في نهاية الأمر كان لا بد أن يأتي يوم يشاهد فيه متفرجو الكوميديا الموسيقية الأشد حماسة عملاً بعنوان "شيكاغو"، مقتبساً من تلك المسرحية التي تحمل العنوان نفسه وظهرت في عام 1926، تماماً كما أن برودواي كان لا بد في ذلك الحين أن تستحوذ على حكاية تلك الجرائم "الفاتنة" التي عرفتها عام 1924 مدينة شيكاغو، وكانت خلال النصف الأول من القرن العشرين صنواً لكل أنواع العصابات والموبقات والجرائم في أميركا بعد أن كانت سمعتها ترتبط أول الأمر بذلك العيد النبيل، عيد الأول من مايو (أيار) الذي ابتكر في العالم كله تحية للطبقة العاملة الأميركية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهنا قبل أن يصاب القارئ بالدوار أمام كل هذا لا بد من أن نعود إلى ما هو أساسي بالنسبة إلينا: المرحلة الأخيرة إذ تحولت "شيكاغو" إلى عمل فني رائع يعتبر من أنجح منتجات هذا النوع. وهو كان منذوراً لذلك أولاً لارتباطه بالمدينة التي تبدو دائماً أسطورية حتى وإن لم تعد اليوم عاصمة الجريمة في أميركا، وثانياً لأن الجريمة نفسها التي يتحدث عنها العرض والتي باتت جذورها الواقعية في ذمة التاريخ اليوم كانت جريمة لا بد لها أن تفتن الجمهور، لأن الجمهور ينبهر عادة بالجرائم التي ترتكبها النساء، وبهذا نكون قد وصلنا إلى بيت القصيد.
البداية تحقيق صحافي
ففي الأصل بدأت الحكاية من تحقيق صحافي أجرته مراسلة صحافية في شيكاغو عام 1924 حول جرائم ومجرمات ضجت بهن المدينة حينها. ولقد تحول التحقيق الصحافي بسرعة إلى مسرحية لما يتضمنه من عناصر درامية مدهشة، ولكن بعد ذلك بنصف قرن وجد الموسيقي جون كاندر والكاتبان فريد إيب وبوب فوس (المخرج السينمائي المعروف نفسه) أن الحكاية كما هي تحمل عناصر متعددة وغنية تتيح تحويل المسرحية إلى عرض موسيقي يكتفي على أية حال بالتركيز على جريمتين ومجرمتين بالتحديد. وهكذا ولد في عام 1975 ذلك العرض الذي لن يتوقف عن الدوران حول العالم منذ ذلك الحين، مقدماً حكاية المجرمتين روكسي هارت وفيلما كيلي، وهما الاسمان اللذان حملتهما في المسرح والمغناة، ثم في السينما، المجرمتان الحقيقيتان بوللا آنان وميلفا غيرتنر، بيد أن تبديل الأسماء لن يكون بالطبع التغيير الوحيد بين الواقع التاريخي والعمل الفني. وبقي أن نشير هنا إلى أنه لئن كان بوب فوس قد اكتفى في نسخة عام 1975 من العرض بالكتابة حتى عام 1977 حيث عرضت "شيكاغو" 936 مرة على "مسرح الشارع 46" النيويوركي، فإنه عاد بعد ذلك وتسلم زمام العرض كله مخرجاً ومدرباً على الرقص، معيداً إحياءه من جديد، محققاً له مجداً لم يكن متوقعاً أو مأمولاً أول الأمر، ولكن فوس ما لبث أن ترك العمل قبل رحيله بفترة لتنفض "شيكاغو" من جديد ويعاد إحياؤها في برودواي عام 1996 لتصبح موسماً بعد موسم ثاني أطول عروض الميوزيكال عمراً في برودواي بعد "شبح الأوبرا". فما الذي يفتن ويجتذب الجمهور في هذا العمل؟
جرأة غير متوقعة
الجواب السريع: جرأته، وتنويعه على نقل واقع هو في حد ذاته جريء، ولنأخذ مثالاً على هذا ذلك المشهد الذي لا ينسى والذي ترجم فنياً الجريمة التي ترتكبها شخصية روكسي والتي تسجن وتحاكم عليها وتطالب المحكمة بإعدامها لاقترافها إياها. فروكسي، وهي إحدى الشخصيتين المحوريتين في العرض وكانت في الـ23 من عمرها يوم الثالث من أبريل (نيسان) 1924 حين راحت ترقص وحدها رقصة "فوكس تروت" صاخبة وهي تضحك وتلهو طوال ساعتين قبل أن تهاتف زوجها لتخبره بكل بساطة أنها قتلت المدعو هاري كالشتدت لأنه حاول الاعتداء عليها. وطبعاً سيسرع هاري ليرى ما حدث ويقرر أن يبذل كل ما وسعه للدفاع عنها. وهو يفعل ذلك تماماً أما هي فإنها تغدر به علناً في اليوم التالي الذي يطلق فيه سراحها بفضل جهوده والأموال التي أنفقها من أجلها ما أورده موارد الإفلاس. أما فيلما مغنية الكباريه التي ستلتقي روكسي في السجن فإن جثة ضحيتها والتر لاو الذي كان قد أعلن اختفاؤه من قبل عثر عليها في مارس (آذار) من العام نفسه عند عجلات سيارتها. ولقد تبين من الدلائل المتوافرة أنها لا بد أن تكون هي من قتلته. ومع ذلك ها هما ذان المحاميان ويليام سكوت ستيوارت ودبليو دبليو أوبريان يتمكنان بفارق أيام قليلة من تبرئة المتهمتين وإخراجهما من السجن. والحقيقة أنه لئن كان الجمهور قد افتتن بالجريمتين باعتبارهما انتصاراً للمرأة "الضعيفة" على جبروت الرجل، فإنه كان ثمة افتتان أقوى بنجاح المحاميين في مهمتيهما. وكان الزمن زمن سطوة المحامين وسطوة الكلام، وهكذا لم يكن غريباً أن يصفق الجمهور في الصالات المسرحية، على خطى جمهور محكمتي شيكاغو الحقيقيتين لانتصار المرأة بفضل انتصار المحامي.
