ساقتني الظروف خلال فترة عملي سفيراً لمصر في العاصمة النمساوية ومندوباً مقيماً لها لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومنظمات الأمم المتحدة الأخرى فيها، لتصبح فرصة كي أغوص في أعماق ذلك البلد الأوروبي الصغير الذي يتميز بالتراث الموسيقي الكلاسيكي الهائل والاهتمام بالسلعة الثقافية قبل غيرها، والتقيت في تلك العاصمة الجميلة شديدة النظافة دقيقة التنظيم برئيس جمهوريتها السابق (كورت فالدهايم) الذي شغل قبل ذلك منصب الأمين العام للأمم المتحدة لدورتين متتاليتين، وكنت ألتقيه خلال سنوات التقاعد في مقهى (موزارت) وسط المدينة، وقد حدثني كثيراً عن السفير إسماعيل فهمي الذي كان نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للخارجية في مصر خلال سبعينيات القرن الماضي، وكيف أن فهمي قد ساعد فالدهايم في الوصول إلى المنصب الدولي الرفيع عندما كان فهمي رئيساً للجنة السياسية بالجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفتح معي فالدهايم صندوق الذكريات بمناسبات مختلفة وكيف أن اليهود في الولايات المتحدة قد ناصبوه العداء واتهموه بالخدمة مع الجيش النازي، وهي تهمة يؤكد هو براءته منها تماماً، على الرغم من أنه قد أصبح ممنوعاً من الدخول إلى الأراضي الأميركية في السنوات الأخيرة.
وأضاف أنه أعد كتاباً بالألمانية يدحض التهمة النازية عن نفسه ويبرئ تاريخه منها، وقال لي إنه يفكر في ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية وإن الذي نصحه بذلك صديق عربي مشترك وهو الطبيب الفلسطيني الشهير عصام الخضراء الذي تربى في سوريا ويعد من أعمدة الوجود العربي في النمسا.
اقترح علي فالدهايم مباشرة أن أقرأ الترجمة العربية وأن أعد مقدمة لكتابه الذي أصبح عنوانه (الرد) والمقصود به الاعتراض على المزاعم التي تتهمه بالتعاون مع الحكم النازي، وقد فعلت ذلك من خلال مقدمة مطولة قرأت له معظم أجزائها مترجمة بالإنجليزية فوافق عليها وأبدى سعادة بها وتوطدت العلاقة بيني وبين ذلك السياسي الدبلوماسي النمساوي الكبير الذي كان يكن للعرب عموماً ومصر خصوصاً مودة وتقديراً واضحين، وبلغ من توثق العلاقة بيننا أنني كنت أسعد بوجوده معي في سيارتي لتوصيله في بعض الأمسيات إلى منزله القريب من مسكني في فيينا.
وقد صدرت الترجمة العربية للكتاب وتركت أثراً إيجابياً في الدفاع عن ذلك السياسي الكبير في سنوات عمره الأخيرة، ولقد علمتني الحياة أن مشاهير الناس والعظام بين البشر يتجهون إلى التواضع والبساطة مع تقادم العمر وزوال السلطة فتكون لديهم شهية للأحاديث الطويلة يلوكون ذكرياتهم ويتحدثون عن أمجادهم، ولقد عرفت من هذا النمط عشرات الكبار وأدركت أن دورة الحياة تبدأ ببراءة الأطفال وتنتهي بطيبة المعمرين الذين تتغير نظرتهم للدنيا وتتبخر أحلامهم الواسعة ليعيشوا سنوات الواقع في نهاية رحلة العمر تحت ظل البرودة الشديدة التي يجسدها الزمان قرب النهايات، ولعلي أسجل هنا بعض الملاحظات المتصلة بعلاقتي بالسكرتير العام السابق للأمم المتحدة الذي لم أعرف غيره إلا د. بطرس بطرس غالي الأمين العام الذي دخل الأمم المتحدة من بوابة التميز الأكاديمي والتفوق الصحافي والخبرة السياسية فكان ابناً باراً هو الآخر لمصر وللعروبة وللقارة الأفريقية، وتكمن هذه الملاحظات في ما يلي:
أولاً: عند انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة وشيوع مشاعر التخوف من المد الشيوعي وانتشار التطبيق الماركسي في كثير من دول القارات المختلفة أدى ذلك كله إلى فوبيا من نوع خاص عرفتها الحياة السياسية الأميركية وأعني بها ذلك التيار (المكارثي) الذي يعتمد على تخويف الأميركيين وإرهاب بعضهم من المهتمين بقبول الفكر الاشتراكي، ولقد ظل هذا الاتهام سيفاً مسلطاً على كل من تلوح منه احتمالات قبول التطبيق الشيوعي أو التعاطف معه وأصبحت (المكارثية) فزاعة في مواجهة الشعب الأميركي وغيره من الشعوب المتحمسة للتحول الاشتراكي الراغبة في مواصلة المسيرة.
