كشفت دراسة بحثية حديثة عن أن قطاع التكنولوجيا الحيوية تحول إلى أحد مجالات التنافس بين القوى الكبرى، بخاصة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، لا سيما مع ما يحققه هذا القطاع من فوائد اقتصادية وتكنولوجية وطبية، فضلاً عما يسهم به في تأمين مصالح الأمن القومي للدول.
ووفق الدراسة التي أعدها مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية "سي أس أي أس" تحت عنوان "التحرير الهادف للجينات الوراثية" فإن التقدم التقني الحاصل في تحرير وتطوير الحمض النووي يهدف إلى إنتاج مكونات جديدة ذات سمات مرغوبة ومحددة، والتي يمكن من خلالها خلق جزيئات "مفيدة" تؤدي إلى إنتاج مواد جديدة يمكن استخدامها مثل الأقمشة ذاتية الإصلاح أو البلاستيك غير المصنوع من المنتجات البترولية أو أجهزة الاستشعار الحيوية، كما يمكن استخدامها لإنتاج علاجات مخصصة للأمراض الجديدة أو القضاء على الأمراض الوراثية.
وتعتمد تلك التقنيات على استخدام خوارزميات الطب الدقيق والتعلم الآلي لتحسين استراتيجيات العلاج، وتحديد السبب الجيني وراء الأمراض أحادية الجينات والأمراض متعددة الجينات وهي الأكثر تعقيداً، هذا إلى جانب علاج الأمراض الوراثية والأمراض السرطانية.
وشددت الدراسة على أهمية أن يصبح للولايات المتحدة الأميركية دور في تطوير التقنيات الحيوية الحاسمة وأنظمة التعلم الآلي، التي تسهم بشكل كبير في فهم أسباب الأمراض الوراثية من خلال قطاع تجاري وأكاديمي معولم، لسد الفجوة لديها في تحرير الحمض النووي، لتصبح قطاعاً اقتصادياً مهماً يسهم في استمرار دورة الابتكار وتمكنها من تشكيل مستقبلها الاستراتيجي بشكل إيجابي على المستويين الداخلي والخارجي.
معوقات تقلص من الدور الأميركي
الدراسة أشارت إلى فشل البرامج الأميركية الحالية في الاستفادة بشكل كامل من التقدم العلمي الحالي مؤكدة أنه على رغم مكانة الولايات المتحدة كدولة رائدة في الاكتشاف والابتكار، فإنها تفتقر إلى وجود قواعد بيانات قوية ومنظمة من الجين البشري يمكن الاستعانة بها، وكذلك للخبرات الفنية اللازمة للحفاظ على ريادتها والمساهمة في ترجمة الاكتشافات العلمية المختلفة إلى تطبيقات متطورة. ولفتت أيضاً إلى الحاجة الملحة لدى وزارة الدفاع الأميركية إلى إجراء إصلاحات هيكلية للتكنولوجيات الناشئة في نهجها، لا سيما من خلال إنشاء مسارات وظيفية لموظفيها، وإلا فإنها ستستمر في الفشل في جهودها الساعية لدمج التقنيات الناشئة في مفاهيمها التشغيلية وميزانياتها وبرامجها، مما سيؤدي بالتالي إلى تقلص القدرات الأميركية لا سيما بالمقارنة مع الصين.
وحدد التقرير خمسة معوقات تقلص الإمكانات الأميركية، أهمها صعوبة إنشاء قواعد بيانات يمكن استخدامها في التجارب والمشاريع التكنولوجية الهادفة لعدد من العوامل، منها نظام الرعاية الصحية المجزأ وحقوق الخصوصية وحقوق الملكية، هذا إلى جانب الافتقار إلى إطار عمل سياسي مناسب يحمي بعض البيانات المهمة للمستهلكين التي تحصل عليها الشركات الخاصة مقابل تقديم خدمات "مجانية"، كما لا تتيح هذه الشركات أنواعاً أخرى من البيانات للمنظمات غير الربحية المسؤولة عن تطوير الشأن العام داخل البلد.
