يصعب علي نسيان ذلك، لكن الكلام عنه يفوق مجرد القدرة على التذكر! آنذاك، أحسست أن الأقدار تقسو علي، مع كل الاعتذار لمقولة الكاتب باولو كويلو في رواية "الخيميائي" عن أن إرادة الإنسان العميقة تطوع مسار الحوادث.
عم أتحدث؟ لعل الكلمات سبقتني قليلاً. لنضبط إيقاع الكلام قليلاً أيضاً. لم تكن مرت علي سوى أيام قلائل حينما توليت أمر العيادة المجمعة لـ"وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (الأونروا)، في مخيم نهر البارد بشمال لبنان، حينما كتب علي أن أواجه اندلاع موجة كوليرا في ذلك المخيم. لم تكن الكوليرا مألوفة آنذاك، بل بدت بالنسبة إلى كثيرين كأنها زالت، أو أنها جزء من تاريخ قديم كانت المجتمعات تقف فيه بلا حول ولا قوة حيال الأوبئة، حين حملت الكوليرا اسم "الهواء الأصفر" Yellow Air.
حدثت تلك الموجة من الكوليرا في مخيم نهر البارد، متداخلة مع انتشار لها في عكار وبعض قرى الشمال اللبناني، في مطلع التسعينيات من القرن الماضي. لم أكن سوى طبيب عام بخبرة بسيطة تماماً، إذ لم ينقض على تخرجي سوى سنوات أقل من عدد أصابع اليد الواحدة، لكن وضعي كمسؤول مجمع عيادات الأونروا في ذلك المخيم، جعلني مسؤولاً عن حماية بضع عشرات آلاف الأرواح. بالطبع، أمدتني الأونروا فوراً بكل ما يلزم لمواجهة الوباء، سواء في الأدوية أو الفحوص أو الخبرة الوبائية التي حملها إلي صديق كان يترأس قسم الطب الوبائي في تلك المؤسسة الدولية. في المقابل، أثناء موجة وباء، تكون الأمور معقدة فعلياً لمن يواجهونها على مدار الساعة ويعايشون لحظة بلحظة أوضاع السكان الذين ينتشر في صفوفهم الوباء. [تذكير بأن الممرضات والصيادلة ومهنيي المختبر ومن يتولون توعية الناس بالوباء ومواجهته، يشكلون جنود الصف الأول الذين يقفون في خطوط المواجهة الأولى مع الوباء].
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شاشات هوليوود ترسم "الهواء الأصفر"
بعد سنوات كثيرة، سأشاهد على الشاشات الفيلم الهوليوودي "القناع المرسوم بالطلاء" The Painted Veil مع أداء مبهر للممثل إدوارد نورتون في دور طبيب إنجليزي شاب يواجه موجة كوليرا في قرية صينية صغيرة ونائية. تطاول الكوليرا ذلك الطبيب الذي أصيب بخيبة حب مستحيل مع زوجته الجميلة اللعوب (أدت دورها ناعومي واتس)، قبل أن تصل إليه جرثومة الوباء، وتفتك به. وفي عشرينيات القرن الـ20، وهو الزمن المتخيل لحوادث الفيلم، كانت الكوليرا محتفظة بكامل هيبتها كوباء عضال لا دواء شافياً له. يقضي الطبيب البريطاني بضربتي الوباء والحب الخائب، لكن بعد أن ينجح في إمداد القرية بماء نظيف للشرب عبر شبكة من قصب البامبو الصيني. في ذلك الوقت، وفق الرواية، لم يكن من علاج للكوليرا سوى شرب الماء النظيف، والنظافة العامة والشخصية، والتعامل بصبر مع القيء الشديد المتكرر والارتفاع المستمر في حرارة الجسد.
في مخيم نهر البارد أثناء مطلع التسعينيات من القرن الـ20، لم يكن الوضع مأسوياً على النحو الذي صوره ببراعة ذلك الفيلم الهوليوودي عن الصين الخاضعة للسيطرة البريطانية في عشرينيات القرن نفسه. استنفرت كل الأيدي التي يمكن أن تواجه الوباء، كأساتذة المدارس الذين شاركوا في توعية الناس بأهمية غسل اليدين تكراراً، والتحوط لنظافة الخضار والفواكه، والحرص على شرب ماء نظيف نقي بما في ذلك غليه ثم تركه ليبرد أو تعبئته في زجاجات تترك ساعتين أو ثلاث تحت الشمس. وكذلك فرضت نوبات جمع قمامة إضافية، كي لا تتراكم فتصبح بؤرة تتكاثر جرثومة الـ"فيبريو كوليرا" Vibrio Cholera، وتنتشر عبر الملامسة المباشرة أو بانتقالها إلى المياه.
جرى إفهام سكان المخيم أن الكوليرا لا تنتقل بالهواء، على رغم اسمها القديم المرعب، بل عبر تلوث الخضار والفواكه والمأكولات عموماً، بمياه وصلتها جرثومة الكوليرا، إضافة إلى انتقالها المباشر عبر أيد لم يعتن بغسلها جيداً بالماء والصابون. ولأن الوباء شأن يطاول مجموعات سكانية، تداعت المؤسسات الصحية والطبية في المنطقة، خصوصاً في عكار. وجرت لقاءات واجتماعات موسعة للجمعيات الأهلية والمستوصفات العامة وممثلي هيئات الطب والتمريض والمستشفيات وغيرها.
