يقول الكاتب المسرحيّ الإرلنديّ جورج برنارد شو إنّك إن أردت إطلاع الناس على الحقيقة فلا بدّ من أن تضحكهم لئلاّ يقتلوك. فالإضحاك فنّ من الفنون المتعارف عليها بين الشعوب وهو، عدا عن الإضحاك والتسلية، يهدف إلى التوعية وكسر المحظور ولفت الانتباه إلى الوظائف الاجتماعيّة التي بها خلل. وهذا بالتحديد ما تقوم به الكوميديّة الفرنسيّة الشهيرة كارولين فينيو في عرضها الجديد "كارولين فينيو تقضم التفّاحة" (Caroline Vigneaux croque la pomme). فبعد عرضيها الأوّلين عامي 2009 و2011، تعود هذه الشقراء الشابّة المليئة بالحيويّة والسخرية إلى خشبات المسرح الفرنسيّ بعرض جديد فيه ما فيه من صدمة اجتماعيّة وتوعية ثقافية وزعزعة للركود الذي قد يكون مقيمًا في بعض المتفرّجين. تعود كارولين فينيو للتحدّث في شؤون المرأة والظلم الذي تعرّضت له منذ البداية حتّى يومنا هذا. ظلم أُنزِل على المرأة دون غيرها لمجرّد أنّها قضمت تلك التفّاحة المشؤومة.
من السخرية إلى المقاومة الثقافيّة
ليست فينيو كوميديّة هاوية تعمل على عنصر الإضحاك وحده، بل هي في الأصل محامية وامرأة نالت أرفع الشهادات القانونيّة وعملت في هذا المجال وعاينت في مسيرتها العمليّة الكثير من المشاكل الاجتماعيّة وقصص الظلم ما دفعها إلى اعتلاء خشبة المسرح ومشاركة آرائها وخبراتها مع جمهورها. وتظهر ثقافة فينيو عبر طريقتها في الإضحاك والسخرية، فهي لا تفوّت دقيقة من عرضها من دون أن تقدّم معلومة للمتفرّج أو خبرًا أو شيئًا قد يكون قد خفي عليه وذلك بطريقة سلسة مضحكة وثاقبة.
وعرض فينيو الذي يستمرّ حوالى الساعة ونصف الساعة مليء بالعودات إلى الوراء والاستشهادات بالمراجع القانونيّة. وتشكّل بسخريتها الفذّة وطريقتها المتماسكة في سرد الأخبار، جبهة مقاومة جديدة ضدّ الجهل والرضوخ الاجتماعيّ والعمى الثقافيّ.
"نعم! أنا امرأة، أنتمي إلى هذه الفئة التي يتحكّم بها الرجل". يظهر منذ بداية نصّ فينيو أنّها ستركّز على المرأة وعلى الظلم الذي تتعرّض له، وهو تمامًا ما تفعله إنّما بطريقة ذكيّة قانونيّة علميّة متماسكة. فتعود فينيو بجمهورها إلى البداية وتبدأ بسرد مجريات التاريخ المجحفة بحقّ المرأة. فتتناول أوّلاً قصّة الخلق، ثمّ تنتقل إلى العصور الوسطى فالثورة الفرنسيّة فسلسلة القوانين التي مرّت بتاريخ فرنسا والعالم والتي تشكّل مهزلة اجتماعيّة إنسانيّة.
وعدا عن تاريخ فرنسا، تتطرّق فينيو إلى أزمة حقوق المرأة في العالم وتقارن القوانين وتاريخ سنّها بين الدول. فتتوقّف عند مسائل ما زالت حتّى اليوم تشكّل قضايا اجتماعيّة بالغة الأهمّيّة، كحقّ المرأة في الإجهاض، وحقّها في تلقّي العلم، وحقّها في المشاركة في الحياة السياسيّة، وحقّها في نيل راتب يساوي راتب الرجل عندما تكون الوظيفة نفسها. ولا تتوانى في إلحاق صدمات هائلة بجمهورها فتبيّن كيف أن تركيا وتونس منحتا حقّ التصويت للمرأة قبل فرنسا، وكيف أنّ فرنسا لم تمنح الحق القانونيّ للمرأة لارتداء السروال (البانتالون) إلاّ حتّى العام 2013 وهو فعليًّا أمر دقيق أثار في حينها ضجّة هائلة.
