"الاستقرار على جانبي الحدود وفي كل من جنوب لبنان والمنطقة الشمالية من إسرائيل سيسود في المرحلة المقبلة". بهذه العبارة يلخص مشاركون في المفاوضات التي انتهت بالنتائج التي أفرزتها جهود الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين من وراء العمل الدؤوب الذي قام به وصولاً إلى المسودة النهائية التي وافق عليها لبنان وإسرائيل للاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
يعتبر دبلوماسي لبناني أنه بالإضافة إلى الحجج التي استخدمها هوكشتاين مع الجانبين، لتجنب أي انتكاسة في المفاوضات، مع الخشية من انعكاس رفض إسرائيل الملاحظات اللبنانية على المسودة الأخيرة، فإن العامل الحاسم في التوصل إلى الاتفاق كان أن واشنطن تريده بأي ثمن لأسباب استراتيجية تتعلق بأمن الطاقة وتصدير الغاز إلى أوروبا، راهناً وفي السنوات المقبلة، في سياق الحرب مع روسيا في أوكرانيا.
"الاستقرار" هي الكلمة المفتاح التي تفسر كيف تدرجت المفاوضات واتصالات هوكشتاين لإنقاذ الاتفاق بعدما أوحى الاعتراض الإسرائيلي على ملاحظات لبنان حول المسودة النهائية، بأنه بات في خطر.
حجج هوكشتاين ورضا "حزب الله"
الحديث عن الاستقرار بين البلدين هذه المرة يشمل "حزب الله" الذي أيد قيام الحكومة اللبنانية بالتفاوض وإنجاز الاتفاق. ويكشف مصدر دبلوماسي واكب عملية التفاوض بمراحلها كلها، أنه مع الحرص على إظهار الموقف اللبناني موحداً في اجتماعات رؤساء الجمهورية ميشال عون، والبرلمان نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي، وآخرها في 3 أكتوبر (تشرين الأول) حين اتفقوا على الملاحظات حول المسودة التي أرسلها الوسيط الأميركي في 2 أكتوبر، فإن الحزب كان مطلعاً على تفاصيل النصوص التي كان يجري تبادلها مع الوسيط الأميركي، من طريق صلة قادته الوثيقة مع عون، وعبر حليفه بري... وبالتالي هو شريك في عملية التفاوض.
واتسم موقف "حزب الله" بالليونة في 11 أكتوبر بعد معالجة هوكشتاين الخلاف على الملاحظات اللبنانية، بصياغة جديدة لبعض فقرات الاتفاق تعدل في لغته. إذ قال أمينه العام حسن نصرالله إنه "عندما يقول المسؤولون في الدولة هذا الاتفاق يُحقق المطالب الرسمية للدولة بالنسبة إلينا تمام، ليس عندنا مشكلة، وما يهمنا هو استخراج النفط والغاز... بالنسبة إلى المقاومة تكون الأمور قد أنجزت".
ويقول أحد معاوني مسؤول كبير ساهم في التحضيرات لنصوص الاتفاق من الجانب اللبناني إن الحجة الرئيسة التي استخدمها هوكشتاين مع الجانب الإسرائيلي من أجل تخطي العوائق من أمام إنجاز الاتفاق على الترسيم البحري أنه سيسمح لإسرائيل بتحقيق ازدهار اقتصادي والبدء ببيع الغاز لأوروبا كجزء من غاز الشرق الأوسط المطلوب للتعويض عن الغاز الروسي. وأضاف "الجانب الأميركي أبلغ المسؤولين في تل أبيب أن باستطاعة إسرائيل أن تستفيد فوراً من ضمان الأمن لاستثمار ثروتها النفطية والغازية ودخول سوق الطاقة، في وقت أمام لبنان سنوات كي يبدأ في هذه العملية" (كي يبدأ التنقيب والاستكشاف والحفر ثم الاستخراج والمعالجة تمهيداً للبيع). واختصر معاون المسؤول اللبناني الكبير منطق هوكشتاين بالإشارة إلى تركيزه على استقرار المنطقة الحدودية، من أجل تحقيق الفائدة الاقتصادية.
بموازاة ذلك يشير مصدر دبلوماسي إلى أن إحدى العواصم الأوروبية أبلغت لبنان أن المسؤولين الإسرائيليين يهتمون بأن يعود الاستقرار إلى لبنان وهم قلقون من تدهور وضعه الاقتصادي ومن أزمته السياسية ومن الاضطراب الأمني والسياسي الذي تسببه الانتفاضات والثورات الشعبية، وانعكاسات ذلك على الأمن فيه، لأنهم يتخوفون من نمو المناخ الذي يسهّل ذلك توجهات "حزب الله" للمس بأمن إسرائيل.
