف بمعظمها. ربما كي يقدم الكتاب مادة أكثر شمولية عن مناحي حياة هؤلاء الطفلات. وإن توسعت مواده لتشمل شهادات حية للكاتبات ومقاربات شخصية تعكس تجاربهن في الحروب وإشكاليات الهوية، استمراراً مع إشكاليات جيل الفتيات الصغيرات من الجيل الحالي. تحدثت هذه الشهادات عن أثر هذه التجارب على حياتهن وحياة بناتهن وحفيداتهن. وكيف انتقلت كوعي جمعي ما زال يتردد ويتخبط للخروج من دوامة العنف التي تحوط حياة النساء جميعاً، وتتهدد حالياً الطفلات الصغيرات في منطقة عربية ملتهبة مقبلة على تطورات لا تزال غير مأمونة. ولعل الأجمل في هذا الكتاب المواد التي تناولت ضعف انعكاس حياتهن في الثقافة والفنون والإعلام والمسلسلات المدبلجة، على رغم بضع محاولات جدية وإيجابية مثيرة للاهتمام. وإن كان العنف في هذه المجالات لا يبدو دوماً عنفاً جسدياً فهو يتخذ كثيراً شكل الإقصاء والحرمان من التعليم، كما الغذاء والطبابة والسكن والدونية في المجتمع، التي ما زالت مستمرة على رغم النضالات النسوية العظيمة، هذا على رغم ارتفاع نسب التعليم والمشاركة في سوق العمل، كما المشاركة في كثير من مجالات الحياة.
يبقى أن ننوه بأن الكتاب متخصص جداً في مواده وطريقة عرض النصوص، بحيث يجعلنا نتساءل كيف يمكن لهذه الأفكار أن تترجم في الواقع فتستهدف قراء عاديين وقارئات عاديات، وتساعدهم/ن على فهم واقعهم/ن وتغييره. فلطالما بقيت الدراسات العلمية أسيرة الأبراج العاجية للأكاديميا، ولا بد أن تحتاج كما غيرها من دراسات عميقة ومهمة إلى سنوات طوال كي تنزل إلى الشارع، حيث الحياة هناك أكثر مما هي في أي مكان آخر.