ملخص
في صمت متواطئ يموت الأطفال والأسماك والحيوانات والأشجار والنباتات والبساتين جراء تحويل ظالم لمجرى نهر من قوم إلى قوم، أو من أرض إلى أخرى.
من حول الماء، ومنذ فجر التاريخ، نسجت آلاف من حكايات العشق الخالدة، واندلعت آلاف الحروب الشرسة. مدن كثيرة وقرى وتجمعات سكنية ربطت أسماءها بأسماء الأنهار التي تمر بها، أو التي تجري على أطرافها، أو بأسماء منابع تدفقت ذات يوم ماء زلالاً وربما لا تزال قائمة حتى الآن.
يسجل تاريخ العمران البشري وعلم التوبونميا (toponymie La)، وهو العلم الخاص بأسماء المواقع الجغرافية، أن كثيراً من المدن والقرى والحواضر بنيت على أطراف آبار كانت ذات زمن بعيد أو قريب مصدر الحياة والفلاحة والرعي وتربية الخيل والأنعام لمجموعات بشرية مختلفة.
حاسي مسعود (الحاسي هو البئر)، حاسي عامر، حاسي بحباح، حاسي الغلة، حاسي بونيف، حاسي مفسوخ، حاسي الرمل، حاسي مما، حاسي أهل أحمد، حاسي مهادي أو بير توتة، بير مراد رايس، بير خادم، بير العاتر، أسماء في الشرق والغرب، الجنوب والشمال.
يذكرنا تاريخ المتصوفة بأن عدداً من الأولياء الصالحين أصحاب البركات هم أيضاً كثيراً ما يختارون مكاناً لرقدتهم الأخيرة بأن يدفنوا غير بعيد من نقطة ماء عمومية موجودة في آخر الدنيا وعلى أطراف جغرافية مفتوحة ومنسية.
وكما يدهش الماء الأحياء فإنه يدهش الأموات أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في بلدان الجنوب، بصورة خاصة، يعتبر الماء ثروة كبرى، كنزاً طبيعياً لا نظير له، هدية مباركة من السماء الرحيمة، ويتعامل معه بكثير من العناية والتشدد.
إن أهل السحاب كما يطلق على ساكني الصحراء من الرحل، والرجال الزرق (الطوارق) وبني مزاب وآخرين من أهل الجنوب الكبير، تمكنوا استناداً إلى رؤية حضارية وعلمية فريدة من اعتماد نظام استثنائي لتجميع الماء وتوزيعه والسقاية به، نظام صارم ودقيق يطلق عليه اسم "الفقارة". وهو نظام لتسيير شؤون الذهب الأزرق، ذكي، اقتصادي، إيكولوجي، متماه مع المحيط الصحراوي، وعادل اجتماعياً.
إن التفكير في الماء هو بالضرورة تفكير في حياة الإنسان والنبات والحيوان، ولقد شغل الماء الأدب والأديان والأساطير والاقتصاد طويلاً ولا يزال.
إن الديانات جميعها من دون استثناء، السماوية منها والأرضية، وضعت الماء في مكانة التقديس، واعتبرته منحة إلهية وطبيعية لا مثيل لها.
صورة هاجر زوجة سيدنا إبراهيم وهي تائهة عطشى في صحراء قاسية بلا ضفاف بحثاً عن جرعة ماء قادرة على حفظ حياتها وحياة طفلها إسماعيل، هذه الصورة لا تزال موشومة في ذاكرتنا. ومن هذه الصورة تشكلت سردية دينية لتاريخ المنطقة حول بئر زمزم، إذ تقول هذه السردية إن جبريل أو الطفل إسماعيل أدخل قدمه في الرمل فانفجر الماء فكانت الحياة وكانت النجاة، ولا يزال بئر زمزم حتى الآن يتدفق ماء سخياً، وفي كل سنة تجيئه ملايين من الحجاج والمعتمرين للسقاية منه، ويرحلون بمائه إلى ذويهم في أطراف المعمورة.
الماء ذهب أزرق.
الماء ذهب أسطوري.
أن تتأمل سرير نهر حي يجري فيه الماء، هذا المنظر يمنح الرائي طاقة روحية عجيبة تجعل منه كائناً في قمة السعادة على ضفاف حال من الانخطاف.
الجلوس على ضفة نهر يجري والنظر إلى سريان مجراه لحظة شعرية ورؤيوية استثنائية.
منظر الماء علاج سيكولوجي.
لا وجود لماء نائم، الإنسان وحده هو النائم منذ نوم أصحاب الكهف، الماء مستيقظ، صاح دائماً، وهو الموقظ النوام.