الحجة مع إسرائيل... والانتخابات
في المقابل فإن ما شدد الوسيط الأميركي عليه خلال لقاءاته واتصالاته مع المسؤولين اللبنانيين هو الاستقرار الأمني أيضاً، إذ أوضح أن إفادة لبنان من الثروة الغازية والنفطية في عرض البحر عبر ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل لن يتضمن أي تنازل سياسي. فبإمكان اللبنانيين الإبقاء على الوضع القائم الحالي أي الالتزام باتفاق الهدنة (العام 1949) مع الدولة العبرية، بحيث لا يكون هناك تطبيع معها من خلال الترسيم والبدء بالتنقيب عن الغاز والنفط من دون الانتقال إلى وضعية جديدة في العلاقات بين الدولتين. ولهذا حرص هوكشتاين على تفهم رفض لبنان أي إشارة في الاتفاق يمكن أن يفهم منها تقاسم المنافع من حقول نفطية. ولذلك جرى اعتماد المخرج بتكليف شركة "توتال" الفرنسية أن تدفع التعويضات التي طالبت بها إسرائيل عن عائدات جزء من حقل قانا الذي يقع في الجزء الإسرائيلي جنوب الخط 23 للحدود، على أن يحصل لبنان من جهته على كامل عائدات هذا الحقل، بما فيها الناجمة عن الجزء الإسرائيلي منه، والذي يشار إليه في نص الاتفاق على أنه "المكمن المحتمل" للغاز. وهي الحصة التي سبق أن تطلبت تدخل الحكومة الفرنسية لدى "توتال" حين زار هوكشتاين باريس لهذا الغرض الشهر الماضي. وقال رئيس الحكومة الإسرائيلية يائير لبيد أن قيمتها تبلغ 17 في المئة من عائدات كامل حقل قانا، وبضمانة أميركية.
وبات معروفاً أن واشنطن شجعت لبيد على المضي بالاتفاق على رغم الحملة التي شنها ضده منافسه في اليمين في الانتخابات الإسرائيلية المنتظرة في 1 نوفمبر (تشرين الثاني)، بنيامين نتانياهو مؤكدة له أن إنجازه هذا الاتفاق قبل توجه الإسرائيليين إلى صناديق الاقتراع سيعزز موقفه خلالها.
اتصال بايدن بعون
عكست التصريحات الأميركية والإسرائيلية في 11 أكتوبر، وبعد اتصال الرئيس الأميركي جو بايدن بالرئيس اللبناني ثم إعلان موافقة الحكومة الإسرائيلية المصغرة على نص الاتفاق، الاهتمام بأولوية الاستقرار في المنطقة.
فالرئيس بايدن قال لعون، بحسب البيان الصادر عن الرئاسة اللبنانية، "أريدكم أن تعلموا بأن هناك الكثير من الأمل المعلّق على هذا الاتفاق"، وأمل في أن تُحدث هذه الاتفاقية "تغييراً جيداً في حياة الشعب اللبناني".
وإذ شكر الرئيس بايدن نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب الذي كلفه عون بمتابعة الاتصالات مع هوكشتاين وعمل معه للتوصل إلى الاتفاق، الذي رأى فيه "فرصة لاستعادة الاستثمارات الأجنبية والخارجية للبنان والتي أنتم في أمسّ الحاجة إليها وهذا سيساعدكم على تعزيز فرص استغلال واستكشاف النفط والغاز في بلادكم لتحسين حياة الملايين من شعبكم". ورأى بايدن أن تنفيذ الاتفاق بحسن نية سيلعب دوراً أساسياً في تحقيق النجاح، ونحن دائماً موجودون لمساعدتكم في أي وقت تحتاجون فيه إلى المساعدة، وسنتأكد من التزام إسرائيل بجميع التزاماتها بموجب الاتفاق".
ودغدغ الرئيس الأميركي مشاعر عون الذي كان يحرص على إنجاز الترسيم قبل نهاية ولايته للتأكيد على أنه حقق أمراً مهماً في وقت يمطره خصومه بالتهم بأنه سبب رئيسي للأزمة الاقتصادية المالية التي يمر فيها لبنان بقوله "أعلم أنكم في نهاية ولايتكم، لذا أؤكد أن ما قمتم به والحكومة اللبنانية يظهر مدى جديتكم ونتمنى أن نستمر في هذا المجال". ولم يفت بايدن أن يتمنى أن "تجرى الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد وبموجب الدستور، وأن تتمكنوا من تأليف حكومة قادرة على استعادة ثقة شعبها قبل كل شيء، وقادرة على تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية اللازمة للبلاد وأن تعتمد مبدأ الحوكمة الجيدة". ووصف الاتفاق على الترسيم بأنه "بداية لتحقيق كل هذه الأمور".
أما الرئيس عون الذي شكر هوكشتاين وسائر من ساهموا في التوصل للاتفاق فاعتبر أن "إنجاز الاتفاق سينتشل لبنان من الهاوية التي أسقِط فيها".
