يعتقد كثيرون أن عداء فرجينيا وولف لابن إيرلندا الضال جيمس جويس أمر لا لبس فيه، ولا يزال النقاد والباحثون يستشهدون بمقاطع من دفتر يومياتها ورسائلها لتأكيد تلك العداوة، ويكفي هذا البورتريه المضحك من دفترها حين أبلغها إليوت "أننا حيال عبقرية فذة وأن عوليس جويس أعظم شخصية في التاريخ"، فكتبت وولف "جويس نفسه رجل سخيف، يضع نظارة سميكة جداً، يشبه إلى حد ما شو حين تنظر إليه، ممل، متمركز حول ذاته، واثق من نفسه تماماً". هذا مع أنها لم تكن تعرف شيئاً عن شخصية الرجل المنبوذ من الجميع لأجل رواية، كما أنها لم تلتق به مطلقاً، لكن الحقيقة كانت أكثر تعقيداً من المعنى المباشر لهذه الكلمات المغتاظة.
لم يكد يمر أسبوع حتى خانها البوح، كانت تقريباً في منتصف روايتها "غرفة يعقوب"، الرواية التي أنبأت عن وعيها الجديد في الكتابة، وكان من المفترض أن يدلي إليوت برأيه في رحلة بطلها هي، لا أن يكيل لجويس المديح. كتبت تقول، "لم يقل شيئاً (تقصد عن روايتها)، لكنني فكرت أن ما أقوم به قد يكون من الأفضل أن يقوم به السيد جويس"، وهو ما جعلها تشعر بالفتور لأن محاولاتها المضنية للتجول في حياة العقل ربما تجاوزها جويس بمراحل.
سر التناقض الحاد
لم تكن هذه البداية فقط على أية حال، تأخذنا هارييت ويفر إلى مشهد قبل عامين تقريباً، وتحديداً في أبريل (نيسان) 1918، حين قدمت لها الفصول الأولى من "عوليس" على أمل أن تنشرها مطبعة هوغارث، فما كان من فيرجينيا إلا الرفض بازدراء شديد، فهي على حد قولها "رواية مملة وتفتقر إلى الحشمة". أوضحت وولف لاحقاً ما قصدته بافتقار "عوليس" إلى الحشمة، بمشهد الكلب الذي "خب إلى الأمام وقزح ببوله وقد رفع ساقه الخلفية"، ومن بعده السيد بلوم الذي يمثل "عوليس" في عود أبدي وهو يستطلق أمعاءه في بيته بينما يقرأ الجريدة.
تعترض وولف المحافظة على الرواية "أولاً هناك كلب يبول ثم رجل يتغوط، ويمكن للمرء أن يكون رتيباً حتى في هذا الموضوع"، لكنها في اليوم التالي بدت أقل شراسة في رسالتها إلى روجر فراي "تجربة ممتعة"، "يتجاهل جويس السرد ويحاول تجسيد الأفكار، لكنني لا أعرف إن كان لديه أي شيء مثير للاهتمام ليقوله، وبعد كل شيء فإن تغوط الكلب لا يختلف كثيراً عن تغوط الرجل".
عن الفصل نفسه الذي أثار حفيظة وولف، كتبت مارغريت أندرسون في كلماتها الافتتاحية في "ذا ليتل ريفيو"، "هذا هو أجمل شيء سنحصل عليه على الإطلاق، وسننشره إذا كان هذا هو آخر جهد في حياتنا"، فهل كانت وولف عمياء حتى لا ترى في حديقة جويس الرائعة، غير قليل من الحشائش الضارة.
بعد حوالى عام حين كتبت وولف ملاحظات عن الفصول السبعة الأولى من "عوليس" استعداداً لمقالتها "الروايات الحديثة"، كانت بدأت في سماع موسيقى صياغة جويس، وأحست بقوة تكراراته الرائعة، وانتبهت إلى محاولته لإعادة خلق السيولة غير المتوقعة للعقل في فعل التفكير، فأصبح لديها كثير لتقوله عن فضائل "عوليس"، وبدا لها فصل "الجحيم" أفضل ما قرأته، لكنها صدمت أيضاً بتلاعبه بالحواس.