عشقاً للماء وتقديراً له أوجد أمازيغ شمال أفريقيا إلههم الخاص بالمطر وأطلقوا عليه اسم "أنزار"، إذ في حفلة سنوية يخرج الأهالي في بلاد الأمازيغ لإقامة صلاة خاصة بإلههم، يطلبون منه أن يسقط المطر حتى تمتلئ الأنهار وتنزل الفتيات للاستحمام فيها بعيداً من عيون الشباب الذين يراقبون المنظر من أمام ضفة النهر. هكذا تقول الأسطورة.
الماء أثمن من البترول، يا صاحبي.
يقول العلماء إن الماء لا لون له، ويصر الشعراء على أن الماء أزرق اللون.
أن تسحب دلو ماء مربوطاً بحبل من عمق بئر موجودة عند قدم شجرة تين معمرة، فتلك حركة عالية المقام لا يمكن نسيانها أبداً.
أن تشرب مباشرة ماء عذباً من دلو صاعد من عمق بئر، فهذا يمنحك سعادة ومتعة عظمى.
مع كل هذه المكانة الأسطورية والدينية والاقتصادية للماء في حياتنا في الشمال كما في الجنوب، فإننا لم ننتج أدباً كبيراً اهتم بالماء كما اهتم بالخمر مثلاً، فأدبنا فقير إزاء هذه القيمة الإنسانية الكبرى.
كتابنا، الشعراء والروائيون منهم، القدامى والمحدثون، التقليديون والمجددون، تعرضوا بكثير من الإسهاب إلى موضوع الخمر بكل أبعاده، وغضوا الطرف عن الماء، مع أنه عامل مركزي محرك للإلهام ومصدر الحياة على هذا الكوكب الجميل.
حتى صور الجنة كما قدمتها لنا الكتب السماوية مميزة وجميلة ومغرية ومثيرة بأنهارها الجارية بين أشجار الحدائق والبساتين.
ولأن الماء هو الذهب الأسطوري والكنز الذي لا نظير له، فهو أيضاً سبب كثير من الحروب الشرسة العمياء، حروب طويلة اندلعت بين القبائل، وبين الآلهة، وبين الأمم.
يحوي سجل التاريخ البشري صفحات عنف كبير وكثير، إذ تصور عمليات ترحيل شعوب كثيرة من أراضيها لا لشيء سوى لكي يضع غزاة جدد يدهم على مصادر المياه.
في صمت متواطئ يموت الأطفال والأسماك والحيوانات والأشجار والنباتات والبساتين جراء تحويل ظالم لمجرى نهر من قوم إلى قوم، أو من أرض إلى أخرى.
حروب كثيرة وبكل الأسلحة اندلعت من أجل السيطرة على منابع الماء، حروب لا سابق لها.
بعض حروب الماء قائمة الآن من دون أن تقول اسمها، بين تركيا والعراق، بين تركيا وسوريا، بين الأردن وإسرائيل، بين إسرائيل وفلسطين، بين مصر وإثيوبيا، بين السودان وإثيوبيا.
هذه الحروب التي لا تقول اسمها اغتالت أنهاراً وبساتين وكائنات كثيرة، وهي مستمرة في تدمير الحياة والإسهام في التغير المناخي الكارثي.
ليست الحياة حول الماء وردية دائماً، ليست خضراء دائماً.
أمام الخوف الذي سكن السيدة هاجر أم إسماعيل وهي تائهة في الصحراء، وسكن الأمازيغ وهم يصنعون إلهاً للمطر، وسكن أولياء الله من ذوي البركات فرقدوا قدام النبع، وسكن الطوارق وهم يجوبون الصحراء الكبرى. أمام هذا الخوف العميم توجه الإنسان إلى ماء البحر المالح كمصدر آخر غير مصدر ماء المطر أو مياه الأنهار العذبة.
ما في ذلك شك في أن ماء البحار مالح، لكن بفضل عبقرية التكنولوجيا ها هو يتحول إلى ماء عذب محلى يصل إلى الصنابير في بيوتنا.
ها هي البحار المالحة أصبحت سخية، ومن خلال آلاف مصانع تحلية الماء أصبح الماء الصالح للشرب والسقي متدفقاً أكثر فأكثر نحو البساتين والعصافير والخيول والنحل والنساء والأطفال والرجال.
فهل ستقوم حرب أخرى على ماء البحر المالح بعد أن دارت حول الماء العذب، أم أنها قائمة أصلاً؟