لعل إحدى أهم النقاط التي وجب توضيحها في سياق موجة الكوليرا، هو ألا يعتبر الناس أن كل من تظهر عليه أحد الأعراض المعروفة عن الكوليرا، يكون بالضرورة مصاباً بها. مثلاً، ليس كل من يصاب بموجة قيء أو حرارة أو أوجاع في البطن، يكون مصاباً بالكوليرا.
ثمة مفارقة مهمة في ذلك التنبه. هنالك فيروسات كثيرة من الأنواع التي قد تتسلل إلى أمعاء الإنسان، تسبب أعراضاً مشابهة للكوليرا. في المقابل، وعلى العكس من ذلك تماماً، تكون النصيحة الطبية أنه في سياق موجة وباء من مرض معين، يجدر التفكير في كل من تظهر عليه أعراض تتصل بذلك المرض، بأنه قد يكون مصاباً إلى أن يثبت العكس! بديهي القول إنه كلما كثرت الأعراض المشابهة للمرض الوبائي، يرتفع مؤشر الشك في الإصابة بالوباء. إنه وضع متناقض تماماً. يجب الاحتفاظ بأقصى الشك، لكن مع الاستناد إلى كل الطمأنينة بأن ليس كل من يعاني أعراض المرض الوبائي يكون مصاباً به!
لقد أثارت تلك النقطة مفارقات وإشكالات شتى. وتوجب على الطواقم الصحية التي تلقت أيضاً معلومات مكثفة عن الوباء، أن تستخدم كل طاقتها العلمية والمعرفية كي لا يختلط "قمح" تشخيص الإصابة مع "زوءان" الإصابات بالفيروسات الشبيهة بالكوليرا.
المضادات الحيوية دواء وليست حلاً!
ثمة نقطة أخرى أثارت لغطاً لم يخل من التوتر أحياناً، بين أطقم الرعاية الصحية، خصوصاً الطبيب المسؤول عن عيادة المخيم، وبين أسر من تظهر عليهم أعراض وبائية. تحديداً، تتعلق تلك النقطة باستعمال المضادات الحيوية "أنتيبيوتيك" Anti Biotic. إذ تسبب الكوليرا جرثومة من النوع المسمى "سلبي التلوين" Gram Negative [تكون حمراء تحت الميكروسكوب العادي]، ويمكن علاجها بسهولة بواسطة مضادات الحيوية. في المقابل، يجب الحذر من الإفراط في استخدام مضادات الحيوية لأنها قد تفقد فاعليتها حيال الجرثومة.
كيف يمكن التوفيق بين هذين النقيضين؟ كيف يمكن إخبار عائلة ما أن طفلها الأعز الذي يعاني حرارة مرتفعة ونوبات قيء وإسهال متكرر، وقد بات على شفا معاناة الجفاف بأثر من فقدان السوائل والأملاح، [إخبارها] أنه لن يحصل على مضاد حيوي، إلا بعد التثبت في المختبر من إصابته بالكوليرا؟
في ذلك المنحنى، برز دور محلول تعويض السوائل الذي توفره "يونيسف". ويتوفر على شكل بودرة في كيس شبه معدني، تذوب محتوياته في الماء بسهولة. ويعطى لمن يعاني القيء والإسهال كي يعوضه عما يفقده من سوائل وأملاح، خصوصاً الصوديوم (الملح) والبوتاسيوم، إضافة إلى بعض كربونات الصودا التي تسهم في إعادة التوازن إلى التركيب المائي الداخلي للجسم، أي التوازن بين المكونات الحمضية والقلوية فيه، لأن ذلك التركيب يختل مع القيء والإسهال والحرارة. وآنذاك، بذل الممرضون والعاملون الاجتماعيون والمدرسون جهوداً في تعليم الناس كيفية استخدام سائل الإرواء وتعويض السوائل [اسمه علمياً آنذاك "المحلول الفموي لإعادة إرواء الجسم" Oral Rehydration Salt، واختصاراً "أو آر إس" ORS].
كذلك استنفرت مستشفيات طرابلس والشمال، خصوصاً عكار. وفتحت أبوابها أمام الإصابات الشديدة. وأفردت أسرة وأقسام لعلاج من تصل درجة فقدانه السوائل إلى حد إصابته بالجفاف الشديد. ومن علامات الجفاف، سهولة تجعد الجلد وصعوبة عودته إلى شكله الأصلي، وجفاف الفم واللسان واكتسائهما بطبقات بيضاء كثيفة. وشددت الاجتماعات المشار إليها آنفاً على مسألة النفايات المنزلية، وجمعها بطريقة صحية، ودور البلديات في جمع القمامة من المنازل ورفعها عن الشوارع، والتخلص منها بطرق سليمة وما إلى ذلك.
آنذاك، لم تحصل وفيات في مخيم نهر البارد، ولا في منطقة عكار كلها.
لكن الأوبئة إن لم تمت، فإنها تخلف آلاماً وضربات عميقة وتخلخل الإحساس بالأمان البديهي، وتترك ذكريات يصعب استعادتها من غير أنين وألم.
لمن يريد الاستزادة عن الكوليرا ونوبات تفشيها باللغة العربية، يمكن الرجوع إلى موسوعة "ويكيبيديا" على الرابط التالي
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%83%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%B1%D8%A7