هو طفل يعيش داخل قوقعة، في عالم يرسم ملامحه بمفرده، ويرفض أن يشاركه فيه شخص آخر غيره، يتلعثم أو يتأخر في الكلام، أو لا يحسن التواصل البصري والاجتماعي، يحب النمطية وتكرار السلوكيات، ويرفض الجديد والتغيير. هو الطفل المصاب باضطراب (أو إعاقة) التوحد.
في المغرب لا توجد أرقام رسمية تحدد العدد الحقيقي للأطفال المصابين بهذا الاضطراب الذي يصيب النمو السلوكي والعصبي، لكن جمعيات غير حكومية تشتغل في هذا المجال تشير إلى أكثر من 300 ألف طفل مصاب بالتوحد في البلاد.
وفي الوقت الذي يكابد أطفال التوحد "عزلتهم الاجتماعية والنفسية"، تعاني أسرهم تبعات هذا الاضطراب على مستوى المدرسة وتعامل المجتمع، فضلاً عن المصاريف المالية الباهظة التي يتطلبها تحسين سلوك هؤلاء الأطفال.
مشكلة الكوادر المتخصصة
"معاناة تجر إلى معاناة مثل من يدور في حلقة دائرية مفرغة من صعوبات لا حد ولا ساحل لها"، هكذا تلخص السيدة ماريا إبراهيمي، أم لطفلة مصابة بطيف التوحد، وضع أسرتها حيال ما تستوجبه إعاقة التوحد من متابعة، وأيضاً ما تواجهه من إحباطات وانكسارات نفسية عميقة.
تقول السيدة لـ"اندبندنت عربية" إن أول المعاناة تكمن في اكتشاف إصابة طفلتها بالتوحد قبل بضع سنوات، عندما كانت تكرر حركة برأسها وجسدها من دون توقف، قبل أن تدرك أيضاً تأخرها في النطق بكلمة "ماما" بخلاف بقية الأطفال في مثل سنها.
وزادت المتحدثة بأنها ذهبت إلى اختصاصيين نفسيين، باعتبار أنه لا يوجد طبيب متخصص في التوحد، ليؤكدوا لها أن ابنتها تعاني طيف التوحد، وأن من علاماته نمطية السلوك وتكرار بعض الحركات وقلة التجاوب مع النداءات والأوامر واللعب بشكل فردي والميل إلى الأشياء الدائرية والتأخر في الكلام.
وتابعت الأم أن أول مشكلة وجدتها في طريق استشفاء ابنتها هو انعدام هذا التخصص في الطب النفسي، بالتالي كانت تضطر إلى نيل مواعيد مع اختصاصي في العلاج السلوكي، وأيضاً مع اختصاصية في النطق، واختصاصية في علم النفس الحركي.
مجموعة من التخصصات تضطر ماريا إلى طرق بابها بهدف تحسين سلوك ابنتها، بالنظر إلى أن التوحد لا علاج نهائياً له. تقول إن كثرة هذه التخصصات المتداخلة تتطلب مصاريف لا طاقة لها بها، لتضطر إلى التخلي عن بعضها والاكتفاء فقط بتقويم النطق.
معضلة التمدرس
معاناة أخرى يرويها محمد بنحمودة، موظف في قطاع خاص وأب لطفل مصاب باضطراب التوحد، إذ يقول لـ"اندبندنت عربية" إنه وجد صعوبة كبيرة في البداية بسبب بعض السلوكيات الغريبة لابنه في البيت، مثل الصراخ أو الضحك من دون أسباب منطقية.
ويكمل الأب بأن المشكلة الرئيسة التي وقفت في طريقه هي تمدرس ابنه مثل بقية أقرانه من الأطفال، إذ لم يعثر على مدرسة لتعليم ولده إلا بصعوبة بالغة، مردفاً أنه طرق باب عديد من المدارس، لكنها رفضت استقباله لدواع مختلفة ملخصها "عدم فهم واستيعاب الأطر التربوية لهذا المرض".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واسترسل بلهجة يائسة "لم أكن أنام لليال عدة بسبب الأرق الذي دهمني جراء عدم استطاعتي إيجاد مقعد لابني في المدرسة"، متابعاً بأنه تشاجر مع مديري بعض المدارس الذين رفضوا استقباله بدعوى أن الكوادر التربوية والتعليمة ليس لديهم تكوين ولا معرفة بطبيعة هذا الاضطراب.
