هذا فيلم لا يشبه معظم الأفلام التي تأتينا من السينما الإيرانية، على الرغم من بعض التنوع الذي طرأ عليها في الأعوام الأخيرة. مخرجه هومن سيدي (41 عاماً) يسير في خط بديل، مواز، مغاير… اعتبره ما تشاء، ولكن ليس فيلمه السادس "حرب عالمية ثالثة" (فاز بجائزة "أوريزونتي في مهرجان البندقية الأخير) الدراما الاجتماعية التقليدية التي تأخذ من إيران مسرحاً لها. كدت أقول إن النص بعيد من السياسة، لكن هذا القول سيكون مجحفاً في حق المخرج وتجاهلاً لحقيقة أن كل شيء سياسة في النهاية، خصوصاً في بلد مثل إيران، حيث شربة مياه قد تحمل بعداً سياسياً. أما النتيجة فهي مزعجة للمشاهد ومضللة لتوقعاته في كثير من الأحيان.
شكيب (محسن تنابنده- أفضل ممثل في البندقية- قسم أوريزونتي)، بطل الفيلم هو بطل مضاد، شخص لا حول له ولا قوة، لا يملك مسكناً ولا عملاً ثابتاً ولا عائلة. الأخيرة قضت في زلزال. تلك الفجيعة جعلته جسداً بلا حياة. لم يتغلب على ذكراها الأليم. ألم لا يحتاج إلى أن يرويه، ذلك أن وجهه يحمل معالمه، مهما كان الحال الذي هو فيه، وهو عموماً، لن يجد نفسه في كثير من الأحوال المختلفة، هذا الرجل هو محور الفيلم وحاضر في كل لقطاته، ومن خلاله سنكتشف بقية الشخصيات والأجواء والحكايات. أقل ما يمكن القول إن المخرج سيمرغه في الوحل ولن يبقى له ما يستنجد به. لا شيء يستأنس به سوى اللقاء بلادان (مهسا حجازي)، فتاة الهوى، الصماء البكماء التي طور حيالها مشاعر عاطفية إنسانية على مدى السنتين الماضيتين، وهو يرى فيها خلاصاً من حياته التي باتت بلا معنى أو هدف بعد أن خسر ما خسره.
تبدأ سلسلة الكوابيس مع توظيف شكيب في فريق تصوير فيلم أخرق تجري أحداثه خلال الحرب العالمية الثانية، ويظهر جرائم هتلر الذي يتسكع على البلاتو بمظهر لا يخلو من الكاريكاتيرية، عابساً في وجه الكاميرا ليبدو شريراً. السينما الإيرانية التي لها في سجلها كثير من الأفلام التي تنطوي على تقنية "فيلم داخل فيلم"، واضعة إيانا حيناً في كرسي المتفرج وحيناً في كرسي الشخصية، ترينا هنا كيف يستخدم عمال بناء أميون وفقراء ككومبارس، ويزجون داخل مشهد غرف الغاز، من دون أن يخبرهم أحد، أنهم سيظهرون في الفيلم الذي يتم تصويره.
إلا أن ما يحدث بعد ذلك يدخلنا في جو مختلف شديد المأساوية: الممثل الذي يلعب دور هتلر يتعرض لانتكاسة صحية، فيقترح المخرج على شكيب أن يحل مكانه، هو الرجل البسيط الذي يعيش على مبدأ أعطني خبزي كفاف يومي. وبعد أن تم توظيفه كعامل بناء لديكور معسكرات الاعتقال، يجد نفسه من حيث لا يدري يلبس زي هتلر ويضع شاربيه الأسطوريين... من دون أن يعرف حتى من يكون هتلر! لكن بدءاً من تلك اللحظة وصعوداً، ينزل عليه غضب الآلهة بسادية لا مثيل لها. الفرصة التي يعتقد أنه نالها، على الرغم من إحساسه المتعنت أنه لا يستحقها، ستتحول بسرعة إلى مصيبة تفتح أمامه أبواب الجحيم.
يقول المخرج هومن سيدي في الملف الصحافي للفيلم: "كتبت هانا أرندت ذات مرة إن كل شيء في الديكتاتوريات يسير كما ينبغي حتى 15 دقيقة قبل الانهيار التام. المجتمعات التي تحكمها مثل هذه الأنظمة الشمولية أكبر مخترعة للفوضويين. لطالما تساءلت عن المدة التي يمكن أن يستمر فيها الطغيان والقمع في العالم، ومن هم الناس الذين سيسحقهم الحكام الأقوياء في مثل هذه المجتمعات المبتلاة بهم. إنهم الأشخاص الذين يقاتلون بأسنانهم وأظفارهم للحصول على احتياجاتهم الأساسية - المنزل والوظيفة والأسرة، ولكن ينتهي بهم الأمر بالحصول على لا شيء سوى واجهة زخرفية ومصطنعة. سيكون هناك دائماً أولئك الذين لديهم القدرة على العطاء، وأولئك اليائسون بما يكفي لتلقيها. وستستمر هذه الحلقة المفرغة حتى 15 دقيقة قبل الانهيار التام - ثم تستأنف بعد فترة وجيزة…".
يظهر في هذا التصريح بعض مما يريد المخرج قوله عن السلطة والمظاهر والخداع. وخصوصاً عن تلك السطلة التي تبقى هي هي، مهما اختلف الزمان واختلف المكان، لكن انهيار المنظومة آت لا محالة، والفيلم يصور الصعود والانحطاط بإحساس يبعث على القلق والخوف. المفارقة أن الرقابة الإيرانية لم تلتفت إلى ما يحمله الفيلم من نقد- على نحو غير مباشر– للسلطة، وأيضاً للمجتمع الذي يصوره من خلال أعضاء فريق التصوير، وحشاً ضارياً، حيث لا مكان للرأفة وتقبل الاختلاف. فالنقد في الفيلم أرفع شأناً من أن يكون محسوساً ومقروءاً. والأغرب أنه تم ترشيح الفيلم لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
جملة أخرى، هذه المرة لمارك تواين، قد نجد فيها بعضاً مما يشرح فكر الفيلم، وهي مقترحة في مطلعه: "التاريخ لا يعيد نفسه، ولكن غالباً ما يتناغم". أن الفوضى التي يرسو عليها الفيلم في الختام، لا بد أن تمارس سطوتها على المشاهد. فهي تحمل كماً من العنف والعدوان اللذين يصبحان في يد من لم يعد لديه شيء يخسره سلاحاً فتاكاً، على مبدأ "علي وعلى أعدائي". إنها لحظة سيتحول فيها الضحية إلى جلاد ليدخل التاريخ من بابه الواسع. والعنوان ليس بريئاً، بل يستشف ما ينتظرنا من توترات وحروب وانقلابات في بيئة يسيطر عليها القمع والابتزاز، والقتل إذا ما احتاج إلى ذلك. وما نراه في شوارع طهران هذه الأيام ليس سوى بروفة أو تمرين على ما سيأتي لاحقاً.