كل نشاط مرتبط بالحياة العصرية مهما بلغ حجمه، بدءاً من التنمية وصنع الأشياء إلى التنقل من مكان إلى آخر، ينطوي على إطلاق الغازات الدفيئة، ومع مرور الوقت وازدياد عدد الأفراد المنضمين إلى أسلوب الحياة الحديث هذا، سيحتاج العالم إلى توفير مزيد من الطاقة حتى يفسح في المجال للبلدان الفقيرة لتزدهر وتنمو.
لكننا في الوقت نفسه بحاجة إلى القيام بهذه العملية من دون إطلاق مزيد من الغازات الدفيئة، وإلا سيستمر العالم في إنتاج غازات الاحتباس الحراري وهذا يعني استمرار التدهور المناخي، مما سينعكس على البشر بشكل كارثي، بحسب بيل غيتس، إذ يطرح مؤسس وصاحب شركة "مايكروسوفت" في كتابه "كيف نتفادى كارثة مناخية" العديد من التساؤلات ويجيب عليها بطريقة مبسطة، منطلقاً من فكرة أنه لتجنب كارثة مناخية علينا الانتقال من 51 إلى صفر إنتاج للغازات الدفيئة مع الاستمرار في تلبية الحاجات الأساس للكوكب، فنحن البشر نضيف وننتج سنوياً مما يصل إلى 51 مليار طن من الغازات الدفيئة كل عام، جراء نشاطاتنا البشرية المختلفة مما يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة وما يرافقها من تغيرات مناخية، وهذا يعني أننا بحاجة إلى تغيير الطريقة التي نفعل بها كل شيء تقريباً.
من 51 إلى صفر
ومن المهم معرفة هذين الرقمين لأنهما مرتبطان بشكل أساس في قضية التغير المناخي، بخاصة الاحتباس الحراري الذي تسببه انبعاثات الغازات الدفيئة مثل الميثان وبخار الماء وغيرهما، إضافة إلى ثاني أكسيد الكربون، والتي تقوم بامتصاص الحرارة وتخزينها في الغلاف الجوي، تماماً كحال السيارة المعرضة لضوء الشمس المباشر مدة طويلة، إذ ستنفذ أشعة الشمس إلى الداخل من خلال الزجاج الشفاف ليبقى جزء من حرارتها محتبساً فيها حتى يتم تحرير هذه الطاقة.
فالرقم 51 ملياراً هو عدد أطنان الغازات الدفيئة التي يضيفها العالم إلى الغلاف الجوي كل عام، وعلى رغم أن هذا الرقم كان يرتفع أو ينخفض قليلاً من سنة إلى أخرى، إلا أنه استمر بالازدياد بشكل عام، حتى وصلنا إلى المكان الذي نحن فيه اليوم، أما الصفر هو ما نحتاج إلى تحقيقه كمحصلة لوقف الاحتباس الحراري وتجنب التأثيرات الأكثر سوءاً لتغير المناخ، والتوقف عن إضافة مزيد من الغازات الدفيئة إلى الغلاف الجوي.
ويرى بيل غيتس أن من غير الحكمة الدعوة إلى تقليل الرقم فقط، بل يجب الوصول إلى الرقم صفر "كمحصلة"، وشبه المناخ بحوض الاستحمام الذي في حال ما ترك صنبور الماء فيه مفتوحاً وظل يتلقى الماء تدريجياً وبشكل مستمر على شكل نقاط صغيرة، فهو سيمتلئ ببطء وفي النهاية سيفيض مهما طال الوقت وسيتدفق الماء على الأرض، فالحل إيقاف التدفق تماماً لينخفض صافي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون العالمية إلى الصفر الصافي بحلول عام 2050.
الأسمنت المتهم الأكبر
ويمثل النشاط الصناعي (الأسمنت والفولاذ والبلاستيك) حوالى 31 في المئة أي ثلث الإنتاج البشري من الغازات، بينما تشكل الكهرباء 27 في المئة وتنمية النباتات والمواشي 19 في المئة، والتجول والنقل (الطائرات والشاحنات وسفن الشحن) 16 في المئة، والتدفئة والتبريد والتثليج سبعة في المئة، مع الإشارة هنا إلى أن الكهرباء على رغم أنها تشكل 27 في المئة من المشكلة، إلا أنها يمكن أن تشكل 27 في المئة من الحل أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن إنتاج الأسمنت ينتج وحده ما يقارب ثلث قيمة النشاط الصناعي، وهي قيمة مرتفعاً جداً إذا ما شكلتها صناعة واحدة، ويفسر سبب ارتفاع هذه النسبة بأن هذه الصناعة تحتاج إلى الكالسيوم الذي يتطلب إنتاجه حرق الحجر الجيري، وهذا الحجر يصدر ثاني أكسيد الكربون أثناء حرقة، وبالتالي عملية إنتاج الأسمنت مرتبطة بشكل حتمي بإنتاج ثاني أكسيد الكربون، وهنا نحتاج طرق جديدة مبتكرة في البناء واستخدام مواد بناء أخرى أو ربما إيجاد طرق أخرى لإنتاج هذه المادة نفسها.