في خضم كتابة "السيدة دالاوي"، وجدت وولف أن من الضروري قراءة "عوليس "كاملة، وصرحت في دفترها بأنها قرأت 200 صفحة بالكاد، وبقدر ما حفزتها الفصول الأولى جلبت عليها هذه الفصول، قدراً لا يستهان من الممل والارتباك، وقالت إن أملها "خاب من طالب جامعي مضطرب يخدش بثوره. واستغربت أن يشبه إليوت روايته برواية "الحرب والسلام".
بين قبعة الناقد والكاتب
مع إعادة قراءة جويس، راحت وولف تعيد التفكير في رد فعلها الأول، وتفاجأت بنفسها عالقة بين الإعجاب والنفور الشديد من "فحشه". إن صراخ ثورة جويس يثير حنقها، وكذلك عدم مبالاته المغرورة بالرأي العام، ولكنها حين ترتدي قبعة الناقد وتتحدث عما تحتاجه الرواية الحديثة، "شيء لا يفضي بالضرورة إلى حبكة... ربما لا يكون هناك دراما أو فكاهة، أو حتى مأساة، مجرد تفاصيل اليوم". يعتريها الخوف من أن يكون جويس بالفعل أملى وصفها. وهنا لا تجد مفراً من القول "ها نحن نعود إلى جويس". وحين يحضر جويس يعود إليها الارتباك والازدواجية، لا سيما بسبب ما تعتبره ادعاءه الضمني بأن "الفحش هو أكثر واقعية من أي شيء آخر". لكنها تدرك بشكل خافت، أن ما تسميه بذاءة هو بالضبط ما يقودنا إلى طريق الواقعية النفسية الكاملة. "يبدو أن الكثير يعتمد على الألياف العاطفية للعقل، قد يكون صحيحاً أن العقل الباطن يسكن في الفحش".
في "القارئ العادي" 1925، تعرف وولف مشروع جويس بشكل أكثر دقة "تفحص للحظة"، "عقل عادي في يوم عادي" ... وهي الانطباعات التي شقت طريقها في مجموعتها القصصية "الاثنين أو الثلاثاء" إلى جانب ما سبق أن رصدته عن عوليس في "الروايات الحديثة"، وهي تتجاهل "معظم الأعراف التي عادة ما يلاحظها الروائيون الآخرون. دعونا نسجل الذرات وهي تسقط على العقل بالترتيب الذي تسقط به، دعونا نتتبع النمط، مهما كان مفصولاً وغير متماسك في مظهره، والذي يسجله كل مشهد أو حادث على الوعي".
في ضوء ذلك، يجب أن نحذر أيضاً من التسليم بأن ما دفع وولف إلى تيار الوعي هو قراءتها لدوروثي ريتشاردسون، فبينما تعترف وولف بأن "حواس اللمس والبصر والسمع عند ريتشاردسون حادة للغاية"، لا تجد إلا قليلاً وراءها. بعد أقل من شهرين، توجه على صفحات "التايمز" تحية لطريقة جويس في تتبع الوعي لأنها وجدت بالفعل في عمله بالضبط ما فاتها في أعمال ريتشاردسون ، وكذلك في عمل الماديين. كتبت "على عكس الماديين، "جويس روحاني"... في قراءة أولى بأية حال من الأحوال، من الصعب ألا نشيد بـ"عوليس" على أنها تحفة فنية. إذا كنا نريد الحياة نفسها، فمن المؤكد أننا نجدها هنا. ولكن، ودائماً ما يكون هناك لكن. أما وولف فلا تمدح جويس أبداً من دون لومه في الوقت نفسه، حتى لو كان عليها أن "تتعثر بشكل محرج" من أجل هذا الاستدراك.
نهر جويس
ندرة من القراء حول العالم من حالفهم الحظ وفتحت لهم "عوليس" قلبها، هؤلاء الذين لم يحسبوا عدد الساعات والأيام والشهور وهم مستغرقون بكليتهم في تلك البانوراما الضخمة، يفككون ويعيدون التركيب بلا نهاية أو يتجولون على طول النص، قبل أن يفطنوا لسياق ما تم توسيعه على طريقة جويس شيئاً فشيئاً إلى أن اكتمل بنعومة يحسد عليها. حين أسعدني الحظ أن أكون واحدة منهم، كنت بالصدفة فرغت من ترجمة "غرفة يعقوب" الصادرة عن دار العين 2019، وجدتني أقول لنفسي، لو تسنى لي قراءة عوليس قبل ذلك لخرجت "غرفة يعقوب" في ترجمة أفضل بكثير. وحين تساءلت لماذا؟ مر ظل جويس أمامي عبر مشاهد "غرفة يعقوب" على رغم خصوصية وولف التي لا يمكن إنكارها.