ومن الجهة الإسرائيلية وصف لبيد الاتفاق بالتاريخي. ونقل عن رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلي "الموساد" دافيد برنياع، الأربعاء 12 أكتوبر، قوله إن الاتفاق بشأن ترسيم الحدود "يضر بحزب الله، ومن يزعم أن ترسيم الحدود البحرية إنجاز للحزب لا يفهم الوضع في لبنان".
تقدم الأبعاد الاستراتيجية على ملاحظات لبنان
وإذا كان الجانب اللبناني يتجنب على المستويين الرسمي والسياسي التسليم بأن الاتفاق ينهي نزاعاً حدودياً مع إسرائيل، لأنه يقود لاحقاً إلى نزع ذريعة مواصلة احتفاظ "حزب الله" بسلاحه وصواريخه، فإن بقاء الحدود البرية من دون ترسيم كامل يجعل هذا الاستنتاج معلقاً إلى حين، خصوصاً أن إحدى الملاحظات اللبنانية على الاتفاق كانت رفض اعتبار العوامات التي وضعها الجانب الإسرائيلي في عرض البحر للدلالة على الخط 23 وإحداثياته الذي أصر عليه لبنان، على أنها نهائية، لأنها تنطلق من نقطة في اليابسة متنازع عليها. ورفض لبنان في ملاحظاته هذه النقطة مطالباً بتغيير مواقع هذه العوامات، واعتراضه على استخدام تعبير "الستاتيكو" أثار الجانب الإسرائيلي، لكن هوكشتاين عدل في الملاحظة اللبنانية وقام بتلطيفها في الصياغة اللغوية، فاعتبر أن المنطقة المتنازع عليها قابلة للتفاوض في الوقت المناسب بالتنسيق مع قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان التي تقوم بتحديد النقاط موضوع النزاع بين البلدين (بقي منها 7 نقاط بينها النقطة الساحلية).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكشف مصدر لبناني واكب المفاوضات لـ"اندبندت عربية" أن هوكشتاين كان سلم مسودة الاتفاق إلى بو صعب منذ زمن، خلال لقائه به في نيويورك حين التقيا على هامش مشاركة الوسيط الأميركي في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 21 سبتمبر (أيلول) الماضي. وأتيح للمسؤولين في حينها أن يطرحوا الملاحظات التي أثاروها، لكنهم أجلوا معظمها إلى ما بعد تسلمهم النص النهائي، فطرحوا ملاحظاتهم الأخيرة.
في كل الأحوال، تقدمت الأبعاد الاستراتيجة للاتفاق على الخلافات التي ظهرت في الملاحظات التي أرسلها لبنان في 4 أكتوبر والرفض الإسرائيلي لها في اليوم التالي. استنفر هوكشتاين لمدة خمسة أيام وصل فيها الليل بالنهار لتلطيف تلك الملاحظات، وتعديل بعض الألفاظ، حتى إعلانه بطريقة حاسمة في 9 أكتوبر خلال اتصال أجراه مع الرئيس عون أن "جولات النقاش ختمت وتم تحديد الملاحظات"، قبل إرساله النص النهائي الذي وافق عليه لبنان وأقرته الحكومة الإسرائيلية المصغرة في 12 أكتوبر.
تعديلات في الألفاظ لاستيعاب الرفض الإسرائيلي
لكن مهمته لم تقتصر على تغيير الألفاظ، بل استنفر معه فرنسا من أجل إبلاغ المسؤولين اللبنانيين أن النص على تولي شركة "توتال" التعويض لإسرائيل عن عائدات الجزء من قانا الواقع في منطقتها الاقتصادية الخالصة لا يلزم الدولة اللبنانية بشيء بعدما طلب شطب النص على هذا التعويض حتى لا يكون لبنان معنياً به، فنص الاتفاق على أن لبنان "ليس مسؤولاً أو طرفاً في أي ترتيب". كما أن اعتراض لبنان على الفقرة المتعلقة بعدم تلزيم شركات خاضعة للعقوبات الأميركية استثمار أي من الحقول جرى أيضاً تلطيفها بالإشارة إلى العقوبات "الدولية" و بألا "تعيق استمرار التسهيلات الأميركية"، حيث أكد لبنان لهوكشتاين بأنه لن يغامر بالتعامل مع شركات خاضعة للعقوبات.
كما جرى تطمين الجانب الإسرائيلي عبر رسالة ضمانات أميركية بأن واشنطن تلتزم أمن إسرائيل في حال حاول "حزب الله" الاعتراض على الاتفاق لاحقاً.
والبارز في النص أن الجانب الأميركي سيبقى راعياً للاتفاق، وستعود الدولتان إليه لا سيما إذا اكتُشفت حقول نفطية جديدة أو جرى التباس حول كيفية تنفيذ النص. وهذا يعني أن أميركا ستبقى راعية التنفيذ إلى أمد طويل، بالتالي سيكون لها دور في المراحل التالية من تبلور قطاع الطاقة في المنطقة وفي لبنان.