المساحة المطلوبة
ثم يطرح غيتس فكرة أن الرغبة في التوجه إلى الطاقات البديلة لا يعني الانسياق وراء أي حل رائج من دون دراسة جدواه علمياً وفعلياً على أرض الواقع، فبغض النظر عن نوع المصدر الذي سيتم اعتماده لإنتاج الطاقة، سواء كان مصدراً شمسياً أو نووياً أو باستخدام الوقود الأحفوري أو الرياح أو السدود "الهايدرو" أو حتى الخشب وغيرها، فنحن بحاجة إلى معرفة المساحة التي تتطلبها هذه العملية في ضوء معادلة كثافة الطاقة وهي كمية الطاقة المنتجة في وحدة المساحة، وبهذا نحدد مدى جدوى وفاعلية الطريقة المقترحة من الناحية العملية، أي كم يلزم من مساحة فعلية على الأرض لتطبيق هذه الطريقة، فربما نحتاج إلى تزويد مدينة ما بالطاقة بالاستعانة بأحد المصادر المطروحة لاستخدام مساحة المدينة كاملة، إضافة إلى ضرورة درس مدى فاعليتها خلال فترات اليوم بين النهار والليل وتبدلات الفصول، وكيف تتفاعل مع العوامل الجوية والكلفة والصيانة اللازمة وغيرها.
ومن بين معظم الطرق المطروحة الآن، لا يزال الوقود الأحفوري يحقق المرتبة الأولى من بين مصادر الطاقة الموجودة، إذ يولد حوالى 500 إلى 10000 واط لكل متر مربع، بينما النووي يولد ما بين 500 و1000 واط، يليه الشمسي ثم "الهايدرو" فالرياح، وأخيراً الخشب وغيرها.
يذكر أن الكيلوواط يشكل منزلاً واحداً، وبالتالي الميغاواط (1000 واط) يشكل مدينة صغيرة، والغيغاواط (1000 ميغا) مدينة متوسطة، ومئات الغيغاواط تمثل دولة كبيرة مثل الولايات المتحدة الأميركية و5000 غيغاواط هو العالم كله.
فرق القيمة النظيفة
والسؤال التالي هو كم ستكون كلفة هذا التحول وما مدى تناسبها مع الدول النامية والفقيرة، وهنا يقدم بيل غيتس مفهوم Green Premium أو فرق القيمة النظيفة لحساب الكلفة، وهو الفرق بين قيمتين هما سعر المصدر النظيف أو الأخضر، وسعر المصدر المولد للانبعاثات الكربونية، مثلاً في حال كان غالون واحد من وقود الطائرة يكلف دولارين بينما غالون الوقود الحيوي الحديث (المصدر النظيف) يكلف خمسة دولارات، وهنا فرق القيمة يكون ثلاثة دولارات بالغالون أي 150 في المئة، وهذه القيمة غير ثابتة بل تتغير تبعاً لمتغيرات السوق والتطور والعرض والطلب والتسويق وغيرها كثير.
ويطرح خطوة أولى لتجاوز هذه العقبة من خلال التركيز على خفض هذه القيمة أو حتى تحويلها لقيمة سالبة، ليكون التحول إلى المصادر النظيفة مغرياً اقتصادياً للجميع على اختلاف أولوياتهم أو مستواهم الاقتصادي، فالمصادر الحالية غير النظيفة أرخص سعراً، وهذا يعود لعدم تفعيل معظم الدول لضريبة الكربون، وبالتالي الاستعداد لدفع هذا الفرق لأجل البيئة قد لا يعد أولوية بالنسبة إلى كثيرين من الأفراد والشركات والدول، نسبة إلى ما يعترضها من تحديات أخرى ربما تكون أكثر أهمية بالنسبة إليها على المستوى الشخصي، إذا ما قورنت بالقضايا العامة مهما بلغت أهميتها وتأثيرها في حياة البشرية.
يذكر أن هذا المقياس يعد مؤشراً مهماً إلى قياس التقدم من جهة، ولمعرفة مكمن المشكلة الحقيقية من جهة أخرى، وبالتالي لتوجيه الجهود البحثية الرامية لحل المشكلات إلى المكان الصحيح.