بدأت وولف في كتابة "غرفة يعقوب" في أواخر كانون الثاني (يناير) 1920، وأخبرت في مذكراتها أنه يتعين عليها أن تسعى جاهدة لتجنب خطر "الذات الأنانية اللعينة، التي تدمر جويس"، وهذا ما حدث بالفعل، لكن جويس لم يكن ذاتاً أنانية وما لم تدركه آنذاك، هو بعينه الذي لم تستطع تجنبه مطلقاً.
تركت وولف تناقضها وراءها تماماً وهي تكتب "السيدة دالواي"، التي تبدأ بجملة تستحضر الفصل الأخير من عوليس، "قالت السيدة دالاوي إنها ستشتري الزهور بنفسها"، وكأن بطلة وولف المكبوتة جنسياً تردد ما تقوله مولي المحمومة جنسياً قرب نهاية عوليس، "سأذهب إلى محل السيدة لامب هناك بجوار محل فينديلا تور، وأطلب منها إرسال بعض الزهور لنا كي أضعها في البيت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كثير وكثير من الأدلة حشدتها سوزيت هينك كاشفة عن تأثير عوليس في تشكيل "السيدة دالواي"، وهو ما يعني ضمناً أنه بغض النظر عما قالته وولف أو فكرت فيه عن جويس، فإنها لم تستطع الهرب من ظله. تقول هينك عما يمثله جويس لوولف حقيقة، "الثنائي الفني"، وتضيف "حليف ذكر في معركة الحداثة من أجل الواقعية النفسية". لكن هل أعلنت وولف يوماً عن هذا التحالف؟ على رغم أن هينك تقول إن وولف "تنظر دائماً" إلى جويس بهذه الطريقة، فقد اقتربت من الاعتراف بذلك مرة واحدة فقط، عندما أخبرت في مذكراتها أن ما كانت تفعله في رواياتها "ربما كان من الأفضل أن يقوم به السيد جويس". وكتبت إلى جيرالد برينان في كانون الأول (ديسمبر) 1923 "لم يسبق لي أن أزعجني كتاب إلى هذا الحد".
بعد ذلك، باستثناء إشارة واحدة وجيزة في رسالة إلى كوينتين بيل، لم تكتب وولف شيئاً عن جويس حتى 15 يناير 1941، عندما خطت هذا في يومياتها "إذاً مات جويس، جويس أصغر مني بحوالى أسبوعين. أتذكر الآنسة ويفر، مرتدية قفازات من الصوف، تضع مسودة ’عوليس‘ على طاولة الشاي في دار هوغارث. بدت الصفحات غير اللائقة متناقضة للغاية: لقد كانت شريرة، وتناثرت الصفحات بذيئة. وضعت المخطوطة في درج الخزانة المرصعة. ذات يوم جاءت كاثرين مانسفيلد، وأخرجتها. بدأت تقرأ، تسخر. ثم قالت فجأة، إن هناك شيئاً ما في هذا: مشهد يجب أن أفترضه في تاريخ الأدب. ثم أتذكر توم في غرفة أوتولين في غارسينغتون وهو يقول - كانت قد نشرت آنذاك - كيف يمكن لأي شخص أن يكتب مرة أخرى بعد تحقيق الإعجاز الهائل في الفصل الأخير؟".
جويس المولود في دبلن، المنفي الدائم في فرنسا وإيطاليا، وولف المولودة في لندن، لم تغادر إنجلترا قط، الاستقراطية والصعلوك، ولدا بالمصادفة في العام نفسه (1882)، لكن موتهما في عام واحد لم يكن أبداً من قبيل الصدفة كما يذكر عادة. وولف هي من حددت موتها بإرادتها، وحين فشلت مرات عدة أثقلت جيوبها بالحجارة لتصبح النتيجة أن يموتا في العام نفسه (1941). وبصرف النظر إن كان هذا هدفها، فقد ارتبطا في الموت والميلاد وأقيمت المعارض لتجمعهما في مئوية ميلادهما جنباً إلى جنب. ومع كل الاتهامات الموجهة لوولف بشأن حقدها على نجاح عوليس المخيف، فهي أجابت، حين سألت في حفل عام "من هم أدباؤنا الواعدون؟"، أجابت ببساطة، "جويس".