كما تعاني أميركا عدم وجود إمكانية لمشاركة بيانات العملاء المعنية بقطاع التكنولوجيا الحيوية مع دول الحلفاء مثل الاتحاد الأوروبي، الذي تخضع بياناته للوائح حماية البيانات العامة، إضافة إلى سعي الكيانات الأميركية بشكل روتيني للحصول على خدمات التسلسل الجيني منخفضة الكلفة لصالح منشآتها، في الوقت الذي يمكن لشركات التكنولوجيا الحيوية الصينية في كثير من الأحيان توفيرها بفضل الإعانات الحكومية الصينية.
وأخيراً الرفض الشعبي الأميركي لفكرة تحرير الجينات الوراثية أو إحداث تغييرات فيها واعتبار الأمر قضية أخلاقية وثقافية مثيرة للقلق، وفي ظل تباين استجابة الحكومات والمجتمعات المختلفة لهذه القضية، فإن بعض البرامج الوطنية الهادفة بما في ذلك الأبحاث التي يسمح بها بموجب معظم المعايير العلمية الموصى بها تصبح مقيدة.
الصين منافسة قوية للولايات المتحدة
في المقابل تظهر الصين كمنافسة استراتيجية للولايات المتحدة في قطاع التكنولوجيا الحيوية، وتتمتع الحكومة الصينية بإمكانية كبيرة في الوصول لبيانات مواطنيها بسهولة، واستطاعت جمع وتوحيد قواعد البيانات الخاصة بسكانها، بخاصة أنها لا تعترف بحقوق الملكية لبيانات مواطنيها مقابل احتياجات الحكومة كما لا تهتم بحقوق الملكية الفكرية الأجنبية.
وفي الوقت الذي تقدم فيه الصين صورة استبدادية في التعامل مع بيانات مواطنيها وخصوصياتهم عكس سياسة الولايات المتحدة، فإنها تدمج مختلف أنواع البيانات الشخصية في قواعد البيانات الحكومية لأغراض عدة، بما في ذلك نظام "الائتمان الاجتماعي". وأفادت الدراسة بأن الصين جمعت أيضاً مجموعات كبيرة من بيانات الرعاية الصحية من الولايات المتحدة وأمن عدد من الدول حول العالم باستخدام كل من الوسائل القانونية وغير القانونية لتعزيز اكتشافاتها الطبية الجديدة وتطوير إمكانات الطب الدقيق واستخدامات الذكاء الاصطناعي لديها، إضافة إلى تطوير العلاجات التي قد يكون لها عائد تجاري كبير، مستشهدة بما ورد عن الاستخبارات الأميركية أن اختبار ما قبل الولادة المستخدم في مختلف أنحاء العالم أتاح للصين الوصول إلى الجين الوراثي الخاص بثمانية ملايين امرأة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكدت أنه على رغم الرفض الشعبي لفكرة التحرير أو التلاعب في الجين البشري فإن الصين تسمح بإجراء أبحاث عن الجينات الوراثية، وهو ما لا يسمح به حالياً في أماكن البحث الرئيسة في الولايات المتحدة، مشيرة إلى واقعة معاقبة الصين العلماء الذين عدلوا الجينات الوراثية للتوائم، في حال مثيرة للجدل عام 2018. وأشارت إلى أن كلاً من الصين والاتحاد الأوروبي لديهما أطر سياسات قائمة معنية بإنشاء قواعد بيانات قابلة للاستخدام في الأبحاث العلمية، لافتة إلى أن الولايات المتحدة مستبعدة من قاعدة البيانات تلك، بخاصة في الاتحاد الأوروبي بعد وضعها القانون العام لحماية البيانات الذي يمنع مشاركة البيانات مع الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وأكدت أنه على رغم السياسة المتساهلة للولايات المتحدة إلى حد كبير في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي فإن الاتحاد الأوروبي والصين يبنيان مجموعة شاملة من القواعد والمعايير على المستوى المحلي تزيد من الاستبعاد المفروض ذاتياً في الولايات المتحدة، بسبب فشلها في صياغة بيئة سياسية تسهل إنشاء قواعد بيانات تتسق مع القيم الوطنية.