سينما صامتة وناطقة ورقابة
ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن المخرج السينمائي سيسيل ب دي ميللي كان قد سارع ومنذ زمن كانت لا تزال فيه السينما صامتة إلى تحويل الحكاية إلى فيلم. وهو تقريباً نفس ما سيقوم به لاحقاً في عام 1942 مخرج هوليوودي آخر حين يحقق فيلماً يكتفي فيه بحكاية "روكسي هارت" عنونه باسمها وأسند بطولته وكان ناطقاً هذه المرة إلى الفاتنة جنجر روجرز. والطريف أن هذه النسخة التي تحققت أيام تشدد رقابي صارم في هوليوود جعلت روكسي تحاكم وتحكم على جريمة لم ترتكبها حقا! ولسوف يكون على روكسي هارت أن تنتظر ستين عاماً أخرى قبل أن تستعيد ليس فقط مسرى حكايتها الأصلية وتنفذ من براثن الرقابة الهوليوودية، بل تستعيد أيضاً رفيقتها فيلما في سجنهما حيث تقبعان في انتظار المحاكمة ونشاط المحاميين المبرئين، وذلك في الفيلم الغنائي "شيكاغو" الذي حققه بوب مارشال عام 2002 من بطولة رينيه زيلفيغر (روكسي) وكاترين زيتا – جونز (فيلما)، فأتى متطابقاً تماماً مع المغناة كما قدمها بوب فوس، بل أتى واحداً من أكثر الأفلام نجاحاً في اقتباسه كوميديا موسيقية من هذا المستوى عند بدايات القرن الجديد. وهو في طريقه ضخ المغناة نفسها بدم جديد فعادت في هوليوود وغيرها تسجل نجاحات استثنائية.
أبعاد فكرية
وهذا يعيدنا بالتأكيد إلى المغناة وإلى عناصرها التي تناولها النقد المتحمس على الدوام، ولا سيما منذ استعادة بوب فوس زمامها حيث تمكن تدخله من إبراز عديد من المعاني، ناهيك بما أحدثه فيها من تجديد لافت في التركيز على عضوية العلاقة بين وتيرة الرقص بحيث لا يكون مجرد فن تزييني بل عنصر سيكولوجي للتعبير عما يحدث، وبين الحوارات التي تستكمل في الأغاني ولا سيما منها تلك التي تنشدها روكسي وفيلما كل منهما على حدة، ولكن معاً في مرات عدة، وتصب كلها في تعبير فكري عن علاقة كان من الصعب توقع وجودها في نوع هكذا من عمل فني يراد له أصلاً أن يكون "ترفيهياً"، ونعني بذلك العلاقة بين "العدالة" و"البيزنس" في الحياة الاجتماعية الأميركية، ولكن وعلى سبيل الاحتياط عبر سلوك درب المواربة من خلال اللجوء إلى "الفودفيل"، بل حتى إلى أقصى درجات "الفارس" (أي الهزل، كما يحدث بخاصة في مشهد الجريمة التي ترتكبها فوكسي ضد الرجل الذي حاول الاعتداء عليها كما أشرنا أعلاه. ففي النهاية على رغم كل الهول الذي فيه أتى المشهد مثيراً للضحك بل يروى أن بعض الجمهور كان لا يتورع عند مشاهدة روكسي تقوم بخطوات الفوكس السريعة وهي تنظر إلى جثة ضحيتها، عن ضبط الإيقاع معها تصفيقاً!) والسخرية من الذات التي تهيمن على أغنيات فيلما وحواراتها قبل أن يبرئها محاميها في نهاية الأمر.
لغة الأزمان الجديدة
والحقيقة أن كل هذه العناصر التي لا شك أنها تنتمي إلى ما يمكننا اعتباره فكرانية جديدة ولدت في أميركا، كما في هوليوود بالتأكيد من رحم تغيرات سنوات السبعين، تسهم في الدفع إلى اعتبار "شيكاغو" مسرحية موسيقية على حدة، مثلها في ذلك مثل "سويني تود" التي ستأتي من بعدها متسمة بجرأة وحداثة لا تقلان عما لديها، بحيث بات في إمكان مؤرخي النوع أن يتحدثوا منذ ظهور هذين العملين عن "ميوزيكال جديد لا يخلو من وقاحة وقوة تماشياً مع الأزمان الجديدة". لغة عصر ما بعد البراءة.