ووفق المتحدث فإنه "بعد مسار شاق وبحث مضن استطاع أن يجد مدرسة خصوصية قبلت بابنه كأول طفل توحدي سينضم إليها في تجربة جديدة لهذه المؤسسة التعليمية"، مضيفاً أنه "بعد دخول ابنه المدرسة كان مجبراً على توظيف مرافقة مدرسية له كشرط للقبول، وهو ما زاد من أعبائه المالية ما لا يطيق".
نظرة المجتمع
وتلتقط الحديث الناشطة في إحدى الجمعيات العاملة في مجال التوحد سعيدة الداودي، لتقول إنه إضافة إلى عراقيل التخصصات التي تواكب تحسين علاج الطفل التوحدي، وعدا مشكلة التمدرس على رغم أنه حق دستوري للجميع، فإن تعامل المجتمع مع مثل هؤلاء الأطفال يبقى مشكلة قائمة ومستعصية.
وتشرح الناشطة الجمعوية لـ"اندبندنت عربية" بأنه ليس هناك أقسى على الأم من أن ترى ملامح الاستغراب أو السخرية أحياناً من الآخرين داخل المجتمع حيال سلوك ابنها أو ابنتها المصابة بالتوحد.
ووفق المتحدثة ذاتها فإن المجتمع مطالب بفهم وتفهم معنى التوحد، وكيف يتصرف الطفل التوحدي، إما عبر برامج إعلامية توعوية أو من خلال مقررات دراسية خاصة وغير ذلك، حتى لا يستغرب الناس تصرفاته، ومن ثم احتواء مشكلاته وسلوكه في إطار من التفاهم والود.
وشددت الناشطة الجمعوية على أن الحكومة مطالبة من جانبها بإيلاء أهمية أكبر للطفل التوحدي، بخاصة القطاعات ذات الصلة من قبيل وزارات الصحة والتربية الوطنية والأسرة، وجميع المتدخلين أيضاً مثل الجمعيات النشطة في هذا المجال، من أجل تقديم الدعم النفسي والمعنوي والصحي أيضاً لهذه الفئة الحساسة من الأطفال.
وأشارت الناشطة عينها إلى أن الدولة المغربية وقعت اتفاقات دولية عدة بخصوص توفير الرعاية الصحية والتعليمية للأطفال الذين يعانون إعاقات وأطفال التوحد من بينهم، بالتالي يتعين العمل على عدم التمييز بينهم وبين الأطفال الأسوياء.
برنامج حكومي
من جهتها تعترف الحكومة المغربية ممثلة في وزارة الأسرة والتضامن بوجود "نقص على مستوى الخدمات المقدمة لفائدة الأشخاص ذوي إعاقة التوحد"، كما أوصت بإدراج التكوين في مجال إعاقة التوحد ضمن أولويات السياسة العمومية.
وترى الحكومة وفق الموقع الرسمي لوزارة التضامن والأسرة أن "عديداً من الأشخاص ذوي إعاقة التوحد تمكنوا من الاندماج الاجتماعي في مجموعة من الدول ولا سيما منها الأوروبية والأميركية، بفضل برامج خاصة للتربية والتكوين والتأهيل تعتمد أساليب وطرق سلوكية أثبتت فعاليتها على الصعيد الدولي".
ووفق المصدر بادر بعض الجمعيات بدعم أجنبي في تنظيم دورات تكوينية لفائدة المهنيين وكذا لبعض الأسر المعنية بإعاقة التوحد، لكن أثر هذه المبادرات ظل محدوداً، إذ لم يتمكن عديد من الجمعيات والأسر ولا سيما المعوزة منها من تملك تقنيات هذه الطرق.
وأطلقت الحكومة البرنامج الوطني لتأهيل مهنيي التكفل بالأشخاص ذوي إعاقة التوحد، في 15 فبراير (شباط) 2019، لبلوغ أهداف رئيسة، منها "توفير خبرات ذات كفاء عالية في مجال التكفل بالأشخاص ذوي إعاقة التوحد، وتأهيل كوادر المؤسسات التربوية والصحية والاجتماعية العاملة في هذا المجال، وتمكين أفراد الأسر المعنية بالطرق والأساليب الملائمة في مجال إعاقة التوحد وغيرها من الأهداف".