كما وتقدّم فينيو تحيّة لكبار نساء التاريخ، أولئك اللواتي قاومن الظلم وجاهدن من أجل إحقاق الحقّ والعدالة كمثل الرائدة في هذا المجال التونسيّة جيزال حليمي، وكذلك سيمون فايل، وواضعة حقوق المرأة أوليمب دو غوج، وطبعًا رئيسة الوزراء الوحيدة التي مرّت على تاريخ فرنسا إديث كروسون، إلى جانب أبرز نساء الأدب كسيمون دو بوفوار ومارغريت يورسنار ومارغريت دوراس وغيرهنّ. وفي لفتة ذكيّة منها تتطرّق كارولين فينيو إلى قضيّة المحامية الإيرانيّة المدافعة عن المرأة وحقوقها في إيران والتي تتعرّض للتنكيل والاضطهاد والتعذيب المحامية الإيرانيّة نسرين ستوده. فنسرين ستوده محامية إيرانيّة تتولّى الدفاع عن النساء اللواتي يرغبن في التحرّر داخل إيران وهو أمر خطر أودى بها إلى السجن مسبقًا. لكنّ ذلك لم يردعها، فبعد خروجها من السجن أكملت ستوده مسيرتها المجاهدة من أجل مساعدة النساء الإيرانيّات الأخريات إنّما أعيد اعتقالها وجرى حكم بجلدها وسجنها ومنعها من مزاولة مهنتها لسنوات عديدة. وستوده ما زالت في يومنا هذا في السجن دفاعًا عن أبسط حقوق المرأة الإيرانيّة.
الحقوق بين المراة والرجل
إنّه الواقع للأسف الشديد. وعلى أنّ فينيو تنقله بسخرية لاذعة إلاّ أنّ المأساة موجودة ومؤلمة وما زالت في دول كثيرة تكلّف النساء حياتهنّ. تفّاحة واحدة كلّفت النساء حرّيّتهنّ ومكانتهنّ وكثيرًا من حقوقهنّ. فتقول فينيو بشكل صارم وواضح وبسيط: " أن يكون المرء مدافعًا عن حقوق المرأة يعني أن يريد لها حقوق الرجل نفسها في مجمل المجالات وفي مختلف دول العالم." وهي عندما تقول هذه الجملة يظهر الأمر بسيطًا. بسيط أمر منح المرأة حقوقًا تكون هي نفسها حقوق الرجل، فهو ليس مطلبًا مستحيلاً أو متعثّرًا، إنّما لماذا هذا التعقيد في التنفيذ؟ حتّى الاغتصاب الذي لا يمكن إلا أن يكون جريمة إنسانيّة اجتماعيّة متوحّشة، لا يزال في مناطق متعدّدة من العالم لا ينال مرتكبه العقاب الذي يستحقّه.
في جوّ رائع من الإلفة والظرف والأناقة في الكلام والتعبير، تقدّم كارولين فينيو عرضًا جميلاً مثرياً متماسكاً، هو في الوقت نفسه مسلٍّ ومثقّف وهي وظيفة الإضحاك في أبهى حلله. تقدّم فينيو ساعة ونصف ساعة من الضحك والفكاهة والظرافة متعرّضة للتابوهات الاجتماعيّة من دون أن تتخطّى حدود اللباقة والكياسة في نكاتها، ومن دون أن تحوّل فنّ الإضحاك إلى شيء مبتذل، وهو أمر يحدث في أيّامنا هذه. فيخطئ الكوميديّ عندما يظنّ أنّه بإغراقه في استعمال المبتذل من التعابير والطُرف ينال رضى الجمهور. إنّ فنّ الإضحاك فنّ أنيق يقوم على الحنكة والخفّة والتفاعل مع الجمهور والرغبة في حثّ الآخر على التفكير والضحك في الآن نفسه. سرد النكات أمر قيّم ومفيد وبخاصّة في مجتمعاتنا التي هي في أمسّ الحاجة إلى مراجعة أخطائها. سرد النكات بحدّ ذاته فنّ يمنح الجمهور هبة مراقبة هفواته لتصحيحها.