كيف يمكن أن تخرج أميركا من المأزق؟
وسلطت الدراسة الضوء على الجدل الدائر حول ما إذا كانت قضية التلاعب في الجينات أمراً وراثياً أم غير وراثي، وإذا كان ينعكس ذلك في الحمض النووي الموجود داخل خلايا البويضة أو الحيوانات المنوية أو الجنين، وإذا كان يتم تمريرها إلى النسل في ما بعد، مشيرة إلى أن التعديلات الجينية غير المتوارثة، والمعروفة أيضاً باسم التعديلات على الخلايا الجسدية، تحمل وعداً هائلاً لعلاج الأمراض البشرية وتسمى عموماً "العلاج الجيني"، وهو الذي يعد أمراً مناسباً إذا استمر بما يتفق مع معايير البحث الطبي الصارمة لعلاج البشر. وأكدت أن مثل هذا التقدم في هذه المجالات سيفيد المرضى الذين يعانون الأمراض السرطانية، كما من المتوقع أن تكون هذه العلاجات مصدراً مهماً للربح وفرصة لتعزيز الابتكار لدى شركات الأدوية العالمية، لكنها عادت وأثارت بعض المخاوف من تهرب مختلف الدول من التزام المعايير الطبية المنصوص عليها في الاتفاقات حال فشل عمليات التفتيش الدورية أو التدابير التقنية الأخرى لضمان التزام أي معايير بشكل موحد عالمياً. وأكدت أن من غير المضمون أن تتخلى بلدان أخرى عن استخدام تقنيات التكنولوجيا الحيوية حال قررت الولايات المتحدة لأسبابها الخاصة التخلي عن استخدام هذه التكنولوجيا.
وعلى أساس ذلك السباق الأميركي – الصيني في مجال التكنولوجيا الحيوية اقترحت الدراسة أهمية توافر استراتيجية لدى وزارة الدفاع الأميركية حول التكنولوجيا الحيوية، إذ تتضمن أولاً إجراء إصلاحات هيكلية تمكنها من دمج التقنيات المتطورة من القطاعين الأكاديمي والتجاري في مفاهيمها التشغيلية وبرامجها وميزانياتها بشكل سريع، وثانياً أن تسعى جاهدة لضمان صلابة وصحة القطاعين المدني والأكاديمي داخل الولايات المتحدة.
كما شددت على خلق بيئة تسهل إنشاء قواعد بيانات للمواطنين مع الحفاظ على القيم الوطنية للدولة، هذا إلى جانب تغيير القوانين والحوافز التي تحول دون إتاحة البيانات المهمة والتي يتعذر الوصول إليها حالياً، وإنشاء نماذج تنظيمية جديدة للشراكات بين القطاعين العام والخاص لإدارة البيانات الحساسة، وتعيين جهة حاكمة رفيعة المستوى للفصل في المشكلات التي تم تحديدها حديثاً وحلها بشكل صحيح، إضافة إلى وضع معايير دولية لتحرير الجينات الوراثية لتتمكن الأبحاث الأميركية من المضي قدماً في الاستخدامات المشروعة لتلك المعايير، ومقاومة الاستخدامات غير المشروعة من قبل الآخرين. وأيضاً عقد اتفاقات قانونية تنص على إمكانية مشاركة البيانات وتوسيع نطاق الاستفادة منها مع دول الحلفاء كالاتحاد الأوروبي.
وتحتاج حكومة الولايات المتحدة إلى تنفيذ سياسات جديدة تعمل على تطوير تقنيات التعلم الآلي والتكنولوجيا الحيوية، ولكن بطرق تتفق مع قيمها كدولة وهي القائمة على الحرية والمساواة والتنوع، مع ضرورة توفير التدريب التقني للباحثين من الدول الأقل تقدماً مع تعزيز المعايير المتفق عليها في شأن الاستخدامات المناسبة للتكنولوجيا الحيوية لضمان التزام المعايير الصحيحة للعلاج الطبي، ويمكن للمنظمات الفنية ومنظمات المجتمع المدني أن تلعب بعد ذلك دوراً في رصد مدى تنفيذ الدول المعايير.
وأخيراً طرح حزمة من السياسات والحوافز الخاصة بشركات القطاع الخاص مثل براءات الاختراع وإتاحة اللجوء إلى قواعد بيانات كبيرة من بيانات المرضى المحمية وأيضاً حق "الملاذ الآمن" لحقوق الملكية الفكرية، لتحفيزهم على مشاركة هذه البيانات مع المنظمات غير الربحية التي تبني وتدير قواعد بيانات علوم الحياة.