ثانياً: إن الشعارات المطروحة في عالم اليوم هي جزء من المشكلة لأن العقل الجمعي يتكون في النهاية من مجموع ملاحظات الأطراف العارفة التي تدرك الإطار الواسع للعلاقات الدولية المعاصرة والتشابك الشديد بين أطرافها والتنابذ بشعارات هي تصب كلها في خطاب الكراهية الذي يسيء إلى الأمم ويشوه الديانات ويعصف بالتسامح الإنساني والتعايش المشترك، ولا شك أن نموذج فالدهايم وما كان يعانيه في سنوات عمره الأخيرة هو خير دليل على ما نقول، وعلى ذلك فإن الشعارات الجديدة الجوفاء مثل العداء للسامية أو الإسلاموفوبيا وغيرهما هي أنماط من الجموح الفكري الذي يجب أن نتعامل معه في أضيق الحدود وبأصدق النوايا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالثاً: إن مجيء فالدهايم من دولة النمسا المحايدة ولو شكلياً يختلف عن مجيء بطرس غالي القادم من بلاد الصراع الشرق أوسطي والمشكلة الفلسطينية بتداعياتها المعروفة وأبعادها المعقدة وآثارها الضخمة، لذلك شكك كثيرون في إمكان وصول عربي إلى ذلك الموقع الدولي الكبير، ولكن دعم بعض الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن خصوصاً فرنسا كان له تأثيره في وصول تلك الشخصية الكبيرة إلى الموقع الذي بلغته في ذلك الوقت، ولا زلت أتذكر أن المعلق السياسي لـ"بي بي سي" قال يوم فوز بطرس غالي بالمنصب، "إنه عربي وليس مسلماً، أفريقي وليس أسود، مصري وليس فقيراً"!
وكأنما كانت هناك محاولة لتجريد ذلك الأمين العام المقبل من الوطن العربي من كل ميزاته في محاولة لكسر شوكته من البداية على غرار ما أصاب كورت فالدهايم قبله، فالقوى الكبرى تسعى دائماً إلى خلق فزاعات لأصحاب المناصب المؤثرة والمواقع الدولية المهمة حتى تكون خدماتهم متاحة لأصحاب المصالح، طيعة أمام الأقوياء، وهل ننسى أن بطرس غالي قد فقد منصبه ومعه 14 دولة مؤيدة لبقائه من 15 دولة هم أعضاء مجلس الأمن، بينما حاز المنصب في أول مرة بـ11 دولة فقط، لكن الفارق بين الحالتين (عند دخوله وعند خروجه) أن الدول الخمس الكبرى وافقت عليه ضمن الـ11 عضواً، بينما استخدمت الولايات المتحدة الأميركية وحدها حق "الفيتو" ضده بما أدى إلى إنهاء خدمته لأنه تجرأ وخرج عن النص ونشر تقرير مأساة (قانا) بكل ما كان فيها من فظائع وآلام.
رابعاً: إنني شخصياً لا أنكر (الهولوكوست) تاريخياً وأعترف أنه حقيقة، ولكنه ليس مبرراً لكي يحيا الفلسطينيون في الجحيم عبر السنين، لذلك فإن النظرة المنصفة هي التي ترى الأمور بعيون عادلة وتدرك الفارق بين الأوهام والحقائق وتضع الأمور في نصابها الصحيح ولا تسمح بالشطحات التي تؤدي إلى تكريس العنصرية وتبرير الظلم، ولا شك أن نموذج كورت فالدهايم ومن بعده بطرس غالي مع الفارق بين الحالتين يجسدان محنة التنظيم الدولي المعاصر وقدرة حلف المنتصرين، وأعني بها الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن على فرض إرادتها على بقية دول المجتمع الدولي حتى لو امتلكوا الأغلبية، وكأن على المجتمع الدولي أن يدفع الضريبة الدائمة لنتائج الحرب العالمية الثانية ويبقى دائماً كالأسير في قبضة حلف المنتصرين.
خامساً: إن الحياة السياسية والدبلوماسية هي نمط يحتاج إلى سعة الأفق وبعد النظر والقدرة على التمييز بين الأمور والارتفاع فوق القوميات والمشاعر الشيفونية والأفكار التي تدعو أصحابها إلى الإحساس بالتميز الظاهري والتفوق الوهمي على الآخرين، بخاصة أن الإنسانية في ظل الأخطار الجديدة التي تحيط بها تجعلنا جميعاً في قارب واحد قد لا ينجو منه أحد.
هذه أفكار وهواجس دفعت بها إلى السطح ذكريات علاقتي بالأمينين العامين للأمم المتحدة خصوصاً كورت فالدهايم الذي تجسد حياته توصيفاً دقيقاً لحالة التشدد الناجم عن خطاب الكراهية المتبادل وغياب الثقة المفقودة وتحويل عالم الأحلام إلى ركام من الأوهام!